في غمرة احتفال الشارع الإسرائيلي باستهداف جيش الاحتلال عدة شخصيات قيادية في صفوف المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، تتعالى أصوات داخل اليمين المتطرّف الإسرائيلي، وفي صفوف الحركة الصهيونية والجماعات اليهودية المتطرٌفة، مطالبةً باستمرار الحرب الدامية على قطاع غزّة، ورفض دعوات المجتمع الدولي لوقف إطلاق النار في المنطقة. ويغيب عن هؤلاء أنّ الحرب شرّ محض، ولن تؤدّي إلى ضمان الأمان لإسرائيل، بل تزيد الأوضاع تعقيداً، وتساهم في إنتاج جيل جديد من المقاومين للانتهاكات الإسرائيلية، وتُشيع الإحساس بالخوف وعدم الاستقرار واللايقين بين شعوب المنطقة، وتزيد من معاناة المدنيين من الجانبَين، ومن اتساع دوائر كراهية إسرائيل والغرب في العالم العربي والإسلامي. ويغيب عن أنصار الحرب أنّ النجاح الكارثي الذي حقّقه نتنياهو في استهداف الحجر والبشر في غزّة لا يمكن أن يُخفي إخفاقات دولة الاحتلال الكثيرة في إدارة الحرب على القطاع. ولذلك تجلّيات عدّة واستتباعات جمّة.
رامت السلطات الإسرائيلية من شنّها حرباً شعواءَ على قطاع غزّة، وانخراطها بقوّة في عملية السيوف الحديدية، استعادةَ قوّة الردع الإسرائيلية، وتأمين ردّ فوري ناجع على عملية طوفان الأقصى، التي كلّفت دولة الاحتلال خسائرَ فادحةً في العدد والعُدّة، وفاجأت شبكاتها الاستخبارية والاستعلامية، وأربكت خطوطها الدفاعية وخططها الهجومية. وركّزت إسرائيل في حربها الأخيرة على غزّة، بحسب مراقبين، على تحقيق أهداف، من بينها تدمير القدرات العسكرية واللوجستية والقيادية لحركة حماس خصوصاً، وفصائل المقاومة الفلسطينية عموماً، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وإرجاع المستوطنين إلى غلاف غزّة، والعمل على كسب تأييد دولي للعدوان الإسرائيلي على القطاع. والظاهر، بحسب ملاحظين، أن جُلّ هذه الأهداف الإسرائيلية لم تتحقّق لا جزئياً ولا كلّياً.
من الناحية العسكرية، وضعت إسرائيل ثلاث مراحل رئيسة للحرب الحالية. الأولى، تهيئة ساحة القتال من خلال القصف الجوي المكثّف. والثانية، الاجتياح البرّي، والتوغّل في قلب القطاع بغاية هدم الأنفاق والقضاء على ألوية “حماس” المقاتلة. والثالثة، إعادة الانتشار في القطاع وبسط النفوذ على جلّ ممرّاته ومعابره، ومنافذه البرية والبحرية والجوية. واستخدمت إسرائيل في تنفيذ هذه الخطة الإحلالية آخرَ ما صدر في مجال التكنولوجيا العسكرية، وتقنيات الرصد والقنص، والاستطلاع والتجسّس. واستدعت نحو 300 ألف جندي وعنصر احتياط، ودفعت بهم إلى ساحات الحرب، وهو أوسع استدعاء للاحتياط في تاريخ دولة الاحتلال، وأهدرت ملايين الدولارات في الإنفاق الحربي على نحوٍ استنزف موازنتها العامّة بشكل غير مسبوق. وتمكّنت عملياً من تدمير عدد معتبر من الأنفاق ومنصّات إطلاق الصواريخ ومخازن ومستودعات أسلحة تابعة للفصائل الفلسطينية، لكنّها لم تتمكّن في الواقع من القضاء على “جيش حماس”، وعلى تشكيلات المقاومة المسلّحة وقدراتها القتالية وبنياتها التنظيمية والاستخبارية واللوجيستية المعقّدة. وتكبّدت إسرائيل خسائرَ كبيرةً في صفوف جنودها وقادة ألويتها. فبحسب تصريحات صادرة عن جيش الاحتلال، قتل 726 جندياً إسرائيلياً منذ بداية العدوان الغاشم على غزّة إلى حدود السابع من الشهر الجاري. فيما أُصيب 4590 جندياً بجروح متفاوتة الخطورة خلال المعارك البرّية. وهي خسائر بشرية فادحة في صفوف جيش جرى الترويج طويلاً أنّه الأقوى في المنطقة.
