فى المراحل التاريخية للاستعمار الغربى لمصر والعالم العربى تشكل معا العقل السياسى، والقانونى شبه الحداثى، من خلال التعليم الحديث، والمدارس المدنية، والبعثات إلى الجامعات الأوروبية، فى فرنسا اثناء بناء الدولة الحديثة في عهدي محمد علي والخديو إسماعيل، وبريطانيا وإيطاليا بحسب الدولة المستعمرة للبلدان العربية . كانت المقارنات بين تقدم البلدان الأوروبية، وبين تخلف مجتمعاتنا، تمثل الأسئلة المركزية التى شاغلت العقل السياسى، والقانونى المصرى، والعربى فى مراحل تكوينه التاريخية، وكانت مداخل الإجابات على سؤال لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ وفق شكيب أرسلان تدور حول العلم، والتكنولوجيا، والحرية، والقانون الوضعي الحديث، والإدارة. بعض الفكر العربى اتجه نحو ضرورة تجديد الفكر الدينى النقلى، وتوظيف نظام الشريعة ومفهوم المصلحة والمقاصد لمواجهة الاستعمار والتغريب . بعض المفكرين ذهب إلى ضرورة تبنى النظم السياسية والقانونية التى ترتكز على الفصل والتمايز بين الدين والدولة فى السياسة والقانون وتنظيم المجتمع والحياة، وتبنى الحداثة، السياسية، والقانونية، وفى تحرير المجال العام السياسى والاجتماعى، من القيود الدينية. الاتجاه الثالث في الفكر العربي ، حاول التوفيق بين التحديث المادى والسلطوى للمؤسسات والقيم، وبين الإسلام، ونظام الشريعة والقيم الإسلامية والموروث الديني . الاتجاه الرابع الأصولي وعلماء الدين التقليديين رفض الحداثة وبعض التحديث لصالح الدفاع والتمسك بالتراث . تبنت السلطة السياسية الحاكمة مذّاك، وحتى الآن الاتجاه الذى يوظف نظام الشريعة القانونى، فى عملياتها السياسية، وأيضا فى مجال الأحوال الشخصية وفق مصالحها في كل مرحلة وتوجه سياسي . مشكلة غالبُ الاتجاهات التوفيقية ظلت تدور في دائرة الثنائيات المتضادة وتناقضاتهادونما تجديد جوهري في الفكر والتنظيم الاجتماعي والقانوني والسياسي والثقافي ،بينما ظل الفكر النقلي الأتباعي يعيد إنتاج ماضويته الخارجة عن سياقات التطور التاريخي . العقل السياسى شبه الحداثى الذى تشكل فى المرحلة شبه الليبرالية فى مصر، ركز على العمليات السياسية الشكلية للنظام الدستورى، والمؤسسات السياسية فى ظل الطبقة الحاكمة شبه الإقطاعية، وشبه الرأسمالية، التى هيمن بعض رموزها السياسية على الأحزاب السياسية -الأحرار الدستوريين، وحزب الوفد..الخ- مع طبقة الأفندية التى لعبت دوراً هاماً فى الانتفاضة الجماهيرية الوطنية الكبرى عام 1919، والتي طالبت بالدستور والاستقلال، وفى قلبها كان المحامين والعقل القانونى والسياسى المحرك الأساس للحركة السياسية المصرية، ولعب دوراً هاماً فى عمليات تشكيل وتبلور مفهوم “القومية المصرية” فكرياً، وفى المطالبة بالاستقلال والدستور معًا. هذا الدور التاريخى للمحامين، والقانونيين، مرجعه الاستعارات القانونية من المرجعية الفلسفية والنظرية اللاتينية -الإيطالية والفرنسية والبلجيكية- وبعض روافدها فى عصر محمد على، ثم فى عهد إسماعيل باشا، وما بعد.
تشكل هذا العقل القانونى والسياسى معاً من خلال نظام التعليم القانونى، فى فرنسا عبر البعثات الخارجية، أو من خلال مدرسة الحقوق الفرنسية، ثم كلية الحقوق. كانت مسألة الحرية والاستقلال والدستور والقانون أحد أبرز المكونات المفاهيمية للعقل القانونى والسياسى، الذى ساهم فى بناء الدولة الحديثة، وإدارتها، وأيضا فى الحياة السياسية والحزبية، وفى تشكيل البرلمانات، وبعضهم عمل بالقضاء، أو في الدرس الأكاديمى كعلماء قانون فى كلية الحقوق.
كانت الحرية، وضماناتها الدستورية، والقانونية أحد أهم شواغل العقل القانونى المصرى شبه الحداثى، فى مطالباته الحزبية والسياسية، وفى مجلسى النواب والشيوخ، وفى وضع دستور 1923، وفى مواجهة ونقد دستور إسماعيل صدقى باشا عام 1930 الذي عُد انقلاباً دستوريا.
على صعيد الفقه الدستورى، والقانون العام والخاص كان الإنتاج العلمى في غالبه متميزاً، وعلى صلة وثيقة بالإنتاج الفرنسي النظري والتطبيقي فى مجالات القانون المختلفة، وهو ما ساهم فى تطور العقل القانونى والسياسى المصرى، وخاصة فى قضايا الحريات العامة والشخصية، والحقوق عموما.
كان التفاعل الخلاق بين القضاء المصرى المستقل، وبين كافة مكونات الجماعات القانونية سمت رئيس للعقل والإنتاج الفكرى القانونى والسياسى، وذلك من خلال الأحكام القضائية بعامة، والمبادئ الأساسية التى استقرت عليها محكمة النقض، والتى كرست ضمانات الحرية، الدستورية والقانونية، والإجرائية فى مواجهة أية تغولات من السلطة التنفيذية ، ورجال السلطة العامة. كان الربط بين الضمانات الموضوعية للحريات العامة والشخصية، وبين الضمانات الإجرائية، وثيق الصلة، لأن الإجراءات الجنائية والمدنية، هى توأم الحرية.
اعتمد العقل القانونى والسياسى، فى تطوره على النزعة التراكمية، من خلال التكوين المعرفى المتجدد، وأيضا الرأسمال الخبراتى، والإطلاع على القانون المقارن، واتجاهات القضاء الفرنسى، والإيطالى والمبادئ القضائية المقارنة، وأيضا على سياسات التشريع فى هذه البلدان، واستعارة الجديد الذى يتلائم مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. العقل القانونى والسياسى التراكمى هو نتاج للحريات والحياة السياسية النشطة فى المرحلة شبه الليبرالية المصرية، وهناك نظائر له فى بعض البلدان العربية ومنها المغرب.
فى ظل النظم الشمولية والتسلطية العربية مابعد الاستقلال، استفادت من بعض النظم اللاتينية القانونية، من المرجعية الفرنسية والبلجيكية، فى نظمها القانونية والقضائية، او من القانون الأنجلوساكسوني ونظام السابقة القضائية ، إلا أن طبيعة نظام ما بعد الاستقلال، أدت إلى تهميش مسألة الحريات العامة والشخصية، لصالح الحريات الاجتماعية دون السياسية، على نحو أدى إلى موت السياسة، والحياة الحزبية التعددية، وخاصة فى المجتمعات الانقسامية الدينية والمذهبية والعرقية واللغوية. أدى موت السياسة، والقيود على الحريات العامة والشخصية إلي هيمنة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والحزب الواحد وإلى تحويل القوانين إلى أدوات قمعية، عقابية، وتمدد النزعة التجريمية والعقابية المفرطة إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على نحو حول الحياة إلى قيود من السياجات الجنائية والقضائية والأمنية.
هذه التوجهات فى دول ما بعد الاستقلال العربية، أدى إلى فرض القيود على استقلال القضاء والجماعات القضائية، وفى تشكيل هذه السلطة والجماعة القضائية، على نحو أثر على المبادىء القضائية العامة لمحاكم النقض، والإدارية العليا، والدستورية العليا فى الدول التى تأخذ بنظم التعدد القضائى.
لاشك أن ذلك أدى إلى تكريس موت السياسة والقيود على الحريات، وفى ذات الوقت إلى تراجع دور العقل القانونى الحر، لصالح العقل القانونى التابع للسلطات العربية الحاكمة.
تراجع البعثات لدراسة القانون فى أوروبا والولايات المتحدة في بعض الدول المعسورة ادي إلى شيوع الطابع ” المحلى ” للعقل القانونى، وإلي فجوات بينه وبين العقل القانوني العالمي المقارن علي تعدده ، وتحولاته النظرية، والتطبيقية على نحو ساهم فى عدم تجديد الفكر القانونى العربى. من ناحية أخرى أدت الأنفجارات التشريعية فى القوانين واللوائح الى انكسار النزعة التراكمية ، والرأسمال الخبراتى للعقل القانونى العربى، والاستثناءات محدودة. اللاتراكمية لم تقتصر على العقل القانونى، وشملت العقل السياسى، فى عدم استعياب التجارب القانونية والسياسية السابقة فى كل دولة ومجتمع عربى والوقوع في ذات الأعطاب والمشكلات مجدداً ، وذلك مرجعه التغيرات فى غالب النظم السياسية العربية وخاصة فى دول العسر، وتراكم وتفاقم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية على نحو أدى إلى المزيد من اللجوء إلى النزعة التجريمية والعقابية كأدوات أساسية للحكم.
النزعة التجريمية والعقابية المفرطة في النظم القانونية العربية دلالة علي وهن العقل القانوني شبه الحداثي الذي تراجع بعد الاستقلال عن الاستعمار عن تعظيم وتأصيل وتجذير مفهوم الحرية في الفلسفة القانونية والسياسية ، وحمايتها ضد تغول السلطة السياسية الحاكمة ، وايضاً إزاء اية إنتهاكات من من سلطات الضبط ، لاسيما أجهزة الأمن والاستخبارات أيا كانت مسمياتها في الدول العربية التي تغولت في سلطاتها وممارساتها خارج القانون او في ظله ، وايضاً الموظفين العمومين في أجهزة الدولة البيروقراطية التي تراكمت تاريخيا ممارساتها التي لا تأبه بالقانون ، وضوابطه الإجرائية والموضوعية – لاعتبارات الفساد السياسي والوظيفي وعدم الكفاءة – بل وعدم مبالاة بعضهم بالضمانات والأحكام القضائية في ظل عدم استقلال القضاء والقضاة . هذا الميراث الوبيل والمفرط في تجاوزاته للقانون وانتهاكه للقانون مرجعه عدم استقلالية السلطات الثلاث ، والتمايز الوظيفي بين بعضهم بعضا ، في ظل التعاون فيما بين هذه السلطات ، وهيمنة السلطة التنفيذية ومواقع القوة داخلها ، حول الحاكم ومعاونيه واتباعه . من هنا التسلطية السياسية ، او النمط الشمولي للسلطة ، وموت السياسة ادي إلي إنتاج عقل قانوني موازي للعقل السياسي التسلطي والشمولي بحسب طبيعة كل نظام عربي ، يمكن وصفه بالعقل القانوني التسلطي الرسمي ، او العقل القانوني الشمولي . هما نمطين عقليين أداتين في حيازة السلطة الحاكمة وتابعين لها ، وينفذان مطالبها في وضع مشروعات التشريعات التي يمررها برلمان تابع للحكم .
لا شك أن تجديد العقل القانونى العربى يتطلب التحول الهيكلي أو الإصلاحي نحو الديمقراطية التمثيلية ، وحقوق المواطنة في داخل بنية حقوق الإنسان وأجيالها المختلفة ، وإعادة النظر النقدي والإصلاحي في الانساق القانونية المختلفة بما يتوافق مع دعم الحريات العامة والشخصية وحقوق الإنسان والمواطنة ، والتراجع عن النزعة التجريمية والعقابية المفرطة وما كان يطلق عليه محمود محمود مصطفي عميد الفقه الجنائي المصري بالردة عن التجريم ، وهو أمر رهين بتغيرات هيكلية في النظم السياسية العربية وتكوين الطبقات السياسية الحاكمة . من ناحية اخري تجديد العقل القانوني يتطلب إعادة بناء وتجديد الجسور مع القانون والقضاء المقارن، وإعادة التوازن بين القانون والحرية.
المصدر: الأهرام