هل سترمّم الديمقراطية جسد الصومال الممزّق؟

نبيل البكيري

مفاجأة ديمقراطية مهمة في توقيتها تأتي هذه المرّة من القرن الأفريقي، من “صومالي لاند” تحديداً، الجمهورية الانفصالية الصغيرة غير المعترف بها دولياً، حيث فاز فيها زعيم المعارضة الأبرز، عبد الرحمن محمد عبد الله عيرو، برئاسة هذه الجمهورية التي تبحث لها عن مكان تحت الشمس منذ إعلان ولادتها المتعسرة في 1991. فبعد انهيار النظام الصومالي بقيادة الرئيس محمد سياد بري، ذهب صوماليو الشمال إلى إعلان استقلالهم من طرف واحد، لكن أحداً لم يعترف، ثلاثة عقود بجمهوريتهم، وبقي العالم يتعامل مع جمهوريتهم هذه كيان حكم ذاتي ضمن الدولة الصومالية الفيدرالية، وهو ما صعب عليهم مهمّة الاستقلال، وجعله استقلالاً مع وقف التنفيذ في ما يتعلق بعضوية هذه الدولة الانفصالية الوليدة بالنظام الدولي، ما أبقاها حالة خاصة عالقة، ولم تلق أي اعتراف، رغم ما بذلته من جهود كبيرة بحثاً عنه.

جمهورية صومالي لاند، وهي الجغرافيا التي كانت ترزح تحت الاستعمار البريطاني، وكان يُطلق عليها الصومال الإنكليزي، والتي غادرها المحتلون البريطانيون عام 1960، ومن ثم جرى إعلان عن استقلال شمال الصومال عدة أيام قبل إعلان وحدتها من الصومال الجنوبي تحت قيادة الزعيم الصومالي الكبير، آدم عبد الله عثمان، الذي حكم بين 1960 و1967، وغادر السلطة إثر هزيمة انتخابية أمام رئيس وزرائه حينها، عبد الرشيد شارماركي، مؤسّساً تقاليد ديمقراطية حقيقية، هي الأولى ربما في دول العالم الثالث كلها.

لافتُ في تجربة “صومالي لاند” المعزولة دولياً ديناميكية مشهدها السياسي، فمنذ إعلان استقلالها من طرف واحد ظلت محافظة على تقاليد ديمقراطية واضحة وصارمة منذ لحظة إعلان انفصالها عام 1991، حيث تعاقب على حكمها قبل الرئيس المنتخب الجديد خمسة رؤساء يأتون ويذهبون عن طريق انتخابات حرّة ومباشرة، وتعزيز هذا العرف الديمقراطي للانتقال السلمي للسلطة عزّز هذا المسار، ما شكّل ممانعة كبيرة لظهور أي محاولة استبدادية، كالتي حاولها الرئيس المنتهية ولايته السابق، موسى بيحي، في أثناء حكمه. والرؤساء الذين تعاقبوا على رئاسة هذا الإقليم الانفصالي، هم عبد الرحمن الطور (1991 – 1993) ومحمد إبراهيم عقال لفترتين انتخابيتين (1993 – 2002) وطاهر ريالي فترتين أيضاً (2002 – 2010) وأحمد سيلانيو فترتين (2010 -2017)، والرئيس المنتهية ولايته موسى بيحي (2017 – 2024).

منذ إعلان استقلال “صومالي لاند” من طرف واحد ظلت محافظة على تقاليد ديمقراطية واضحة وصارمة

بالعودة إلى الانتخابات التي انتظمت أخيراً، والنتائج المترتّبة عليها، فربما أنها تؤسّس لمرحلة جديدة من السياسة، ليس في “صومالي لاند” وحدها، وإنما على مستوى الصومال كله ومنطقة القرن الأفريقي عموماً، لما يمتلكه الرئيس الفائز من شخصية هادئة وتوافقية وغير صدامية، وهذا النوع هو ما تفتقر له الحالة الصومالية عموماً، وهي بأمس الحاجة لقيادات وطنية مسيّسة تدرك تعقيدات المنطقة واللحظة الدولية والإقليمية والمحلية جيداً، بعكس شخصية موسى بيحي الذي فجرت سياساته مزيداً من الأزمات والاضطراب في منطقة في غنىً عن مثل هذه الأزمات والحروب والصراعات أصلاً.

أصبح تعزيز الحياة السياسية والتعددية الحزبية في الصومال المدخل الأساسي لأي حلول ومعالجات مطلوبة للدفع بالصومال كله إلى التعافي وتجاوز أثار الحروب والصراعات والانقسامات التي لا تزال السمة البارزة للجغرافيا الصومالية. والأخطر أن هذه الانقسامات تجري شرعنتها بعيداً عن الاشتغال السياسي البنيوي للدولة ومؤسّساتها، وإنما يجري تكريس واقع الانفصالات والفدرالية بعيداً عن استعادة مؤسسات الدولة السيادية التي تضمن سيادة البلاد ككل، وتحمي أراضيها ووحدة ترابها المقسم.

