يُكثف مشهد الحرب في لبنان سردية العدوان والقتل والتدمير، بحيث يعيد، على نحو مأساوي، فصول الإبادة التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي ولا يزال في قطاع غزّة والضفة الغربية. وبموازاة هذا المشهد اللاإنساني، تتكشّف دبلوماسية حافَة الهاوية التي يدير وفقها الفاعلون الصراع الإسرائيلي الإيراني في المنطقة، والذي بات يحتل الأولوية على حساب حشد موقف دولي وإقليمي يوقف آلة القتل الإسرائيلي في لبنان، والتي تعني، في ظل هذا الواقع، إحداث مأساة إنسانية جديدة.
على نحو لافت، تُظهر الحرب في لبنان المعطى اللاأخلاقي الذي تُبنى عليه سياسات إدارة الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، فبموازاة إرهاب الدولة الذي يمارسه الكيان الإسرائيلي على اللبنانيين منذ نحو ثلاثة أسابيع، بهدف القضاء على البنية العسكرية لحزب الله، وكيل إيران، تنشط دبلوماسية براغماتية تدير الصراع الإسرائيلي الإيراني بمقتضى شروط القوة وحدود الردع الإسرائيلي مع احتواء التصعيد، وذلك بعد استهداف إيران إسرائيل مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مع بقاء الحالة الصراعية كما هي، ترتّبت على ذلك إزاحة الحرب في لبنان إلى الهامش، باعتبار ذلك مستوىً ثانويّاً للصراع الإسرائيلي – الإيراني، وتتباين أدوات هذه الدبلوماسية وأهدافها، سواء في ما يخص إسرائيل وحلفاءها الغربيين أو ما يخص إيران، ففي حين تحرص إسرائيل على رهن منطقة الشرق الأوسط عند حافَة حرب وشيكة، بإخضاعها لآليات ردّها العسكري المرتقب على إيران، وما يمنحه لها من ضوء أخضر لاستمرار حربها في لبنان ضد حزب الله، والأهم عزل لبنان ساحة رئيسية للمقاومة الإسلامية عن مسارات حرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة، ومن ثم فك ارتباط الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي عن صراعها مع إيران وحلفائها في المنطقة، أي تفكيك معسكر قوى المقاومة المناوئة لها، فيما يحرص حلفاؤها الغربيون إلى ضبط آلة ردع الكيان الإسرائيلي لإيران من دون أن يؤدّي إلى انجرار المنطقة إلى حرب شاملة، والذي يبدو أنه يشكل هدفاً يتوافق عنده الجميع بما في ذلك إيران التي تتبنى دبلوماسية احتواء الصراع مع إسرائيل.
إسرائيل هي من فرض حرباً جائرة يدفع كلفتها المدنيون من القتل والنزوح إلى تقويض سبل الحياة الممكنة
حيث تكون أهداف إسرائيل متعينة، وبغض النظر عن انتهاك القانون الدولي أو نتائج أهدافها على السلم في المنطقة، تكون الولايات المتحدة الأداة التي تحقق بنك الأهداف المتغيرة لحليفها، بوسائل عسكرية أو دبلوماسية، فالترابط التكاملي بين الحليفين لا يميز طبيعة الأدوار والوظائف وحدود العلاقة البينية، وإنما يفترض خوض حربٍ وجودية دفاعاً وإسناداً لإسرائيل مهما كان الثمن. وإذا كانت حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، على مدى عام، كشف وبلا مراء طبيعة الإسناد الأميركي ومستوياته، وإن شابه خلافٌ بين الحلفيين في الأدوات، فإن الحرب في لبنان شكلت انكشافاً آخر لطبيعة هذا الإسناد والتعزيز، وإن بصورة أعمق، فإلى جانب الشرعنة لحربه في لبنان وتوسيع بنك أهدافه التي لا تقتصر على استهداف بنية حزب الله وقياداته، بل تنفيذ عمليات تستهدف قادة الفصائل الفلسطينية، فإن تأمين إسرائيل من التهديدات الإقليمية فرضت مستوى آخر من الإسناد بدخول أميركا شريكاً في هذه الحرب، بدءاً بالتصدّي للهجمات التي تطاول إسرائيل من إيران وحلفائها في المنطقة، إلى توفير الأرضية السياسية لمضي إسرائيل في تحقيق أهدافها في لبنان، وذلك بتعطيل أي دبلوماسيةٍ نشطة، تهدف إلى وقف إطلاق النار، قبل أن تؤدّي المعارك إلى إنهاك حزب الله، ومن ثم تغيير المعادلة السياسية في لبنان، وربما طبيعة النظام الذي يشكّل حزب الله طرفاً مؤثراً فيه، وهو ما تتقاطع عنده أهداف الحليفين، وكذلك منافسي إيران في المنطقة. إضافة، وهو الأهم، وبموازاة استمرار الحرب في لبنان، تحرص الإدارة الأميركية على ضبط الصراع بين إسرائيل وإيران عند حافَة الهاوية مع تمكين حليفها من الردع مقابل تطويق انجراف المنطقة إلى حربٍ شاملة، بالتوافق مع حليفها بشأن طبيعة الرد العسكري على إيران وحدوده، ومن ثم تنسيق عملياتهما المشتركة في ضوء الأهداف الإسرائيلية، إلا أن الإدارة الأميركية قد تخاطر بتبني دبلوماسية غير موثوقة النتائج إلى جانب تداعياتها الكارثية، فإلى جانب تجاهل استمرار حرب الكيان الإسرائيلي في لبنان، وتفاقم الوضع الإنساني، ما يجعلها شريكة في هذه الجرائم، تكرّس هذه الدبلوماسية المختلة حالة الصراع في منطقة حيوية واستراتيجية، كمنطقة الشرق الأوسط إلى أمد بعيد، وما تترتّب عليه من تداعيات اقتصادية على الاقتصاد العالمي، كما أن حدود الردع الإسرائيلي ضد إيران يظل محل اختبار الإدارة الأميركية في وقت حرج، إذ إن التزام حليفها بتقييداتها، وأيضا مخاوفها، وبالطبع مصالحها الحيوية في المنطقة قد يعيقه تباين آليات الردع وحدودها، وأيضا حالة الفراغ السياسي التي تواجهها الإدارة الأميركية في الوقت الحالي مع قرب الانتخابات الرئاسية، ما يعني ضعف تأثير الضغط الدبلوماسي على قرارات حليفها، وإن كانت ستلتزم بخيار الدفاع عن إسرائيل، أياً كانت طبيعة الجولة القادمة مع إيران.
حيث تكون أهداف إسرائيل متعينة، وبغض النظر عن انتهاك القانون الدولي، تكون الولايات المتحدة الأداة التي تحقق بنك الأهداف المتغيرة لحليفها
في المقابل، تفرض ديناميكية الصراع مع إسرائيل، ونطاقات الردّ العسكري المرتقب ثقلها على السياسة الإيرانية في الوقت الحالي، بتضمّنه أيضاً مسارات الحرب في لبنان، وتأثيرها على الشكل التحالفي مع حزب الله، وعلى علاقتها بدول المنطقة، إذ إن إيران، وإن حققت أهدافها السياسية من هجومها أخيراً على إسرائيل، ولو بمحاولة موازنة سياسة الردع، وتطمين حليفها حزب الله الذي يواجه حملة اجتثاثٍ غير مسبوقة، وأيضاً شبكة حلفائها في المنطقة، وذلك بقدرتها على إدارة الصراع مع إسرائيل، فإن استمرار حرب الكيان في لبنان، وبلا أفق زمني محدّد، يعني استنزاف حزب الله في معركة غير متكافئة من حيث القوة، ومن ثم دفعه إلى خوض حرب دفاعية مفتوحة، ومن ثم تعريضه لضغط عسكري دائم، إلى جانب ضغط الحالة السياسية في لبنان، والتي تعني، في ضوء تعدّد الطوائف وتوزع ولاءاتها، انحسار الدعم الشعبي لإسناده في مواجهة العدوان الإسرائيلي. ومع أن إيران كيّفت استراتيجية جديدة للتعاطي مع هذه التحدّيات التي تستهدف نفوذها الإقليمي، وأيضاً تطورات صراعها مع إسرائيل، راوحت ما بين التلويح بالقوة وتأكيد استمرار دعم المقاومة الإسلامية في غزّة ولبنان، وتسييج علاقات مع وكلائها، لكنها حرصت على تنشيط دبلوماسية وقائية تجنبها الصدام المباشر مع إسرائيل، لتقليص خيار معركة غير متكافئة لا يمكن قياس خسائرها، إما بإدارة تفاهمات غير مباشرة مع أميركا للضغط على حليفها الإسرائيلي وإما بتحييد الدول الخليجية، وتحديداً السعودية، في أي صراع مرتقب مع إسرائيل، إضافة إلى إعادة ضبط معادلة صراعها مع إسرائيل، انطلاقاً من القضية الفلسطينية، مع تأكيد وحدة ساحات المقاومة الإسلامية، وذلك عبر الدعوة إلى وقف إطلاق النار في لبنان وغزّة، ما يعني ربط الملفّين معاً، ومن ثم استثمارهما تفاوضياً، وهو ما تكشّف في مضامين زيارة وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، السعودية، والتوافق بشأن تحييد استخدام مجالها الجوي في أي هجوم ضد إيران وفي هذه الحالة القواعد الأميركية، مقابل التهديد ولو ضمنياً بخياراتها للرد العسكري في حال تعرّضها للهجوم، وإذا كان التوافق الإيراني – السعودي إقليمياً يتقاطع عند تجنيب المنطقة حرباً شاملة، فإن أولوياتهما مختلفة في ما يخص الحرب في لبنان. ومن ثم، تكشف دبلوماسية الاحتواء المبنية على مخاوفها وفي مقدّمتها تفادي مواجهة مباشرة مع إسرائيل ارتباك الدبلوماسية الإيرانية وتذبذبها، تجلى في مستوى سياسي آخر بتبنّي حزب الله، ولأول مرّة، مطلب وقف إطلاق النار مع إسرائيل، من دون ربطه بوقف إطلاق النار في قطاع غزّة، نزولاً كما يبدو لضغوط أطراف المعادلة اللبنانية، وربما لدبلوماسية الاحتواء التي تتبنّاها إيران، وبعيداً عن إمكانية وقف إطلاق النار في لبنان أم لا، تتحرّك إيران بموجب أولوياتها ومستويات إدارة صراعها مع إسرائيل.
في واقع إقليميٍّ مضطرب، تبقى السيناريوهات غير واضحة، والاحتمالات مشروطة بقوة الردع الإسرائيلي وحدوده، الذهاب إلى حرب شاملة أم التأرجح على حافة الهاوية، بحيث يظلّ ترقّب الردّ الإسرائيلي على هجوم إيران وتبعاته على الإقليم، والآلية التي سيتبعها الخصمان وحلفاؤهم في المنطق للردّ هو المسيطر على الوضع الإقليمي. وأيّاً كان السيناريو المظلم الذي تتحرّك فيه معادلة الصراع الإسرائيلي الإيراني في المنطقة، وقدرة الفاعلين على ضبط هذه الدبلوماسية، فإن المحزن ليس فقط أن آلة القتل الإسرائيلية تستبيح الجغرافيا، وتوسع من دمارها وقتلها المدنيين في فلسطين المحتلة، وسورية والعراق، ولبنان الآن، بل قد تطاول آلة القتل والتدمير هذه دولاً أخرى في المستقبل. وفي ضوء حمّى تبادل الردع والردع المقابل بين إسرائيل وإيران، تختزل المأساة اللبنانية إلى حالة صراع هامشي بين القوة الباغية وطرف محلي يدافع عن نفسه، ومهما كان خلافنا السياسي مع حزب الله، وأيضاً علاقته بإيران، فإسرائيل هي من فرض حرباً جائرة يدفع كلفتها المدنيون من القتل والنزوح إلى تقويض سبل الحياة الممكنة.
المصدر: العربي الجديد