في خضم التحوّلات المتسارعة في الشرق الأوسط، ولا سيّما بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، الذي شارف على إكمال عام، وتنامي التصعيد الإسرائيلي ضد حزب الله في لبنان أخيراً، يقف المراقب مطولاً عند موقف النظام السوري، الذي اتسم بالبرود والانكفاء عن مجريات الأحداث، الأمر الذي أثار تساؤلات عما إذا كان حاله هذا يعكس التزاماً كاملاً بإملاءات خارجية، أم أنّه جزءٌ من مناورة سياسية أعمق، تهدف إلى ضمان بقاء النظام في أثناء تحوّلات إقليمية ودولية معقدة.
في ظل هذه التساؤلات، تُظهر قراءاتٌ أن انكفاء النظام السوري ما هو إلا التزام بإملاءات خارجية إيرانية وروسية بغرض الحفاظ على الاستقرار الداخلي له، وهو الذي لا يزال مهدّداً من قوى متعدّدة. لذلك، انكفاؤه ناتجٌ عن إدراك طهران وموسكو مدى التعقيدات الجيوسياسية التي تحيط به، وكذلك العواقب الوخيمة التي قد تترتّب على أي تصعيد غير محسوب. لذلك قال محللون إن هذا الانكفاء قد يكون نابعاً من اعتباراتٍ إيرانيةٍ تدرك حساسية الوضع السوري الحالي، وترى أن إشراك النظام في مواجهات مباشرة مع إسرائيل أو صراعات إقليمية أخرى، سيعرّض المكاسب الإيرانية في سورية، والتي تحقّقت في السنوات الماضية للخطر، وسيؤدّي إلى توريط سورية في مواجهاتٍ غير محسوبة. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار هذا الانكفاء، والذي يأتي ضمن تفاهم ضمني بين إيران والنظام السوري، جزءاً من سياسة “إدارة الصراعات” التي يعتمدها الإيرانيون، حيث يتم منح بشار الأسد مساحة للبقاء بعيداً عن دائرة المواجهات المباشرة خدمة لمصالح مشتركة.
وفي السياق، يبدو أنّ الحليف الروسي يدفع النظام السوري إلى الانكفاء حتى لا تتضرّر مصالحه الاستراتيجية بعد سنواتٍ من التدخّل العسكري، الذي ساعد في الحفاظ على بقاء النظام. ومن هذا المنطلق، يبدو أن روسيا غير راغبة في السماح لهذا النظام بالدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل أو التورّط في صراعات إقليمية أخرى، لا سيما في ظل تعقيدات الحرب الأوكرانية والضغوط الغربية، خوفاً من خسارة ما حققته خلال السنوات العشر الماضية.
لن يفتح النظام السوري أي جبهةٍ لإسناد حزب الله، الذي يتعرّض لأقوى وأذل خسارة في تاريخه هذه الأيام، ولن يقدّم أي دعم لغزّة، التي دمّرت بعد قرابة عام على العدوان
على الطرف الآخر، تظهر قراءات أخرى أن انكفاء النظام السوري عما يجري في المنطقة تكتيك محسوب، ضمن استراتيجية أطول أمداً، غرضها ضمان بقاء النظام مهما كان الثمن أو التحالفات التي تفرضها الظروف. فبعد سنوات من الإجهاد العسكري والسياسي والاقتصادي الذي تعرّض له النظام جرّاء الثورة السورية بعد عسكرتها، يبدو أنه اختار التراجع الاستراتيجي عن الصراعات في المنطقة، ليحافظ على استقراره النسبي داخلياً، مفضّلاً عدم المجازفة بفتح جبهات جديدة، خصوصاً أنه لا يزال في طوْر إعادة بناء قدراته العسكرية والاقتصادية، وهو يدرك أن أي تورّط في مواجهات أو صراعات قد يكلفه غالياً. لذلك، يرى باحثون ومختصون عديدون أن صمت النظام عما يجري في غزّة وفي لبنان يأتي ضمن حسابات البقاء، التي تطغى على حسابات وحدة الساحات. بناءً عليه، يتجنّب نظام بشار الأسد الانجرار في معارك وصراعات قد تجدّد الضغوط الإقليمية والدولية عليه، في وقتٍ يحتاج فيه إلى الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار العسكري والاقتصادي والاجتماعي. لذلك يدرك أن أي حركة خاطئة منه قد تُكلفه الكثير، وقد تؤدّي إلى تعقيدات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية جديدة لن يحتملها أبداً في هذه المرحلة.
ختاماً، يبدو أنّ انكفاء النظام السوري عمّا يجري في المنطقة، واختياره البقاء في الظل، مراقباً التحوّلات الإقليمية من دون التورّط فيها، أصبح أمراً واضحاً وسهل الفهم، فهذا الانكفاء لم يعد بحاجة إلى جدلٍ كثير، فهو يأتي ضمن حساباتٍ كثيرة تجعل النظام ملتزماً بما هو مرسومٌ له، ومتردّداً ألف مرّة قبل الانخراط في أي مواجهةٍ مع إسرائيل، خصوصاً في الفترة الأخيرة التي يبدو فيها النظام محكوماً بمعادلات (وتوازنات) قوى أكبر منه. لذلك لن يفتح النظام أي جبهةٍ لإسناد حزب الله، الذي يتعرّض لأقوى وأذل خسارة في تاريخه هذه الأيام، ولن يقدّم أي دعم لغزّة، التي دمّرت بعد قرابة عام على العدوان، مكتفياً فقط بإدارة شؤونه وإحكام قبضته على دائرته الداخلية، ومنكباً في الوقت نفسه على حماية إمبراطوريته الاقتصادية القائمة على المخدّرات، لكن السؤال الأهم: إلى متى سيستمرّ هذا الانكفاء؟ إذا استمرّ النظام السوري في هذا النهج، فقد يتمكّن من الحفاظ على استقراره الداخلي على المدى القصير، إلا أن التداعيات الإقليمية قد لا تسمح له بالبقاء على الحياد إلى الأبد، ففي حال تصاعدت التوتّرات الإقليمية بشكل أكبر، قد يجد النظام نفسه مضطرّاً للتدخل بشكل أكثر فعالية، خاصةً إذا تعرّض بقاء النظام للتهديد. في المقابل، إذا استمرّ الصراع من دون تصعيد كبير، قد يتمكّن النظام من المراهنة على استراتيجيته الحالية في الابتعاد عن المواجهات المباشرة والتركيز على تعزيز موقعه الداخلي. ومع ذلك، يبقى المستقبل غير مؤكّد في ظل ديناميكيات إقليمية متغيّرة وضغوط دولية متزايدة.
المصدر: العربي الجديد