لا وقت للكلام

كمال عبد اللطيف

لا وقت اليوم للكلام. كشف الوحشُ عن أنيابه وقرّر ألّا يسمع شيئاً. وَجَّه عتاده الحربي نحو الفلسطينيين، وبدأ يمارس جنونه بكثير من الصخب والعنف، يهدم ويحرق ويقتل الصغار والكبار، حوّل الأرض الفلسطينية مقبرةً كبيرةً. إنّه اليوم لا يسمع الصياح ولا البكاء ولا العويل، وهو يعمل على مزيد من تجويع ومزيد من تهجير الفلسطينيين. ولا وقت لديه لمتابعة مواقفَ المنتظم الدولي وقراراته، يواصل رسم خطط الإبادة الجماعية مندفعاً بكثير من الجنون. لم يتوقّف سنة كاملة عن إعلان ضرورة اجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه، بعدما ملأ جغرافيته بالمستوطنات، وعمل طيلة عقود القرن الماضي لإعداد العناصر الكبرى لتاريخٍ وجغرافيا يحلم بها، ويرسم ملامحها كلّ يوم.

يقول قائل إن المسألة اليوم أصبحت أكثر تعقيداً، لم تعد ملامحها واضحةً، وكنا نتصوّر أنّ مرور أيام وأشهر على بداياتها، يمكن أن يساهم في خلخلة بعض أركانها، إلّا أنّ مرور أكثر من سنة على انفجارها حَوَّلَ الأحداث الناتجة منها أحداثاً يصعب اليوم لَجْمُ حركتها، أو التنبّؤ بالمسارات التي يمكن أن تترتّب منها، فمن يستطيع أن يرسم بوضوح مآلات ما يقع في الشام الكُبرى؟

اتّسعت جغرافية الحرب المشتعلة، أصبحت تشمل اليوم أرض فلسطين المحتلّة، حولّت مدن غزّة ومخيماتها خراباً، وامتلأت أرضها بالمقابر الجماعية والأوبئة، ويجري في باقي المدن الفلسطينية تهديد الفلسطينيين بالاجتثاث والإبادة. اتّسعت الحرب المشتعلة، وتشمل اليوم لبنان وسورية واليمن والعراق والأردن، كما تشمل إيران وتركيا. اتّسعت الحرب التي نعرف أنّها نشأت منذ بداياتها في حجم كبير، فشاهدنا حاملة الطائرات الأميركية الراسية في البحر الأبيض المتوسّط تتحرّك شرقاً لترسو في المياه الإقليمية لمصر والشام الكُبرى، دفاعاً عن دولة الكيان الصهيوني. كانت حركة المقاومة التي فَجَّرت “طوفان الأقصى” مُزلزلَة، ولم يعد بإمكان صهاينة العالم إلّا الاندحار أو الجنون، فاختاروا الجنون.

تجري الحرب وتتّسع اليوم أمام العالم أجمع، ولا يستطيع أحدٌ وقف نيرانها المتصاعدة، ولأنّ المنتظم الدولي يمرّ بطور انتقالي، فإنّ مواقفه وبياناته لا يمكن أن تُغيِّر الملامح الكُبرى للحرب المتواصلة. أما العرب فإنّنا نتصوَّر أنّهم غادروا أرضهم، من دون أن يعرف أحد أين ذهبوا ومتى يعودون، والأشباح تملأ الأمكنة اليوم في ديارهم، فإنّهم لا يتوقفون عن الكلام وعن الغناء، ولا يعرف أحد في العالم موضوعات أحاديثهم ومناسبات الغناء والرقص المتصاعد في بيوتهم. كثر في ديارهم في السنوات الماضية عددُ التائهين والحمقى والمغفّلين. اختفت جامعة الدول العربية ومؤسّسات التعاون الإقليمي العربية، اختفى مشروع التنمية والنهضة والإصلاح الديمقراطي، ولم نعد نسمع بيانات التضامن والتآزر مع القضية الفلسطينية، وهي البيانات التي استأنسنا بها في المناسبات المرتبطة بمؤتمرات القمّة العربية وباقي مؤسّسات التعاون الإقليمي.

فعل المقاومة اليوم يُعيد قضية التحرير إلى الواجهة

لا ندري كيف انتقل خطاب الأنظمة السياسية العربية من لغة التضامن إلى لغة التطبيع المباشرة، وكيف ساهم الغرب المُتصهين في تحويل مشروع المقاومة الفلسطينية مشروعاً في الاعتداء على المحتلّين والمستوطنين، وقد قدموا من قارّات العالم أجمع من أجل شراء أرض وامتلاك دولة في قلب المشرق العربي، كما لا تُفهم اليوم الأحاديث التي أصبحت تملأ كثيراً من منصّات التواصل الواقعية والافتراضية، أحاديث المِلَل والنحل والطوائف كما نشأت في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي يضعنا في قلب عملية ارتداد تُشعرْنا بغرابة ما يتردّد من أحاديث عن السنّة والشيعة، وما يرتبط بهذين المفهومين من أحكام لا علاقة لها بروح رسالة الإسلام، ولا علاقة لها بالاستعمار الاستيطاني وتجلّياته وتداعياته في المشرق العربي.

وصل التدهور العربي حالةً أصبح فيها العرب عاجزين عن الاستماع بعضهم إلى بعض، والتفكير في كيفيات مواجهة القِوى الإقليمية والدولية. وتَخَطَّى الصراع المتواصل في العراق وسورية وليبيا واليمن والخليج العربي سياقات “الربيع العربي” وتداعياته. أصبح العرب اليوم خارج منطق زمن الثورات العربية، أي خارج معادلات الإصلاح والثورة، وخارج منطق مواجهة الصهيونية ومواجهة الاستبداد والفساد.

الحروب مشتعلة؛ حروب تحرير وحروب إبادة. تتصاعد نيرانها ولا يتردّد المنخرطون في عملياتها في الإشارة إلى علامات النصر أو الهزيمة، وإذا كنّا نتحدّث دائماً عن استحالة الإبادة، فإنّه يمكننا القول إنّ يوم إطلاق “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (2023)، يُعَدّ يوماً فاصلاً في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وذلك رغم الآثار والنتائج كلّها، التي ترتّبت منه في الحاضر الفلسطيني والعربي، فقد كشف الحدث مواقفَ كثير من الأنظمة العربية من المقاومة، كما كشف أحوال أنظمة سياسية عربية لم تعد قادرةً لا على التفكير ولا على العمل المُستقلَّيَن، أنظمة غارقة في لحظات ذهول متواصلة. أمّا الكيان الصهيوني فقد اعتقد أنّ بإمكانه بدعم من الغرب الإمبريالي أن يتمم اليوم مشروعه في تأسيس شرق أوسط جديد، وهو ينخرط في توسيع دوائر الحرب المشتعلة، إلّا أنّه لا يعرف حدود ما هو مُقبل عليه. وذلك أنّ الحرب المتواصلة تُعَدّ عنواناً لممكنات لا حصر لها.

لِنَدَع الفعل المقاوِم يتكلّم، يُترجم المواقف في أرض فلسطين، مسلّحين بالأمل لوقف سنوات من التردُّد والخوف

نقرأ أفعال المقاومة التي يخوضها اليوم فلسطينيو الداخل في سياق المواجهة المطلوبة دائماً بينهم وبين من يستوطن أرضهم وبيوتهم، نقرأها ردَّة فعل على مآلات المسألة الفلسطينية، وعلى مختلف أشكال التحوُّل التي عرفتها في العقود الأربعة الماضية، فلا أحد يستطيع إنكار أنّ فعل المقاومة اليوم يُعيد قضية التحرير إلى الواجهة. وترسم أفعال المقاومة الجارية بالدم وبالحرائق، أفقاً في الفعل التحرّري التاريخي، الحامل لإمكانية التعميم والتطوير، رغم صعوبات السياق العام وإكراهاته.

ننتصر في حركة المقاومة الجديدة للفعل الوطني التحرّري في أبهى تجلّياته، ونستعيد أشرطة العدوان والاغتصاب والاستيطان، وتزوير التاريخ، ونُعايِن الكيفيات التي ركّب بها تاريخ جديد بالحديد والنار.. لا وقت اليوم للكلام، لِنَدَع الفعل المقاوِم يتكلّم، يُترجم المواقف في أرض فلسطين. فما يحصل اليوم، تساهم تقنيات التواصل في توسيع وتعميم مساحات حضوره، فيستمع العالم أجمع لنبض الفصول الجديدة من ملاحم التحرير الفلسطينية. لِنَتَسَلَّح بالأمل الذي يمكن أن يوقف سنوات من التردُّد والخوف، في مُقابل الانفلات الإسرائيلي المتعاظم بالغطرسة وبالأساطير الصهيونية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى