تفرض الحرب منطقها على المحيطين بها، سواء انخرطوا فيها أطرافاً متصارعةَ، أو ضحايا، أو اختاروا الحيادَ بشكليه الإيجابي أو السلبي، أيّ الدعم المعنوي الذي لا يثمر شيئاً، أو تجاهلاً صامتاً، وكأنّهم يعيشون في كوكب آخر. لكن في المحصلّة من لا تطاوله شظايا الحرب تدركه منعكساتها الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. ما يعني أن الحرب الدائرة في غزّة ولبنان لن تقتصر آثارها داخل حدود البلدَين، أو على الشعبَين الفلسطيني واللبناني فحسب، فالمنطقة برمتها آيلة للسقوط تحت وقع الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، وهي ضربات تستند إلى تعريف موسّع لأمنها القومي، الذي لم يعرف حدوده، ومقياس حساسيته من سياسات أيّ دولةٍ لا تدين لها بالولاء الصاخب، ما يُبدّد مبدأ التقيّة السياسية، الذي مارسته الأنظمة والدول والأحزاب على مدار زمن الصراع العربي الإسرائيلي، وصولاً إلى ادّعاءات الاصطفاف خلف محور المقاومة أو مجانبته.
وسورية ليست استثناء من هذا المحيط المضطرب، أو مستثناة من تداعيات هذه الحرب، سواء أعلنت مشاركتها الفعلية فيها، أو قرّرت الصمت العسكري والسياسي والديبلوماسي والإعلامي حيالها، فهي في الأحوال كلّها منخرطة فيها، بغضّ النظر عن ترجمة ذلك تحرّكاً عسكرياً ملموساً على أرض الواقع، أو بقيت مجرّد مسرح عمليات لتبادل الرسائل النارية بين أطراف الحرب الرئيسيين من إيران إلى التنظيمات والمليشيات المحسوبة عليها. وتحييد إسرائيل لسورية في إعلان حربها الحالية على حزب الله، وعلى مواقع عسكرية إيرانية داخل الأراضي السورية، لا يعني أنّها تملك ضمانةً دائمةً لبقائها خارج الاستهداف المباشر، في ظلّ احتفاظ إيران بمواقعها وموقعها السيادي داخل مؤسّسات النظام السوري العسكرية والاقتصادية والثقافية، ما يعني أنّ تحييدها حتّى الآن، بالقدر الذي هو قرار إسرائيلي، هو قرار إيراني أيضاً، وهو مرهون بما تحمله الأيام المقبلة من تطوّرات باتجاه التصعيد المباشر، أو التسوية الرابحة.
وإذا كانت تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد، خلال استقباله وزير خارجية إيران عبّاس عراقجي، السبت الماضي، لا تحمل جديداً في موقفه الشكلي من مساندة حركات المقاومة ضدّ إسرائيل، فإنّه في الوقت نفسه لم يبدِ أيّ استعداد لانتهاك اتفاقية فكّ الاشتباك الموقّعة مع إسرائيل عام 1974، التي جُدِّدت عام 2018 برعاية روسية أميركية في الأردن، على خلفية مساعي روسيا لاستعادة الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام في أعقاب الثورة السورية، التي بدأت من درعا عام 2011، ما سمح له باستعادة محافظة درعا من سلطة الفصائل المسلّحة، ما يعني أنّ المساندة لن تخرج عن سياسة الحياد السلبي الحالي تجاه ما يحدث، فهو معني بحماية حدود إسرائيل من أيّ اعتداء يطاولها من الجبهات السورية، ما يتطلّب استمرار تفهّم إيران لهذه المهمة، التي لم يصر إلى نقدها خلال الوجود الإيراني الطويل في سورية.
ولعلّ ذلك يُفسِّر عدم فتح إيران معركةً مباشرةً مع إسرائيل عبر الجبهة السورية، والردّ الإيراني على إسرائيل في مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري الذي انطلق من أراضيها، يُفسِّر مدى حرص إيران على إبقاء النظام السوري خارج المواجهة المباشرة مع إسرائيل، حفاظاً على مصالحها وموقعها المتقدّم في المنطقة من جهة، وحفاظاً على النظام الذي يوفّر لها ولأذرعها الغطاء الجغرافي الممتدّ بين العراق ولبنان، ولهذا استقرار النظام السوري مصلحة عليا لإيران، بذلت من أجل ذلك جهوداً كبيرةً لن تفرّط فيها، وتزجه في معركة تعرف أنّ جيشه غير جاهز لخوضها، بعدما أنهكته الحرب التي خاضها ضدّ المعارضين السوريين والفصائل المسلّحة الممولة من جهات عديدة دولية وإقليمية.
وكانت إيران في السنوات السابقة كلّها أبقت على “شعرة معاوية” في صراعها مع العدو الصهيوني، فهي تعمل على إدارة الصراع بما لا يُؤدّي إلى مواجهة مباشرة، وفي الوقت ذاته لا ينزع عنها صفة العداء لها، ولهذا قسّمت أدوار حلفائها بين مواجهين مباشرين، وهم ممّن لا يتمتّعون بصفة دولتية، كحال حركة حماس في غزّة، وحزب الله في لبنان، في حين تركت رئيس النظام السوري، وهو يمثل “الدولة” في المنصّة الخلفية لممارسة دور تكتيكي واستراتيجي لدعم التنظيمات الحليفة لها، ما يجعلها حريصةً في هذه المواجهات على الإبقاء على دوره المساند لها من دون دفعه إلى مغامرة محسومة النتائج سلفاً.
والرغبة الإيرانية هي للمصادفة تصبّ في مصلحة إبقاء الشعب السوري خارج أهداف الضربات الإسرائيلية التدميرية، على الرغم من أنّها لا تنطلق من هذه الرغبة، وهي تتوافق أيضاً مع الرغبة في عدم توسيع دائرة التصعيد الدولي، الذي يصبّ في ميزان قوّة إسرائيل ضدّها، فأيّ دخول لحرب دولية بين سورية وإسرائيل سيفضي إلى تدخّل أطراف عديدة مثل الولايات المتّحدة وروسيا ودول أوروبية، ما قد يفرض حينها على إيران التدخّل المباشر، وهو ما يُهدّد بقاء النظام الإيراني، أو يجعله بين نار الحرب الخارجية ضدّه والتمرّد الداخلي عليه.
إلى ذلك، يمكن النظر إلى سعي إيران إلى وقف إطلاق النار في لبنان أنّه جِدّي، وهو يحمي جبهتها الخلفية (حزب الله) من الانهيار التام الذي قد يخلّ بموقعها السياسي قوةً إقليميةً يحسب حسابها في المنطقة، وكذلك قد يزيد إضعاف موقفها التفاوضي في أيّ من ملفاتها، سواء النووية أو الاقتصادية أو السياسية، ما يفرض عليها اتباع سياسة السير على حبل مشدود يهيّج مخاوف الأطراف المساندة لها والمعادية لها في آن معاً، ولكنّها تُؤدّي وصلتها كما اعتادت عليها منذ إعلان قيام محورها المقاوم لإسرائيل من دون أن تدخل أيّ معركة جادّة ومباشرة معه.
المصدر: العربي الجديد