في بداية القرن الثامن عشر (عصر القوميات) العصر الذي تشكلت فيه الدول الحديثة في اوربا وبعد استقرارها كان في ذلك الاوان مطروحا امام اوربا الحديثة مسألتين أساسيتين سميتا وقتها المسألة الشرقية وكانت تعني اعلان وفاة الامبراطورية العثمانية وتوزيع تركتها والمسألة الثانية اليهودية وتعني تفريغ اوربا من اليهود الذين شكلوا وقتها عامل توتر دائم داخلها وصل في كثير من الاحيان الى خطر تفجيرها من الداخل..
ولم يكن وقتها في ذهن احد ان يحل المعادلتين معا..
يرجع الجذر الاول إلى اهم مخطط استراتيجي عرفته اوربا وقتها نابليون بونبرت الذي فكر (على عكس حركة التاريخ) أثناء حملته على مصر بضرورة عزلها عن بلاد الشام بجسم غريب يتم خلقه بينهما وكان اقتراحه شبه جزيرة سيناء.. وهذا كان يتمشى مع معطيات الجغرافيا بوجود حواجز طبيعية من الماء والجبال.. وحيث انها كانت مفتوحة من جهة الغرب على مصر تخيل خلق حاجز مائي يصل البحر المتوسط بالاحمر مع صعوبة تنفيذه بمعطيات ذلك العصر العلمية والعملية.. فبقى مجرد حلم
وكان تفكيره بعزل الشام عن مصر لاستدامة سيطرته على مصر التي احتلت مركز الصدارة في الاستراتيجية الفرنسية وقتها.. وانا قلت ان هذا كان عكس حركة التاريخ لأنه منذ مطلع التاريخ لم يسيطر حاكم او امبرطور على مصر الا وفكر في ضم الشام والعكس بالعكس.. فمن الفراعنة فالاشوريين فالإسكندر فالرومان ثم العرب المسلمون فالصليبيون والفاطميون.. ولم يستطع احد الحفاظ على مصر دون ضمان الشام والعكس.. أدرك هذه الحقيقة داهية العرب معاوية في صراعه على الخلافة ونجح.. وفشل المغول في السيطرة على مصر فاندحروا وفشل الفاطميون في السيطرة على الشام فاندثروا.. وادرك صلاح الدين انه قبل السيطرة على مصر لا يمكن تحرير الشام فنجح.. واراد نابليون ان يجابه التاريخ فهزم.. وبعد ان استتب الامر في مصر للانجليز تمسك الفرنسيون بالسيطرة على الشام لكسر سيطرة الانكليز على العالم..
وبعد هذا الاستطراد الواجب عودا على بدء فإن اول من فكر في حل المعادلتين المضلتين في أوربا كان أول رئيس وزراء بريطاني من اصل يهودي (دزرائلي) حيث اعاد بناء فكرة نابليون مع اقتراح ان يكون الجسم الغريب في فلسطين وان تكون ماهيته دولة يهودية.. بما لذلك من جذور تاريخية لدى اليهود في العالم..
وقبل ذلك كانت كل السناريوهات الاوربية لخلق الدولة اليهودية تدور بعيدا عن منطقتنا.. حيث كانت المقترحات تدور في أمريكا اللاتينية او امريكا الشمالية او افريقيا.. وحتى اليونان.. وكانت الوكالة اليهودية التي شكلت بدعم من الدول الاوربية متناغمة مع تلك السيناريوهات وكانت حتى ذلك الوقت تحبذ الارجنتين.. وقد سعت لذلك دأبا.. وقامت بجهود حثيثة لتهيئة الارض للدولة الموعودة فيها
و لم تلقى فكرة رئيس وزراء بريطانيا ديزرائلي بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين حماسا لدى معظم الساسة والمخططين الاوربيين.. وقد ساد لديهم اعتقاد باستحالة تنفيذها في هذه المنطقة نظرا للكثافة السكانية وقوة علاقتها التاريخية الثقافية والاجتماعية بفضائها الجغرافي شرقا وغربا..
