تعرّض النظام السياسي المغربي في بداية السبعينيات من القرن الماضي لمحاولتين انقلابيتين لم يُكتب لهما في التاريخ أيّ نجاح يذكر، وكانت الملكية مستهدفة فلم تسقط، رغم أن الضحايا في المحاولة الأولى (1971) كانوا بالعشرات، وفي الثانية (1972)، نجا الملك الحسن الثاني، وهو في الجو فوق مدينة تطوان، من هجوم مباغت قامت به طائرات نفّاثة أخطأت هدفها فلم يُصَب بأذى. ومع ذلك، النتائج المترتبة عن المحاولتين، بصرف النظر عن عدد الضحايا والخسائر المادية والأسباب المباشرة، غيَّرت كثيراً، في تقديري، من طبيعة الاعتقادات الراسخة، ذات الطبيعة القدرية، التي آمن بها الجيش، وقلبت جملة من المفاهيم التي اعتمدها النظام لضمان الاستقرار والتحكم والاستبداد، وأوجدت على صعيد المجتمع حالات من التململ عبّرت عن طبيعة الصراع المحجوز، بفعل “حالة الاستثناء” منذ 1965، الذي كان يتفاعل في بنياته وبين فئاته المتضرّرة من الاختيارات الاقتصادية والسياسية المسنونة على كثير من الأصعدة المرتبطة بحياتها. والواقع أن ذلك جرى بدرجات مختلفة، وربما كان بحسب طبيعة “الوعي المُنَظَّم”، على محدوديته، المرتبط هو نفسه بالتنظيم السياسي على صعيد المجتمع، فكانت النتائج وردود الأفعال التي نتجت عن ذلك متنوّعة أيضاً لها تجليات مختلفة: تزايدت دوائر المعارضة، وتقوّت راديكالية الشباب الجامعي، وظهرت بوادر النهوض في القطاع العمّالي، وتآلفت مجموعات سياسية في حركات كفاحية استرعت الاهتمام بالعمليات العسكرية التي جَرَّبَت إطلاقها في بعض المناطق، هذا إلى انتفاضات فلاحية محدودة ضد ما عُرفوا بـ”المعمّرين الجدد” الذين كانوا قد استولوا على أراضٍ زراعية مسترجعة. أما ما عرف بـ”اليسار الجديد” فكان، في المناخ الذي أحاط بكل ما ذكرنا، دافعاً لبروزه المتوثب الصارخ، وإنْ على نحو هامشي، وأيديولوجيته نخبوية تحتاج إلى تنظيم “حديدي” له استراتيجية حربية، يكون من أهدافها، على المدى الطويل، القيام، عبر الحرب الشعبية طويلة الأمد، الرائجة في الأدبيات السياسية والنظرية في ذلك الوقت، تحقيق ما تعجز عنه الانقلابات العسكرية الفورية عن طريق الجيش وضرباته الحاسمة في وقت قياسي.
أريد القول بهذا أيضا، وهو الأهم، أن المنظومة الأيديولوجية التي اعتمدها النظام السياسي لتبرير وجوده من خلال المفاهيم المتداولة كالاستقرار، والثبات، والسلم، والاستثناء، والعراقة، والسلالة، وكل ما هو في حكم التأويل السياسي والديني، دالٌّ على الجبْر والقدرية والتسليم، مع الاستخدام التكنولوجي، أو الصناعي، أو الآلي، وخصوصاً من خلال ميكانيزمات الخطاب الإقناعي الذي يتمنطق بالدين ويحيل على التراث والأمجاد التاريخية والبطولات المختلفة… إلخ، قد تزعزعت، لأنها أصيبت في مبدأ يسمّى “القناعة”، يقوم عليه الإيمان الشخصي الصارم تقريباً بما لا يمكن بلوغه وتملكه والسيطرة عليه، فيكون التسليم بوجوبه هو الإمكان وَمُنَازَعَة سَطْوته، إن كانت له، هي التحدّي، والمخالفة، والخروج عن الطوْق، واعتماد القوة، وخصوصاً التي تملكها وتستخدمها الدولة الاستبدادية. زد على ذلك أن “القناعة” تعتبر، في التفسير اللاهوتي المُوحِي، بغائية الأشياء المتصوّرة، لا بحقيقتها الفعلية، بما لا مثيل له، ولا يوجد أصلاً في الواقع العياني لأنه متصور ومستهام في المثال المُرتجى، بالمعنى الذي يفيد عند بعضهم (الاستغناء بالموجود، وترك التشوف إلى المفقود). ولهذه القناعة أكثر من رتبة، فهي قد تكون كنزاً، ودليلاً على قوة، وَقَضَاءً بِتَرْكٍ، ورضا لا يُعَوَّض، وَنَوَال العِزِّ، وغير ذلك مما لا يمكن حصره. أما الإمساك بدلالتها فَصَعْبٌ لأنها هُيَامٌ تجعل من استبدَّت به في خضوع لا يمكن أن يتحرر منه كصعوبة تحرر العاشق من “جنونه”.
انتهت الثورة إلى مأزق، وفشل الانقلاب، وسادت الأزمة… في انتظار دورة تاريخية جديدة
وأختم هذا بالقول: إن لذلك كله آليات مستحدثة، وأنظمة مقررة، تستفيد من مختلف التطورات الضامنة للسيطرة التامة، تلك التي تتمنطق بسرديات تبريرية لها مضامين تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية عامة. وقد لا يكون لذلك أي دور إلا إذا قام وارتبط بالوسائط السمعية البصرية، فهي التي تبثّ الخطاب، وتشرح المضمون، ولو أنه لا يحتاج شرحاً، وتعمل على نشره بين الناس، والإلحاح عليه حتى يرسخ في العقول.
والحال أنه لو طبقنا هذا على المغرب، ويمكن توسيعه ليشمل باقي الدول المغاربية، لوجدناه، من حيث السياق، مرتبطاً بفترة كان فيها الفكر القومي العروبي الطليعي في المشرق قائماً ومتحفّزاً وسائداً في بعض الأقطار، بالإضافة إلى أنه كان متبلوراً يسعى إلى الانتشار والتأثير من خلال شعاراته الحارّة المتعلقة بالحرية والوحدة والاشتراكية… إلخ، أي بـ”أيديولوجية النهوض” التي جعلت منها بعض دول المشرق (مصر، سورية، العراق…) والمغارب (الجزائر، ثم ليبيا…) سلاحاً من أسلحة الثورة على الأوضاع القائمة بالمعنى الذي كانت تراه للأمْرَيْن معاً: طبيعة الأوضاع ومفهوم الثورة نفسها.
وقد تُرْجِمَ ذلك في مختلف البلدان المشار إليها انطلاقاً من التصوّر “اليعقوبي” المُعَرَّب والمُدمج، من الناحية الأيديولوجية، في الأنساق العامة التي تتحكّم وتوجه كل فعل، وذلك، بطبيعة الحال، حسب السياق المحلي، وطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع، وقوة التأثير والتنظيم والتجنيد التي تكون عادة لمن يسهر ويُسَيّر الأجهزة المشرفة على ذلك.
عندما استقر النموذج الوطني المشبع بأحلام الازدهار والتقدّم، بعيد الاستقلال، استقرّت معه مختلف التناقضات المُوجِبة لجميع أشكال الصراع على صعيد الدولة وفي بنية المجتمع
ولهذا برزت ونشطت، في فترة من فترات التطور التاريخي في المغرب، وفي باقي الدول المغاربية، أفكار ولدتها حركات شبابية تدعو إلى التغيير والثورة وغيرهما من شعارات الانعتاق من التخلف والاستبداد والتحكّم… إلخ. ولكن الذي لا يُفَسَّر، على الوجه الذي أراه منطقياً ونابعاً من الخصوصية المجتمعية ذات السياق الخاص في تأويلاتٍ كثيرة، أنَّ تلك الأفكار مطروحة ضمن ما يمكن تسميته التراكم الوطني، والذي كان يعني أن جيل الحركات الوطنية التحريرية المغاربية هو الذي مهد للتطورات الأساسية التي عرفتها بلدانها غداة الاستقلال، لأنها أدركت، بمعنى ما، في شؤون الممارسة السياسية الداعية للإصلاح أو للاستقلال، التناقض الذي كان لها مع الاستعمار حين أفرغ المفاهيم المتعلقة بالسيادة والتحرر والبناء الخاص المبني على التراكم الاقتصادي في المجتمع التقليدي، من المضامين المشبعة بالروح الوطنية والدينية والقَبَلِيّة كذلك.
وما حصل، في مجرى التطور، أن الوعي التاريخي لدى النخب الوطنية بأهمية تحقيق الاستقلال، وبغيره من الأهداف المرتبطة به، هو نفسه لم يحقق استقلاله الفكري والأيديولوجي الخاص عن النموذج التاريخي الفعلي، لا المُستهام، المتبلور في إطار الرأسمالية الدَّولية (الفرنسية بالخصوص) والذي غرسه الأجنبي في تُرْبَة المَحَلي فأنتج: نظاماً اقتصادياً تبعيّاً، مصالح فئوية قوامها المنازعة، حدوداً جغرافية غير تامة وغير مضبوطة (سيادة منقوصة)، نماذج ثقافية وتربوية ولغة متطوّرة صارت لها الغلبة في التواصل والمعاملات… إلخ.
وعندما استقر النموذج الوطني المشبع بأحلام الازدهار والتقدّم، بعيد الاستقلال، استقرّت معه مختلف التناقضات المُوجِبة لجميع أشكال الصراع على صعيد الدولة وفي بنية المجتمع. وكفكرة عامة أعرضها هنا للاستئناس، قبل أن أطورها لاحقا: أنَّ الزعيم الوطني علال الفاسي لم يشارك مثلاً في المفاوضات التي جرت مع الفرنسيين لبحث ما سمّي في وقته “الاستقلال ضمن الاستقلال الذاتي L’independence dans l’interdependance، بينما ساهم فيها المهدي بن بركة إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد بجهد. بل ويمكن القول إن اعتراف بن بركة بالأخطاء الثلاثة القاتلة (منها الاستقلال الذي اعتبره غير تام أو شكلياً)، ثم عَرَضَ، في مقابل ذلك، ما أسماه “الاختيار الثوري”، كان، في الحقيقة، يفتح الطريق، من الناحية الأيديولوجية، لتشريع العنف والانخراط في أتون الحرب الباردة من موقع نضالِ “القارات الثلاث، ودعوةِ قوى ثورية وانقلابية لاحتلال الصفوف الأمامية في المواجهة المطلوبة لتحقيق التغيير المنشود. ألا يمكن القول إنه كان يُعَوِّل على الانتفاضة المسلحة وعلى الجيش معا (الانقلاب)؟
كانت الملكية المغربية قد أصبحت، في بدايات السبعينيات، متنفذة، أو تنفيذية، وَحِيدَةً تقريباً في مواجهة مختلف الزوابع التي هبّت عليها من الخارج
لا يجب أن يُنسى أن الملكية المغربية كانت قد أصبحت، في البدايات الأولى للسبعينيات، متنفّذة، أو تنفيذية، وَحِيدَةً تقريباً في مواجهة مختلف الزوابع التي هبّت عليها من الخارج (الفكر القومي العروبي، والفكر الماركسي الشيوعي واللينيني، والفكر الانقلابي…) على اختلاف (وتنوّع) الحركات التي قادت ذلك في شروط معينة لم تكن مؤاتية بتاتاً، ولم تَجْنِ منها، كما لم يَجْنِ المجتمع، إلا الهزيمة والتراجع واليأس في أحيانٍ كثيرة. ثم إنها لم تتمكّن بعد ذلك، بسبب التغيرات التي مسّت أبنيتها وشعاراتها والأيديولوجيات التي تمنطقت بها، من تحقيق أيٍّ من البرامج التي وعدت بها على امتداد أربعة عقود من الزمن والصراع.
وحقيقة هذا، على سبيل الاستخلاص المباشر، أن المناضل الفقيه محمد البصري الذي تمثل، بالعلاقات المختلفة التي كانت له مع الدول القومية في المشرق، وبالدور النضالي البارز الممتد في الزمن من أجل القضاء على النظام القائم، وبالأخطاء السياسية المرتكَبة، والتصورات الأيديولوجية المطلقة، انتهى به المصير المُحزن، وهو المحكوم أكثر من مرة بالإعدام، عائداً إلى المغرب مخذولاً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً. لقد انتهت الثورة إلى مأزق، وفشل الانقلاب، وسادت الأزمة… في انتظار دورة تاريخية جديدة.
المصدر: العربي الجديد