هل يُنجز ترامب “صفقة القرن”؟

لميس أندوني

لم يكن تعبير “صفقة القرن” يؤشّر إلى خطّة سياسية أو مبادرة سلام، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، المنتخب للمرّة الثانية بعد أربع سنوات من مغادرته البيت الأبيض، لا تعنيه العدالة ولا حتى تسوية “ترضي الطرفين”، ولا الكلام المعسول والوعود الكاذبة كلّها بإنشاء “كيان مسخ” يسمّى “دولةً فلسطينيةً”، فهو منذ البداية يرى القضية الفلسطينية “عقبةً” غير ذات أهمية تعرقل إحكام الهيمنة الأميركية وتحالفات “البزنس” في منطقة مهمّة من حيث الموقع والثروات الطبيعة. ولم يفهم ترامب لماذا لم يُحسم الصراع العربي – الإسرائيلي، وليست في قاموسه مفرداتٌ مثل تحرّر الشعوب وحقّ تقرير المصير، إذ يرى العالم بعيون الرأسمالي المتوحّش، لكنّه يفهم تماماً أهميةَ ضمان سيطرة أميركا وجبروتها على عالم يحكمه تراكم الثروات من دون حدود أو أخلاق.
ترامب هو منتوج النظام السياسي الرأسمالي الاستعماري من دون “فلترة” النظريات التي تدّعي امتلاك (ونشر) قيم إنسانية في العالم، فهو يعي تماماً أنها كلّها تُلقى في القمامة خدمةً للمصالح الأميركية. الفرق بينه وبين حزب الديمقراطيين، استعماري التوجّه، نيوليبراليّ الهوى، أنه لا يجامل، لكنّ الفارق الأكثر أهميةً أنهم يتصرّفون كسياسيين اكتسبوا خبراتٍ من تاريخ أميركا، وتوصّلوا إلى نتيجة أن القوّة وحدها لا تحافظ على هيمنة أميركا.
من وجهة نظر ترامب، الطرف الضعيف هو الفلسطينيون، فالمقاومة مهما بلغت شجاعتها وبسالتها مُجرَّد ردّة فعل الضعيف. ولعلّ في مشهد تعامله مع حائزات جائزة نوبل للسلام، ومنهن الأفغانية ملالا يوسفزي، التي أطلقت حركة طالبان عليها النار لتمرّدها على قرار حظر تعليم البنات، نافذةً على قساوة “المنتصر” وعنجهيته، فهو لم يكلّف نفسَه عناء الترحيب بهن، وجلس إلى المكتب متعلّلاً بانشغاله، وعندما سأل ملالا لماذا حازت جائزة نوبل وأجابته، هزّ رأسه، وقال بسخرية: “أطلقت النار عليك وأخذت جائزة على ذلك؟”.

ترامب هو منتوج النظام السياسي الرأسمالي الاستعماري من دون “فلترة” النظريات التي تدّعي امتلاك (ونشر) قيم إنسانية في العالم

