بمناسبة مرور عام على عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) عاد الكلام بقوة عن التغطية الإعلامية لهذا الحدث التاريخي الذي هزّ العالم في أجهزة الإعلام الغربية، وفي النقابات الخاصّة بالمهنة، ولدى الصحافيين خاصّة الذين لم ينخرطوا في موجة واسعة من الانحياز إلى دولة الاحتلال ولخطاب إعلامها الحربي، فقد أدان السكرتير العام لاتحاد الصحافيين العالمي، أنتوني بيلانجيه، تقاعس المجتمع الدولي ومؤسّساته، ودعاه إلى تحمّل مسؤولياته لوقف المجازر والقتل، كما أدان التغطية الإعلامية غير المهنية والمنحازة إلى الحرب لعدة أجهزة إعلام غربية، كما حذَّر من مصير الصحافيين في غزّة، وذلك في رسالة وثّقت الإجراءات التي اتخذتها هذه المنظّمة (تضم 600 ألف إعلامي)، التي تكشف في بيان سكرتيرها العام أنّها حذّرت الجهات الإسرائيلية وأعلمتها بهُويَّات الإعلاميين والصحافيين وكوادرهم منذ بداية العمليات، ورغم ذلك قُتِل 138 إعلامياً عمداً في غزّة ولبنان وسورية. ولكن العدد يصل إلى 175 إعلامياً في غزّة وحدها، ويعود اختلاف العدد إلى أنّ الاتحاد العالمي يأخذ في الحساب من لديهم الهُويَّة الصحافية والمسجلين لديه فقط، وهذا لا يُغيّر من فداحة الجريمة، ولا في حال رفع قضايا ضدّ الاحتلال أو رفع ملفّ للمحاكم الدولية باعتبار هذه الجرائم جرائمَ حربٍ وجرائمَ ضدّ الإنسانية.
استمرّت التغطية الإعلامية للحرب على غزّة مع سير العمليات العسكرية، رغم الاغتيال المفجع والمؤثّر لصحافيين، كانوا صوت غزّة الذي ينصت له الملايين على مدى ساعات اليوم منذ عام. عاش الناس في عالمنا العربي (وغيره) مع وائل الدحدوح، وابنه، ورفاقه الكُثر، الذين أبكونا جميعاً حين غطّوا الأحداث، وحين رحل من رحل منهم مصرّين مثل باقي الغزّيين على البقاء والصمود والمقاومة حتّى النصر أو الشهادة. وغضب ملايين الفرنسيين للتغطية غير العادلة والعنصرية التي وصلت أخيراً (في بعض القنوات) إلى نوع من التطرّف يشبه تطرف المستوطنين. وبعد التغطية الإعلامية صفر التي رصدتها بعض المؤسّسات والمواقع الإعلامية البديلة للقنوات الإخبارية الأكثر مشاهدة من الناس في فرنسا، طالعتنا هذه القنوات نفسها باستضافة منتظمة للناطق الرسمي لجيش الاحتلال الإسرائيلي الموجود في فرنسا، معتبرة إياه المصدر الوحيد للخبر والمعلومة التي تقدمها لجمهورها بشأن الحرب. فهل هناك في العالم، ومهما بلغ التماهي مع دولة (خاصّة مع الكيان الصهيوني) أن يعتبر جهاز إعلامي أنّ مصدر معلوماته بحسب القواعد المهنية يُؤخذ من الناطق الرسمي لجيش يخوض حرب مجازر تلاحقه المحاكم الدولية بمذكّرات اعتقال، ويقدّمه إلى جمهوره مصدراً وحيداً لما يجري، مع سبق إصرار هذا الناطق على ترديد الأكاذيب التي سوّقها كيان الاحتلال عن الرضّع المقطوعة رؤوسهم والاغتصاب في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، رغم تكذيبها من البيت الأبيض نفسه، ومن الصحيفة التي نشرت ذلك، وتكذيب الصحافة الإسرائيلية نفسها.
تغطية غير عادلة وعنصرية وصلت أخيراً (في بعض القنوات) إلى نوع من التطرّف يشبه تطرف المستوطنين
في مقابلة مع هذا الناطق، سأله صحافي فرنسي عن ادّعاءات الجيش عن وجود نفق في مستشفى الشفاء، وقال له إنه رغم نشر جيش الاحتلال فيديو للنفق، لكن الواضح أنّه لا نفق هناك، ولا تبدو الغرفة لمقاتلي حركة حماس، ليرد عليه الناطق “كلامك غير صحيح. هي كذلك. نحن نعرف “حماس” ولدينا من يزوّدنا بمعلومات عنهم، لماذا تتجرأ على سؤالي مثل هذا السؤال ونحن مثلكم، نحن ديمقراطية، وعليك ألا تسألني مثل هذا السؤال، بل اذهب إلى حماس والسلفيين الذين يقتلون”. وفي مقابلة أخرى انتشرت بكثرة في مواقع التواصل، واعتُبِرَت بامتياز وثيقةً لإدانة من استضاف هذا العسكري المتعجرف المليء بالغرور، مثل سيده نتنياهو، أجرتها القناة الخامسة التي تعتبر نافذةَ الدبلوماسية الفرنسية على العالم الفرنكفوني، ففي حوار أجراه الصحافي الفرنسي، محمد كاسي، مع الناطق باسم جيش الاحتلال، موجهاً إلى الأخير سؤالاً: “هل دخول الجيش المستشفى يتوافق مع القواعد الدولية وبالأخص الإنسانية؟”. فأجاب ممثّل الجيش: “بالنسبة لك هل المستشفى مكان لقواعد عسكرية”. أجابه الصحافي: “أنا صحافي أسألك؟”. أجابه الناطق العسكري: “أنا أسالك لأنّك إنسان تعيش في أوروبا (الديمقراطية)، والمستشفى لا يمكن استعماله قاعدةً عسكريةً كما تفعل حماس”. سأله الصحافي: ألا يمكن إخراج المسلّحين من المستشفى في عملية بدل الهجوم على المستشفى”، ليأخذ ممثّل الجيش “الأكثر أخلاقية” بالتهجّم على “حماس” من دون أن يجيب عن السؤال، فأوقفه كاسي ليقول له، إذاً أنتم تقومون بمثل ما تقوم به “حماس”؟ فانزعج العقيد وأخذه شعور التعالي والتفوق، مجيباً: “قليلاً من الاحترام. أنت تتهجّم على الجيش الإسرائيلي وعلى دولة إسرائيل”. وبعد أن كشف الصحافي تناقضات ممثّل جيش الاحتلال وكذبه وإحراجه، وأظهر حقيقة الجيش الإجرامي، أنهى المقابلة التي سبّبت طرد القناة محمد كاسي بعد ساعات.
أدان السكرتير العام لاتحاد الصحافيين العالمي، أنتوني بيلانجيه، التغطية الإعلامية غير المهنية والمنحازة إلى الحرب لعدة أجهزة إعلام غربية
لكنّ أخبث ما قامت به قناة تلفزيونية، هي الأوسع مشاهدةً بين القنوات، استجوابها النائبة الأوروبية من أصل فلسطيني ريما حسن، بمناسبة صيحات الاستهجان التي أطلقتها مجموعة من المدعوين إلى أمسية نظّمها مجلس المؤسّسات اليهودية (كريف) لأربعة الآف من أعضائه وشخصيات من الوسط السياسي والفنّي والثقافي لإحياء ذكرى الأسرى الإسرائيليين، صيحات ارتفعت حينما قال رئيس الوزراء الجديد ميشيل بارنييه إنكم تستطيعون الاعتماد على الرئيس ورئيس الوزراء، وحينما ذكر بارنييه اسم الرئيس ارتفعت صيحات الاستهجان وحاول بارنييه أن يشير بيده لتهدئتها، إلا أنّه توقّف، وجاءت هذه الصيحات عقب طلب الرئيس إيمانويل ماكرون إيقاف تصدير السلاح مثل الذي يستخدم ضد غزّة إلى دولة الكيان لوقف الحرب. دعت قناة “بي إف إم” ريما حسن لتسألها عن موقفها من صيحات الاستهجان، هل تؤيدها أم هي تقف إلى جانب الرئيس؟ اغتنمت حسن فرصة دعوتها هذه من القناة للقول إنّها تريد قبل الردّ أن تدين شكر الناطق الرسمي لجيش الإبادة في فرنسا، أوليفيه رافوفيتز، للقناة، وتمنَّت “أن تدركوا عاجلاً أم آجلاً أنّ عليكم أن تقدّموا حساباً على ذلك. أنا حرّة فيما أقوله. اعترفوا أنّ هذه المرّة الأولى التي تُشكر قناة من ناطق جيش احتلال. إنّ وظيفة الإعلام هي تقديم خدمة محايدة للمشاهد. عندما يشكركم طرف في صراع من دون الآخر، فغداً تشكركم حماس. تقبلوا هذا الكلام، هناك جيش يخرق القانون الدولي”. وهذا ليس قول ريما حسن، إنّه قول الهيئات الدولية والمجتمع الدولي. فكان ردّ الصحافيَّين اللذين استضافاها أنّهما يرفضان هذا التهجّم، وأخذا يقاطعانها، وهي تواصل فكرتها، كي لا تستطرد بالكلام عن جرائم الاحتلال، وعن إدانات المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية له، ولا عن مذكّرات الاعتقال التي صدرت بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه التي تصمت عنها القناة، مثلما تصمت عن التدمير والإبادة والمجازر وقتل الأطفال والنساء بالآلاف في غزّة. وبعد أن استطاعت النائبة قول ما أرادته عن جرائم الاحتلال، أصابت الصحافيَّين بالإرباك فأنهيا المقابلة، في تصرّف عنصري متعالٍ لا يمكن حصوله مع شخصية حكومية في أيّ إعلام، لكنّ صحفيَّي القناة اللذين لم يستضيفا ولا مرّة النائبة منذ بداية الأحداث، أرادا، في الأغلب، إحراجها بهذا السؤال، ووضعا فخّاً لها لتأخذ موقفاً يمكن أن يثير مشكلاتٍ لها، لكنّها نجحت في إيصال ما أرادت، وهو ما دفع المئات، من ضمنهم نواب حزب فرنسا الأبية، في مواقع التواصل إلى نشر الفيديو ومشاركته، وإضافة التعليقات التي تدين القناة، وكل الإعلام الصامت عن المجازر في غزّة.
وقبل مشهد إدانة النائبة حسن هذه القناة وتعاملها مع أخبار غزّة بالمباشر، استجوبت لجنة حكومية قبل الانتخابات أخيراً، مؤلفة من نواب حزب فرنسا الأبية، إدارة هذه القناة، وأخرى غيرها، عن المحتوى وتغطية الحرب، إلّا أنّ المسؤولين فيها أحرجوا وفشلوا في تقديم أسباب مقنعة، وأظهر الاستجواب تواطؤاً صارخاً، وتبنّياً كاملاً لسردية حكومة اليمين الصهيوني المتطرّف. ودعا زعيم حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشيون، الفرنسيين إلى رفع العلم الفلسطيني في كلّ مكان في مواجهة تجريم وزير التعليم العالي الطلّاب ومنعهم من التظاهر لدعم فلسطين بحُجَّة العلمانية.
المصدر: العربي الجديد