تعدّ مسألة استعادة الأسرى الإسرائيليين من أبرز مظاهر فشل السلطات الإسرائيلية في إدارة الحرب على غزّة
ومع أنّ الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تمكّنت، بعد شهور عدّة من قصف المدنيين بشكل عشوائي، من تصفية قيادات سياسية وعسكرية بارزة في صفوف المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج، فإنّ ذلك لم يؤثّر بشكل جوهري على الحركة القتالية المضادّة لإسرائيل في القطاع. بل ساهم في عطف القلوب نحو الفصائل المُقاوِمة عموماً، وحركة حماس خصوصاً، وزاد من التفاف الناس حولها. فقد فشلت دولة الاحتلال في فكّ الارتباط بين حركة المقاومة وحاضنتها الشعبية. وبدا أنّ كتائب القسّام مثلاً لا تخضع لمركزية قيادية ثابتة، بل تنتشر أفقياً في القطاع، وتتميّز بقدرتها على تغيير خططها وقياداتها بحسب مستجدّات الواقع الميداني وإكراهات الحرب. وكلّما أعلن جيش الاحتلال سيطرته على منطقة، ظهرت فيها جيوب المقاومة من جديد، وكبّدت القوات الإسرائيلية خسائرَ كُبرى. ودلّ ذلك على جاهزية الفصائل الفلسطينية وقدرتها على المبادرة وإحداث المفاجأة، وذلك لدرايتها بتفاصيل المكان وإمساكها بحقيقة الميدان، ودربتها على حرب الشوارع، ومراوحتها بين الظهور والكمون، وبين الحرب تحت الأرض وفوق الأرض.
ورغم تفوّق إسرائيل تكنولوجياً، وجوياً، وبحرياً، فإنّها لم تجرّب من قبل حرباً برّيةً واسعةً، مباشرةً وطويلة المدى، مع الفلسطينيين، ولم تستعدّ على النحو الكافي لحرب عصابات مستدامة. وأخفقت، بحسب ملاحظين، في إدارة معارك الأنفاق والشوارع لقلّة خبرتها في هذا المجال. وهو ما جعلها في مواجهة حرب استنزاف صعبة وطويلة أنهكت ”الجيش النظامي الذي لا يقهر”، وأرهقت الاقتصاد الإسرائيلي، وزادت من غضب طيف معتبر من الشارع الإسرائيلي من سياسات بنيامين نتنياهو التوسعية، الصدامية، التي أفضت إلى عزلة إسرائيل في الإقليم، وانخراطها في حرب محمومة غير مأمونة العواقب مع قوىً غير نظامية مساندة للمقاومة الفلسطينية في لبنان، واليمن، وسورية، والعراق. وأدّى تعديد جبهات الصراع مع الداخل والخارج إلى تشتيت جهود المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية، وإخفاقها في كسب معركة غزّة.
نجاح نتنياهو في استهداف الحجر والبشر في غزّة لا يُخفي إخفاقات دولة الاحتلال في إدارة الحرب
وتعدّ مسألة استعادة الأسرى الإسرائيليين من أبرز مظاهر فشل السلطات الإسرائيلية في إدارة الحرب على غزّة. فلئن نجحت دبلوماسية الرهائن، بوساطة قطرية مصرية أميركية، في تحرير 105 من المحتجزين لدى الكتائب الفلسطينية، من مجموع 255 (وهي أكبر عملية أسر جماعي تعرّضت لها إسرائيل في تاريخها)، فإنّ إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على استرجاع 150 أسيراً آخرين بقوّة السلاح، وعدم انخراطها في مفاوضات جادّة لتبادل الأسرى مع الجانب الفلسطيني، يجعل مصير المحتجزين مجهولاً، ويتهدّدهم الموت في أيّ لحظة بسبب القصف الإسرائيلي العشوائي من ناحية، واحتدام المواجهة المسلّحة بين الكتائب الفلسطينية والجيش الإسرائيلي من ناحية أخرى. وقد أدّى تهميش قضية الرهائن إلى تنامي حركة الاحتجاج على أداء حكومة الحرب بقيادة نتنياهو، وتزايد الشعور بالغضب والإحباط في صفوف عائلات الأسرى والمتعاطفين معهم. وفي هذا السياق، تقول والدة أسير إسرائيلي ما مفاده: “ما الفائدة من تحويل قطاع غزّة ركاماً وأرضاً محروقةً إذا كنت سأفقد ابني إلى الأبد”. وتقول أخرى: “إن الحكومة تركت المخطوفين للموت… نريد فوراً صفقةً لتحريرهم”. وتبقى قضية الرهائن، بحسب مراقبين، ورقة ضغط وازنة لدى الفصائل الفلسطينية، ومعضلةً تؤرّق نتنياهو وتستنزف شعبيته في الداخل الإسرائيلي لا محالة.
ويبدو أنّ حكومة نتنياهو راهنت على تأمين غلاف غزّة، وإعادة المستوطنين إليه في وقت وجيز. لكنّ الواقع خلاف ذلك. فقد طالت الحرب، ونزح ما لا يقل عن 143 ألف إسرائيلي من المناطق المحاذية للقطاع، وتولّت الحكومة الإسرائيلية توفير الملاجئ والسكن والإعاشة والرعاية الصحّية والنفسية لهم. ومثّل ذلك عبئاً إضافياً على الخزينة العامّة الإسرائيلية. وتجد الجهات المسؤولة صعوبات جمّة في إقناع النازحين بالعودة من حيث أتوا، لأنّ جلّهم يشعرون بالخوف، ويعتبرون المناطق الحدودية غير آمنة. فيما غادر آلافٌ آخرون إسرائيل لشعورهم باللايقين بشأن مستجدٌات الراهن، وتحوّلات المستقبل، ولاعتقادهم بأنّ إسرائيل لم تعد أرض الأحلام والوئام والسلام. والفشل في استبقاء هؤلاء يُعدّ في حدّ ذاته إخفاقاً كبيراً في احتواء تداعيات الحرب على غزّة.
لا يمكن حلّ الصراع في الشرق الأوسط بمزيد من العنف والعنف المضاد
على صعيد آخر، فشلت إسرائيل في الحفاظ على الدعم الدولي المساند لها في بداية حربها على القطاع. ويرجع ذلك (في جانب منه) إلى استهداف القوّات الإسرائيلية المسلّحة المدنيين، وحرص دولة الاحتلال على التنكيل بهم عبر قصف منازلهم بشكل عشوائي، وإجبارهم على النزوح القسري، وترويعهم وتجويعهم، وتشريدهم، ومنعهم من الحصول على الماء، والغذاء، والدواء، وتعطيل وصول المساعدات الإنسانية إليهم، وضرب المرافق الخدمية الحيوية، من قبيل المستشفيات والمدارس والمخابز والمؤسّسات الإغاثية. وهو ما أدّى إلى انتفاضة المجتمع الدولي ضدّ الغطرسة الإسرائيلية، فقد طالبت 153 دولة في الجمعية العامّة للأمم المتحدة بوقف العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة، ورفعت جنوب أفريقيا دعوىً قضائية ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، لانتهاكها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن منع الإبادة الجماعية. كما دعا مجلس الأمن طرفَي النزاع إلى وقف إطلاق النار، وهو قرار لم تلتزم به إسرائيل. وزاد ذلك من عزلتها دولياً. في المقابل، اتسعت دوائر الرأي العام العالمي الداعمة لحقّ الفلسطينيين في الحرّية والكرامة وتقرير المصير، وانتظمت مظاهراتٌ شعبيةٌ عارمةٌ في مختلف أنحاء العالم مناصرة لسكّان غزّة، ومندّدة بالانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة بحقّهم، وأعاد ذلك المظلمة الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العالمي.
ختاماً، لا يمكن حلّ الصراع في الشرق الأوسط بمزيد من العنف والعنف المضاد. فنهج الحرب عقيم، ونتائجه كارثية وعواقبه وخيمة على الجميع. لذلك يقتضي وضع حدّ للصراع العربي الإسرائيلي بالجلوس إلى طاولة التفاوض على أساس إنهاء الاحتلال، والاستيطان، وتبادل الأسرى، والتسليم بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلّة، كاملةَ السيادة، بناءً على ما أقرّته المواثيق الأممية والدولية.
المصدر: العربي الجديد