كما ثارت المخاوف من الانجرار الى مواجهة شاملة مع العالم الإسلامي لا سيما ان الخلافة العثمانية كانت قائمة وان كانت في اقصى حالات الضعف فقد كانت الخشية ان تستغل السلطنة مثل هذه الدعوة لاستثارة مشاعر الولايات المختلفة لمواجهة هذا المشروع و لم شملها و استنهاض قوتها من جديد..
لكن الوكالة اليهودية التي بدأت تنحى منحا مستقلا وتلعب دورا مؤثرا اخذت على عاتقها اقناع الساسة المعارضين.. وبذلت جهودا كبيرة كانت ذروة جرأتها ان تطرح الموضوع صراحة مع السلطان العثماني نفسه بعرض مبلغ مالي كبير -كانت السلطنة بأمس الحاجة إليه وهي تلفظ انفاسها الاخيرة- مقابل تسهيل هجرة اليهود الى فلسطين.. ورغم رفض هذا العرض في النهاية الا أنه كان ذو تأثير عظيم في تغيير قناعة الساسة الأوربيين -عدا الألمان- من رد فعل العالم الإسلامي بسبب الموقف الرخو من قبل السلطنة والنجتمعات العربية ايضا (التي كانت غائبة تماما) بسبب قرون من القمع والقهر والجهل والفقر..
بينما كانت الوكالة اليهودية حاضرة في كل مكان.. فقد زرعت عيونا واذرعا في الاحزاب والبرلمانات ووسائل الإعلام ودهاليز السياسة الاوربية المظلمة من روسيا شرقا الى انكلترا غربا..
فما بين فكرة دزرائلي و وعد بلفور -الذي مر عليه أكثر من قرن- كان منها اكثر من خمسة عقود من العمل الجاد الكثيف المنتظم من قبل الوكالة..
وحتى تلك اللحظة التي تم فيها الجهر بالسوء لم يكن الوقت قد فات.. وكان من الممكن ان لا يكون له اي قيمة ويدفن بين الاوراق المعدومة مثله مثل مئات الاف الوعود السياسية التي لا يسمح الواقع بتنفيذها..
لكن ذلك كان يتطلب مواجهة مدروسة ومنظمة ولو في ادنى الحدود.. ولم يكن ذلك صعبا لا سيما ان التاريخ والجغرافيا كانا يقفان بقوة في الصف العربي.
لكن معظم النخب العربية قد نظرت الى ذلك الوعد وكأنه قدر محتوم رغم ان من اطلقوه لم يكن لديهم الكثير من الثقة في نجاحه لأنهم يفهمون اكثر منا لعبة التاريخ والجغرافيا..
فرغم ما ذكرناه عن خمسة عقود من طرح المسألة اليهودية قبل ديزرائلي ثم خمسة عقود للوصول الى وعد بلفور ثم ثلاثة عقود الى اعلان الدولة ثم سبعة عقود و نيف من عمر الدولة لا تساوي شيئا كثيرا في عمر المنطقة الحضاري و تاريخها الممتد إلى ما يزيد عن ستة الاف سنة..
فرغم كل ما حققه الكيان المصطنع بجهود ذاتية او بدعم سخي و كثيف من أعمدة النظام الغربي لم و لن تلغي كونه كيان وظيفي و ظرفي متعلق بتوازنات السياسة الدولية و الأهم مرتبط بصحوة و تمكن شعوب المنطقة من إعادة حقائق التاريخ و الجغرافيا إلى أرض الواقع و المسألة قد تطول او تقصر و لكن ليس لدينا أدنى شك بأنها تمتلك كل مقومات الحدوث مع توفر الظرف المواتي
في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 أرسل وزير خارجيّة المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد زعماء الحركة الصh يونية ووعدهم بأرض فلسطين، لتكون “منح من لا يملك للي لا يستحق” بعد أكثر من مائة وسبعة أعوام على الوعد هل بدأت بالإنهخيار الدويلة الوظيفية؟ قراءة موضوعية واعية .