العملية السياسية التي يجري تعزيزها في كل المحطات الانتخابية في “صومالي لاند”، ينبغي البناء عليها وجعلها مسارأً مركزياً في صناعة السياسة الصومالية ككل، شمالاً وجنوباً، وينبغي حضورها بقوة في أي عملية نحو استعادة البلاد سيادتها واستقلالها، وهو ما تمثله تجربة صومالي لاند حالياً، حيث تحضر الحياة الحزبية بقوة والانتخابات الحرّة والنزيهة والدورية والمنتظمة، وهو ما ينقص بقية المشهد الصومالي في الطرف الأخر.

قيم الحوار والتفاهم وقيم الشراكة والتعايش هي ما يجب أن تكون وحدها أدوات إدارة الأزمات المتفاقمة

تعزيز الحياة السياسية وتشجيعها هو الطريقة المثلى في أي عملية إعادة بناء للمجتمعات المدمّرة، أو مجتمعات ما بعد الحرب، كما هو الحال في الصومال اليوم، وفي كثير من دول الجوار، كاليمن وليبيا والسودان وغيرها من مجتمعاتٍ شهدت ولا تزال حروباً أهلية طاحنة، لأن الدمار الأكبر في هذه المجتمعات ليس للأشياء فحسب، وإنما للإنسان ومنظومته الفكرية والثقافية والقيمية التي طاولها التشوّه والخراب الكبير، ما أفقده القدرة على التمييز وسلبه الإيمان بكثير من الأفكار والمسمّيات، والتي في مقدمتها تراجع إيمانه بفكرة الدولة أساساً والجمهورية والديمقراطية والانتخابات والسياسة بشكل عام.

ما تمثله التجربة الديمقراطية الانتخابية في “صومالي لاند” مكسب كبير للمنطقة، باعتبارها بارقة أمل تعمل على استعادة ثقة الناس بالأفكار السياسية وقيم الحوار والتفاهم والقبول بالأخر والشراكة في إطار المجتمع الواحد، وثمة آليات وأدوات يمكن من خلالها حلول المشكلات، فليس السلاح الخيار الوحيد الموجود للتعاطي مع المشكلات، كما في المجتمعات المتصارعة اليوم، ومن ثم، أي تجربة ديمقراطية في المنطقة هي بصيص أمل ويجب أن يُبنى عليها وتدعيمها للاستمرار والبقاء في وجه كومة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبيرة التي باتت تهدّد مجتمعاتنا ومنطقتنا على حد سواء.

قيم الحوار والتفاهم وقيم الشراكة والتعايش هي ما يجب أن تكون وحدها أدوات إدارة الأزمات المتفاقمة في منطقتنا التي أُغرقت في حروب طاحنة دمّرت الأخضر واليابس، وإن ترك الخيار للشعوب لتقرر مصيرها بنفسها المخرج الوحيد لكل الأزمات التي تغرق فيها المنطقة، والديمقراطية ولو في حدودها الدنيا يمكنها أن تبقي المجتمعات في حالة حوار متواصل، حتى الوصول إلى حلول مناسبة وممكنة وتوافقية تضمنها الديمقراطية التوافقية نفسها.

يؤمل أن تساهم التجربة الديمقراطية في “صومالي لاند” بتعزيز الثقة بالآليات السياسية الديمقراطية في بيئةٍ فقد الناس فيها الثقة بكل شيء

ما تريد هذه المقالة قوله إن الانتخابات الديمقراطية أخيراً في “صومالي لاند”، والتي فاز بها زعيم المعارضة، ليصبح رئيسا في جزء من بلاد ممزّقة، وطال أمد انقسامها بفعل غياب العقل السياسي الناظم للأمة الصومالية التي هي بحاجة ماسّة لتلمّس طريق التغيير واستعادة الدولة بعد أكثر من ثلاثة عقود من التيه وعدم التعافي لدولة ووطن يمتلك كل مقومات التعافي الشامل ومقدّراته، لكنها واقفة في مكانها ولم تتقدم خطوة إلى الأمام.

تقرير مصير الشعوب وحدةً وانفصالاً حق مشروع للشعوب، وليس للنخب السياسية وحدها، يجب أن تتوفر له كامل الظروف السياسية المناسبة لتقريره، ولا يجب أن تنفرد به نخبة سياسية بعينها، فهذا مصير شعبٍ وأمة لا يجب أن يرهن ذلك بفرد محكوم بنوازعه ومصالحه الخاصة وتقديراته القاصرة أحياناً. وبالتالي، وحده المسار الديمقراطي كفيل بإنضاج ظروف أنسب لاتخاذ قرارات مصيرية على مستوى الوطن الصومالي كله، وإن كل الخلافات والصراعات السياسية المدخل الوحيد لحلولها هو الحوار الوطني الشامل على قاعدة المصلحة القومية العليا للأمة التي تقرر مصيرها بنفسها.

وختاماً، يؤمل أن تساهم هذه التجربة الديمقراطية في تعزيز الثقة بالآليات السياسية الديمقراطية في بيئةٍ فقد الناس فيها الثقة بكل شيء، وأن تُعمّم هذه التجربة على كامل الأرض الصومالية التي تقف اليوم في مكانها من دون تقدّم إلى الأمام بفعل عوائق عديدة، في مقدمتها عائق العشائرية أو القبلية السياسية الذي يمثل اليوم تحدّياً حقيقياً أمام أي تعافٍ للسياسة، ومن ثم للدولة والأمة الصومالية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى