ربما تمت تسوية الحساب مع زعيم حماس، والدَّين دُفع -لكن الحرب لم تنته بعد. هذه مجرد بداية النهاية.
* * *
في دقائقه الأخيرة، جلس يحيى السنوار -الرجل الذي وجه أسوأ ضربة جماعية إلى اليهود منذ المحرقة- جريحاً ومتكئاً على مقعد، وبدا أنه ألقى عصا أو شيئاً تجاه طائرة إسرائيلية من دون طيار كانت تراقبه.
هل كان ذلك تحدياً أم قدرية؟ يبدو أن الجميع يستخلصون استنتاجات مختلفة. ولكن بعد فترة وجيزة من هذا المشهد، قام الجيش الإسرائيلي بتوجيه الضربة النهائية إلى زعيم “حماس”، حيث أصيب المبنى المدمر الذي كان فيه بقذيفتي دبابة من عيار 120 ملم.
وأعلن وزير الدفاع الإسرائيل يوآف غالانت: “هذه رسالة واضحة لجميع أعدائنا -سوف يصل الجيش الإسرائيلي إلى أي شخص يحاول إلحاق الأذى بمواطني إسرائيل أو قواتنا الأمنية، وسنقدمكم إلى العدالة”، في حين أعلن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أن “الشر تلقّى ضربة قوية”، مضيفاً أن إسرائيل قد “سوّت حسابها” مع السنوار.
وفي الوقت نفسه، عبْر المحيط الأطلسي، وبعد تهنئة إسرائيل على القضاء على السنوار، وصف الرئيس الأميركي جو بايدن وفاة زعيم “حماس” بأنها “فرصة لإنهاء الحرب في غزة أخيراً”. وقال: “حان الوقت للمضي قدماً”.
ولكن هل هذه حقاً نهاية القصة؟ ليس بالنسبة لـ”بيبي”. ربما تمت تسوية الحساب مع السنوار، والدَّين دُفع -لكن القصة بعيدة كل البعد عن النهاية. والحرب بعيدة جداً عن النهاية أيضاً. بالنسبة له، هذه مجرد “بداية النهاية”.
بعبارات بسيطة، يريد “بيبي” الآن إعادة صياغة الشرق الأوسط. ويقول الذين يعرفونه جيداً إن مقتل السنوار، وكذلك اغتيال مجموعة من قادة “حماس” و”حزب الله” السياسيين والعسكريين -بمن فيهم رجل الدين اللبناني حسن نصر الله- هي مجرد محطات في حملة واسعة لتأمين سلامة إسرائيل لجيل كامل، وتخليص نفسه من اللوم الذي تلقاه عن هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وتأمين بقائه في سُدة السلطة.
ويوافق مستشار نتنياهو الانتخابي السابق، نداف شتراوشلر، على أن المهمة أبعد ما تكون عن الإنجاز، كما قال لمجلة “بوليتيكو”.
قال إن القضية الأكثر إلحاحاً، بطبيعة الحال، هي تأمين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الذين ما يزالون محتجزين في غزة أولاً، وقد لا يجعل موت السنوار ذلك أسهل. “مع من سيتفاوض ’بيبي‘ أو إسرائيل وحلفاؤنا الآن”؟
بصرف النظر عن التعقيد الذي ينطوي عليه ذلك، أصبحت أهداف نتنياهو العسكرية طموحة للغاية أيضاً. ربما يرغب بايدن في إعلان السلام في الوقت المتبقي لنا قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) من أجل تعزيز حظوظ المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، لكن هذا الجدول الزمني لا يتناسب مع نتنياهو.
قال شتراوشلر: “لو كان هذا قد حدث قبل نصف عام، لكانت القصة مختلفة. أما الآن فهناك صورة أكبر بكثير -إيران. بعد القضاء على نصر الله، والقضاء على السنوار، يهدف (نتنياهو) إلى تحقيق الهدف الكبير. أعتقد أنه قام بإجراء تحول كبير في الأسابيع القليلة الماضية أو نحو ذلك… انتقل إلى سرد جديد. أصبح ينظر إلى إيران الآن، وما يزال هناك دين يجب دفعه”.
والطريق إلى تلك الوجهة -إذلال طهران، أو حتى الإطاحة بنظام آية الله علي خامنئي الديني- يمر عبر لبنان.
ولكن في حين أن “حزب الله” -أهم حليف لإيران في ما يسمى بـ”محور المقاومة”- ربما يكون قد أصيب بصدمة كبيرة بسبب استهداف إسرائيل قياداته العليا، وأصبح مشوشاً ومتضائلاً، إلا أنه ما تزال لديه لدغة في ذيله وقدرة على إلحاق الألم. وقد أظهر ذلك من خلال هجومه بطائرة من دون طيار في 13 تشرين الأول (أكتوبر)، الذي أسفر عن مقتل أربعة جنود إسرائيليين في مجمع عسكري جنوب حيفا -وهو أكبر عدد من القتلى يلحقه “حزب الله” في داخل الأراضي الإسرائيلية منذ أن أمر نتنياهو بالتوغل العسكري في لبنان في بداية الشهر.
بالإضافة إلى ذلك، حتى منتقدي نتنياهو المتشددين لا يعترضون على نقل المعركة إلى “حزب الله”. وبينما سارع الجيش الإسرائيلي ووكالة الأمن الإسرائيلية (شين بيت) إلى مطابقة الحمض النووي للسنوار وسجلات الأسنان مع جثته، تمكنت “بوليتيكو” من الجلوس مع يعقوب بيري، رئيس جهاز “الشاباك” السابق والنائب السابق في الكنيست. ولطالما انتقد بيري استراتيجية نتنياهو، وألقى باللوم على الزعيم الإسرائيلي -إلى جانب المستوطنين اليمينيين- في تخريب “اتفاقات أوسلو” التي انهارت مع اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين، إسحاق رابين، في العام 1995.
قال بيري: “كان رابين أقرب رئيس وزراء إلى التوصل إلى تسوية سلمية في الشرق الأوسط. كان يكره المستوطنين -يكرههم حقاً. وكان مستعداً للتسوية مع أبو مازن (محمود عباس، الذي وقع اتفاقات أوسلو كمفاوض لمنظمة التحرير الفلسطينية وهو الآن رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية)، على الرغم من أنه لم يكن يعجبه. لقد فهم أن هذا هو الحل الوحيد لمستقبل إسرائيل”.
لكنّ نتنياهو لم يكن لديه خيار سوى إطلاق حملة لبنان، وفقاً لبيري الذي أضاف: “كان كل شيء جاهزاً لدى ’حزب الله‘ للقيام بالنوع نفسه من العمل الذي حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر). لا أستطيع أن أقول إنني ضد التوغل في لبنان. إنه ضروري. نحن نفهم أن العالم لا يحب ذلك. ولن يتعاطف العالم مع إسرائيل عندما نقتل الأطفال والمدنيين في غزة ولبنان. ولكن ليس لدينا خيار. إذا أردنا البقاء على قيد الحياة في إسرائيل، علينا أن نفعل ذلك”.
ولكن، رغم كل ذلك، لا يخالط بيري أدنى شك في حقيقة أن نتنياهو يطيل أمد الصراع “لاعتبارات سياسية شخصية”. وقال عن ذلك: “نتنياهو مهتم بحرب تستمر لأطول فترة ممكنة بحيث يتركه ذلك في منصبه. وبيبي مقيد بالسلاسل إلى وزيرين في حكومته الائتلافية يحلمان بإعادة بناء هيكل ملوك يهودا… إنه شيء لا يصدق. إنه شيء مسياني. وهما يهددان في كل مرة تكون هناك فرصة للتوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن، والتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين وفرصة للتسوية”.
لكنّ بيري أعرب عن أسفه، أولًا وقبل كل شيء، لعدم التفكير في استراتيجية شاملة، والتي يزاحمها التركيز المستمر على التكتيكات، وانتقد نتنياهو لعدم وجود أي خطط لليوم التالي. وعند مناقشة الفيلم الوثائقي الرائد للعام 2012 “حراس البوابات” The Gatekeepers -الذي سرد تاريخ “الشاباك”، وتضمن مقابلات مع ستة من رؤسائه السابقين، بمن فيهم بيري- كرر الرسالة الواضحة الوحيدة التي نقلها جميع الرؤساء السابقين: يجب على إسرائيل التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين.
قال بيري: “نحن جميعاً متشابهون. لقد أمضيت نحو 32 عاماً في الخدمة. وما أزال أعتقد أن أكبر خطأ لإسرائيل هو عدم التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. إنه أكبر خطأ، أكبر فشل للإسرائيليين”. ونتنياهو يضاعف الخطأ فحسب، ويكرر الخطأ نفسه الذي ارتكبه أسلافه -الخطأ الذي حاول رابين تصحيحه، وكلفه ذلك حياته.
ولكن مع وجود أكثر من نصف مليون مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية وحكومة تتجه نحو اليمين -كما تفعل إسرائيل دائماً بعد معاناتها من الصدمات- هل من الممكن البدء بجدية في التفاوض على تسوية؟ “إذا كان لدينا صراع داخلي فيما بيننا، وحتى صراع فيزيائي بين الإسرائيليين، فإن إسرائيل ستظل ستنجو مع ذلك. سوف تنجو من ذلك وهذا هو بيت القصيد. (لكنّ) أي شخص يهتم بمستقبل إسرائيل عليه أن يفهم أنه من دون حل القضية الفلسطينية، لن تنجو إسرائيل”.
إن القصة بعيدة كل البعد عن النهاية.
*جيمي ديتمر Jamie Dettmer: محرر الرأي في قسم أوروبا في مجلة “بوليتيكو”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Sinwar might be gone, but Israel’s mission is far from over
المصدر: الغد الأردنية/ (بوليتيكو)