القصّة أكبر من محاولة تحليل شخصية ترامب، لأن السياسة الأميركية الاستراتيجية لا يقرّرها هو، بل يحاول تنفيذها بطريقته. فمن وجهة نظره، التي يعرفها من تابعه سنوات طويلة، أو شاهد حلقاتٍ من برنامجه “المتدرّب”، يعرف تماما أنه يؤمن بمقولة “المنتصر يأخذ كلّ شيء”؛ أي لا مساومات ولا اعتراف بحقّ أو حقوق. وقد تعامل بالعقلية نفسها خلال ولايته في البيت الأبيض رئيساً لأميركا، فوجد أن العالم ساحته، وأن “إدارة العالم” لا تختلف عن إدارة “امبراطورية شركاته ومؤسّساته”. فشخصيته لم تكن لتغيّر كثيراً لو تصدّى لها الحزب الديمقراطي، وبخاصّة في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية، لكنّها في الحقيقة لا تتعارض مع استراتيجية أميركا في المنطقة.
بدت قيادة الحزب الديمقراطي في حالة ذهول عندما اتّخذ ترامب قراراتٍ لم يكن ليجرؤ عليها أيّ رئيس سابق، خطوات أصبحت أمراً واقعاً، بل سار في نهجها الرئيس جو بايدن والحزب الديمقراطي، ما يدلّ على أن ترامب قد يكون أكثر “همجية في التعبير”، لكنّها خطوات تعبّر عن حقيقة السياسة الأميركية، أي كان تردّدهم في جزء كبير منه جُبناً. ولكن هناك سبب أكثر أهميةً تتحمّل الأنظمة العربية مسؤوليته، إذ لم يتوقع معظم الساسة الأميركيين، بمن فيهم أعتى الصهاينة، ردّة الفعل العربية الهزيلة على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وبعضهم أعلن دهشته من نجاح ترامب في عقد الاتفاقيات الإبراهيمية مع الإمارات والبحرين، لجهة قبول الشروط التحالفية الهيّنة، أو حقيقة أن الدول العربية لم تنتقد هذه المعاهدات، فحتى مصر والأردن لم يقبلا (ولم يفرضا) تطبيعاً شعبياً، ولم يتبنّيا الرواية التاريخية الإسرائيلية.
لم تكن سياسات ترامب العملية تتناقض مع الاستراتيجية إلّا تكتيكياً، فأغلب الخبراء، بمن فيهم قيادات في اللوبي الصهيوني، كانوا يعتقدون أنه تهوّر بخطواته. إذ توقّعوا ردّة فعل عربية غاضبة تعيق هدف دمج إسرائيل في المنطقة وإقامة تحالف عسكري أمني عربي إسرائيلي بحجّة مواجهة إيران. لذا؛ كان توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية، وما تلاها من هدوء، سبباً لفرح واحتفال بإنجاز تاريخي غير متوقّع اعتبرته الأوساط الصهيونية (وغير الصهيونية) في أميركا نقطةَ تحوّل فاصلةً لصالح إسرائيل.
الأكثر أهميةً أن بايدن سار على خطى ترامب، وإنْ تبدو محاولته رعايةَ توقيع معاهدة “سلام” سعودية إسرائيلية قريبةَ المنال إلى لحظة انطلاقة “طوفان الأقصى” الذي أفسد المحادثات مع الجانب الأميركي في هذا الخصوص، بل عطّلها، إذا عدنا إلى الليلة التي سبقته. فقد كان أكثر ما بدأ به ترامب أهميةً قبل انتهاء ولايته ضمّ السعودية إلى المعاهدات الإبراهيمية، وما فعله بايدن هو إكمال المشروع. فعظم زيارات وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، يساعده مبعوث ما تسمّى “قضايا الطاقة”، كانت رحلات مكّوكية بين تلّ أبيب والرياض. أي أن جزءاً من ردّة الفعل الأميركية كانت غضباً من قطع الطريق (على الأقلّ وقتياً)، على اتفاق سعودي – إسرائيلي علني، إضافة إلى الزلزلة الأمنية التي حقّقتها حركة حماس بهجومها المفاجئ على إسرائيل.
سيتابع ترامب ما كان قد بدأه، وما حاول تحقيقه بايدن، ويتشارك مع الأخير في ضمان تفوق إسرائيل العسكري والأمني، لكنّ الفارق بينهما أنّ بايدن لا يرى معنىً لاستمرار الحرب، ليس شفقةً أو تعاطفاً مع معاناة الشعبَين الفلسطيني واللبناني وشقائهما، وإنّما هو غير معنيٍّ بالحرب، بل بمعرفة أهداف إسرائيل وانسجامها مع أهداف أميركا، وبالاتفاق على خطوات لتحقيقها. سيعتمد ترامب، على الأرجح، على مزيج من ترهيب الأنظمة وتوظيف الشراكات التي أسّسها وصهره جاريد كوشنر مع مسؤولين وحكّام عرب، طابعها مالي، ولكن فيها تعميقاً لتبعية مسؤولين وحكّام عرب للسياسة الأميركية. فقد صرّح كوشنر بأنه لن ينضمّ إلى إدارة ترامب، لكنّه سيعطيه المشورة. وقبل أشهر، اقترح علناً تحويل شاطئ غزّة إلى منتجعاتٍ سياحيةً، وقال إنه سيستثمر فيها.
من الصعب التنبّؤ بما سيفعله ترامب، لكنّ الأرجح أن يحاول إقناع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأنه حقّق نصراً ساحقاً على “حماس” وحزب الله، وأنه آن الأوان لتنفيذ خطّةِ جني الأرباح، أي فرض شروط على الأنظمة العربية، لتتحمّل “عبء الفلسطينيين”. وقد يتضمّن هذا إنشاء مناطقَ عازلةٍ عند حدود الأردن ولبنان ومصر، قد تتحوّل مستوطناتٍ يهودية إذا لزم الأمر، أي تحقق أحلام نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش، وقبلهما زئيف جابوتنسكي، أحد أكثر مؤسّسي الصهيونية أهميةً. وقد يقبل ترمب بها، ليس بدافع ديني أو توراتي أو محبّةً بإسرائيل، بل لتذويب الهُويَّة الفلسطينية، ولفصل الشعوب العربية عن فلسطين.

القصّة أكبر من محاولة تحليل شخصية ترامب، لأن السياسة الأميركية الاستراتيجية لا يقرّرها هو، بل يحاول تنفيذها بطريقته  

لن يكون مستغرباً إذا سعى ترامب إلى دور إماراتي في إدارة غزّة، فهي مشروع “بزنس” له، وبؤرة أمنية يجب تحييدها. القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان روّج مثل هذه الخطّة في مقابلة “نيويورك تايمز” معه (13/2/2024)، وعادت الإمارات إلى إعلان جهوزيّتها للقيام بالدور المطلوب في خطتها لليوم التالي (العربي الجديد 25/10/2024). وخلافاً لاتفاق حركتي حماس وفتح أخيراً، لا واحدة منهما مقبولة لإدارة غزّة، فالمطلوب نزع الهُويَّة الفلسطينية لغزّة. أمّا الضغط الأكبر فسيكون على عاهل الأردن، فترامب، كما عبّر عن ذلك في مكالمات مع الملك عبد الله الثاني بين عامي 2017 و2018، يريد من الأردن تولّي إدارة الضفة الغربية أمنياً. وقد رفض الملك ذلك في حينه، لأنها ببساطة خطوة إلى الانتحار، ووصفة لحرب أهلية ولتقويض الاستقرار في الأردن.
إحدى أولويات ترامب هي كيف يستطيع فرض الاستسلام النهائي على الفلسطينيين والعرب، بعد ما يعتبره “سحق” حركة حماس وحزب الله، أو على الأقلّ محاصرتهما تماماً بمساعدة الدول العربية في فرض شروط الاستسلام والتخلّي عن القضية الفلسطينية. صحيح أن المقاومة باقية، لكنّ الخوف هو من التواطؤ والتعاون العربي اللذين يعوّل عليهما ترامب ثقة العارف بضعف النفوس.

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى