عام يمر على الصمود الأسطوري للمقاومة في غزة العزة، في وجه آلة حربٍ ذهبت في الإجرام وسفك الدماء والتدمير المُمَنْهج إلى أبعد الحدود.
تسارعت فيه الأحداث وتدحرجت بسرعةٍ متناهيةٍ، يصعب في كثيرٍ من الأحيان مُتابعتها، أو التوقف عندها لتحليلها وفهمها.
إنه عام الأحداث الكبيرة بامتيازٍ، وكما لم تعهدها منطقتنا العربية، التي تعودت على السباحة في المياه الراكدة. وما يكتب الآن يصبح بعد ساعةٍ لا قيمة له، وقد تجاوزته الأحداث، لأن هذه الحرب القائمة على أرض فلسطين في غزة والضفة، وبقية الساحات، هي حربٌ بلا ضوابط، وبلا ثوابت، وتتجاوز كل التوقعات، وما دُرِّس ويُدرس في الأكاديميات العسكريَّة…
جدار فصلٍ عُنْصُريٍّ
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والكيان الصُّهْيوني ومن ورائه أمريكا والغرب الاستعماري، يساورهم إحساسٌ أن هناك من امتهن كبرياءهم، وكرامتهم، ومرَّغهما في التراب.. فالكلُّ كان يُشارك في حصار غزة منذ عام 2006، وكثيرٌ من العرب أيضًا.. والجميع كانوا يُراقبون، ويُدققون، ويُفتشون، حتى النمل العابر للحدود، وكما بنى الكيان الصُّهْيوني جدار فصلٍ عُنْصُريٍّ، كذلك فعلت الشقيقة الكبرى مصر العروبة، فطبقت الأوامر بحذافيرها، وزادت، أو بالأحرى زاوَدَت على الكيان الصُّهْيوني، أن تعمَّقت في الأرض أكثر منه، وأغرقت حُفَرًا بالماء على أعماقٍ مختلفةٍ…
وعلى الرغم من ذلك كله، استطاعت المقاومة في غزة هاشم، الضحك عليهم جميعًا، والاستهزاء بهم، وبأقمارهم الصناعية، وبطائرتهم المسيرة، التي تحصي أنفاس سكان القطاع، وتلتقط لهم صورًا، وتسجل بصمات أصواتهم، وماذا يطبخون، وساعات دخولهم للمراحيض، فكانوا يعرفون.. ويعرفون.. ولكن السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أثبت أنهم في الجهالة يَعْمَهون، وأتاهم الطوفان من حيث لم يَحْتسِبُوا…!
لقد حدث ذلك في وقتٍ دخلت فيه أنظمة المنطقة بازار التطبيع، والهرولة وراء الجَزَرَة الأمريكية، التي في حقيقتها سراب..
وقامت أجهزة الإعلام العربية والنخب، بإعادة صياغة للذاكرة، وبإقناع الجماهير العربية التي لم تجف دماء أبنائها بعد، أن الحرب مع الكيان الصُّهْيوني غير مُمْكِنةٍ، لأن وراءه الآلهة أمريكا، التي لا يمكن هزيمتها، مع أنها وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، قد هُزمت في فيتنام، وأفغانستان، وأيضًا في العراق الحبيب.. ولو لم تَخْترع في نهاية الأمر بالتوافق مع حُلفائها في المنطقة الشركة المساهمة “داعش”، لكانت هزيمتها بِجَلاجِل…
إن الظرف الإقليمي والدولي اليوم، بلا شك لصالح الكيان الذي لا يردعه رادعٌ، بل على العكس، فإنه كلما توحَّش وأوْغَل في القتل، والغَوْص في بحار الدماء البريئة، كلما ارتفعت أسهمه لدى صهاينة الداخل والخارج، وصفق له الغرب الحاقد وكثيرون في منطقتنا العربية، الذين يَودُّون الخلاص من فلسطين وقضيتها، بأيِّ ثمنٍ للأسف…!
وإذا كان الكيان الغاصب يريد الانتقام لشرفه، فإن الآلهة أمريكا تبحث عن الانتقام أكثر منه، لأسبابٍ كثيرة يأتي في مُقدمتها شعورها أنها هي التي هُزمت يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لأن هناك من تجرأ على ربيتها المُدللة، وكشف للعالم أنها كرتونية.. ولأن الآلهة تستثمر المليارات في الصناعات العسكريَّة الصُّهْيونيَّة، مُسخِّرةً لذلك كل إمكانيَّاتها، بالإضافة إلى مُخْتبرات جامعات العالم التقنية المُتطورة، التي تعتبر المختبر المتقدم لكل صناعات الكيان وأمريكا العسكرية.. وبالتالي فإن الذي ضُرب هو سمعة السلاح الأمريكي، ولنتذكر في هذا الصدد مقولة وزير خارجية أمريكا السابق هنري كيسنجر للسادات، أيام ثغرة الدفرسوار « لن نسمح بهزيمة السلاح الأمريكي ».. لأنه يمثل هيبة أمريكا في العالم، وأساس اقتصادها.. وكيف الحال اليوم والسلاح الأمريكي والصُّهْيوني على السواء، قد تمَّ الدوس عليهما في غزة، ببسالة وبطولة أبنائها، وبأسلحةٍ بسيطةٍ مُصنَّعةٍ محليًّا، يأتي في مقدمتها « الياسين »، وما أدراك ما الياسين…!؟
دوامة «المُفاوضات»
وها هي ذي، أمريكا والغرب من ورائها، وأعدقاء كثر، يُدخلون المقاومة وكل المتعاطفين معها في دوامة «المُفاوضات»، التي لا، ولن تنتهي، لأنها في حقيقتها إعطاء مزيدٍ من الفُرَص للكيان الغاصب، لكي يَمْضي، ويُكمل ذبح آخر فلسطيني، ولكي يستطيع تحقيق انتصارٍ ساحقٍ..
فهذه هي الفرصة حقًّا، ولن يجد أفضل منها في ظل وضعٍ عربيٍّ مُهْترئٍ مُتخاذلٍ، يُغازِل الكيان حدَّ التآمر… وجميعهم وعلى رأسهم أمريكا يكذبون عندما يُصرحون بأنه « لا علم لهم »، والواقع أنهم يعرفون، ويقفون في المقدمة، ومن ورائهم الكيان.. فهم الذين زوَّدوه بالسلاح اللازم، والمعلومات الاستخباراتية، وهم الذين يحمونه إعلاميا، وبالفيتو إنْ لزم الأمر… إن أمريكا اليوم، كما البارحة، تدعم الكيان الغاصب حتى الثمالة، وغريزة الانتقام عندها أقوى ممَّا عند الصهاينة أنفسهم.. وعندما تطلب من الكيان وقف إطلاق النار، فإن ذلك يعني: اذهبوا حتى النهاية، ولكن بسرعة، ومن دون ضجيج…!
حق الدفاع عن النفس
أما التبجُّح أن الكيان من حقه الدفاع عن نفسه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ليس من حق شعوبنا الدفاع عن أنفسها أيضًا…؟! وهي التي يُعتدى عليها، وتُحتل أراضيها، وتُنتهك حدودها، ويُشرد شعبها…؟! ثم أفيدونا، هل قتل الأطفال الرضع، والنساء، والعجائز، وتدمير المستشفيات، والمدارس، والجامعات، وكل مؤسسات الرعاية الاجتماعية، ونَبْش القُبور، وإحراق الجُثث، هو دفاعٌ عن النفس…؟!
ثم كيف يكون ضَبْط النفس الذي تُطالبوننا به، أمام عَرْبَدات الكيان المارق، الذي يعتبر أن قتل الآخر، والتوضؤ بدمائه قُرْبى إلى الله، طبقًا للمقولة التوراتية…
منذ كوندوليزا رايس عام 2006 وهم يتحدثون عن «شرق أوسطٍ جديدٍ»، وكل واحدٍ منهم يريده على مزاجه ومقاسه، وطبقا لمصالحه.. والسبب الرئيسي في ذلك أنه لم يعد في هذا الشرق قادة لهم وزنهم وتأثيرهم على الساحة الدولية، وحتى في أوطانهم.. صامتون صَمْتَ أبي الهَوْل، لا طعم، ولا رائحة لهم، وكأنهم غير معنيين بكلِّ ما يدور.. ممَّا دفع نتنياهو مُؤخرا للحديث بعنجيةٍ عن رسم خريطة المنطقة من جديدٍ، وتحقيقُ شرق أوسطٍ جديدٍ أيضًا.. مبنيٍّ على محور الخير، في مقابل محور الشرِّ.. والذي في حقيقته مجتمع الأسياد، في مقابل مُجْتمع العبيد، طبقا للمَقولة التوراتية..
وهذا يؤكد ما كنا نُردِّده منذ انطلاق طوفان الأقصى، أن فلسطين هي الخندق والمتراس الأخير، وأنه لو هزمت مُقاومتها لا سمح الله، فالدور آت على الدول المجاورة واحدة بعد الأخرى.. وذلك من أجل تحقيق حلم «إسرائيل الكبرى»، وهو ما بدأ يظهر جَليًّا منذ خطاب نتنياهو العام الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما صرح فيه ترامب مؤخرًا، من أن الكيان الغاصب صغيرٌ، ويجب أن يكون أكبر.. وهو الأساس الذي يبني عليه الكيان اليوم كل خطواته في حربه الحالية…!
وكل ذلك يحدث في ظل تغيراتٍ عميقةٍ طالت الجماهير العربية وساحات النضال في المنطقة العربية المُحيطة، ولم يبق إلا القليل ممَّن يعضون على المبادئ بالنواجذ.. وأن الجماهير العربية التي كانت تُلْهب الشوارع بهتافاتها وشعاراتها، ويُرْعب صوتُها المتربعين على كراسي الحُكْم والعُروش، غَدَت مُدَجَّنةً، وتكتفي بمتابعة الأحداث عبر الهواتف الذكية، وتوزيع المشاعر المجانيَّة عند مشاهدة بحار الدماء، والأجسام المقطعة الأوصال…!
أما في الغرب، فإن ساسته يرون في انتصار الكيان في حربه انتصارًا لهم، ويباركون هذه «الدَّاعِشِيَّة» المُكْتملة الأوصاف في نتنياهو.. ويُصفِّقون له، لأنه يفعل بالعرب من فلسطينيين ولبنانيين وغيرهم، ما لم يستطيعوا هم فعله خلال مرحلة استعمارهم للمنطقة…
شعاراتٌ فارغة
وخاتمة القول إن كل الدعوات التي يطلقها الغرب حول حقوق الإنسان والسلام والحرية هي متعٌ كلاميةٌ، وشعاراتٌ فارغة، إن لم تكن هراء.. وإن كل الدعوات لوقف إطلاق النار وتحقيق السلام في المنطقة، هي مجرد هَرْطقات لتمضية الوقت، طالما لم تُتخذ إجراءاتٌ فوريةٌ ورادعةٌ ضد الكيان الغاصب.. وإنه آن الأوان لتتغيَّر المُعادلات وتصبح أرواحنا ودماؤنا كبشرٍ، في مُوازاة دماء الصهاينة والأوروبيين والأمريكان.. ويا ويلنا لو انهزمت فلسطين كما يُخططون اليوم، وعندها لن يردع الصهاينة رادع، ولن ينفع ساعتها الندم…!
كاتب وباحث لبناني يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي