لم تكن في ليبيا سياسةٌ تُمارَس بالمعنى الحقيقي لها، بقدر ما هناك أمر واقع يحدث بين الفينة والأخرى، ليكون واقعاً بفرض القوّة أو الاتفاقيات السياسية بين أطراف مُحدَّدة لا تتعدّاها، تنتج سياسيةً وأمراً واقعاً في البلاد يكون مُحرّكاً رئيساً فيها، الأمر الذي جعل البلاد تدور في دوامات سياسية وأزمة سلطة مُتعدّدة التوجّه والأطراف، لا تقود إلى الحلّ بقدر ما تقود إلى مراحلَ متعدّدة من التأزيم والاختلاف.
أخيراً، لا تقع الأحداث التي تمر بها الدولة الليبية إلّا بعد أن تكون واقعاً، بمعنى أنّ السياسة تُصنَع تبعاً لهذا الواقع، وبمعنى آخر، تكون بحلّ الإشكال عند وقوعه، لا تفاديه ومنع حصوله. وبالتالي، لم تستطع الأطر السياسية الحاكمة إيجادَ أيّ ممرّ آمنٍ ينتشل البلاد من هذه الفوضى السياسية الغارقة فيها منذ مدّةٍ، بل على النقيض من ذلك؛ إخلال بالأطر الحاكمة وقفز عليها؛ وغياب كامل للإعلان الدستوري ولمبدأ الفصل بين السلطات؛ ولمبدأ إتقان الدور السياسي لكل جسم سياسي في البلاد، تشريعي أو تنفيذي.
اليوم يمكن اختصار الحاكم والفيصل الوحيد في السياسة الحاكمة للبلاد بقوة الأمر الواقع فقط، غابت المؤسّسات بغياب القاعدة الشعبية لها، فالأجسام التشريعية وأشباهها منفصلة عن القاعدة المنشئة لها، بل هي لها كارهةٌ، وكأنّ من أوجدها ليس تلك القاعدة الشعبية التي تنكَّرت لها وحكمتها بفعل الواقع وليس بالاختيار أو بالانتخاب. وفي المقابل أيضاً، باتت القاعدة الشعبية (الشعب بأطيافه كلّها) في موقف المتفرّج، ولم تستطع أن تمدّ يدها للكفِّ عن هذا العبث السياسي الذي نهش جسدَها، وأثقل معاناتها، وجعلها تدور في دائرة التقييم لا أكثر، الأمر الذي يجعلنا نفكّر في أسباب هذا العزوف الشعبي عن أيّ مبادرة حقيقية للتغيير في الوضع القائم في البلاد، والتي يمكن أن نختصرها في:
أولاً، حداثة التجربة في التغيير، التي حملت في بدايتها عقب ثورة فبراير (2011) نجاحاتٍ كثيرة، وبقدر من الإخفاقات خصوصاً في سنواتها الأولى، فضلاً عن غياب رؤى وأطر سياسية للمجتمع أو حتّى أطياف نخبوية فيه لقيادة البلاد، بل على النقيض من ذلك، تولى سياسة البلاد، في أحيان كثيرة، الطيف المضادّ للتغيير في الثورة، وبالتالي غَيَّب المجتمع، وعاد به إلى النهج الأول.
الأجسام التشريعية وأشباهها منفصلة عن القاعدة المنشئة لها، بل هي لها كارهةٌ
ثانياً، ضعف المؤسّسات السياسية من أحزاب وكتل وتيّارات، إذ لم تجد لها موطناً حقيقياً وفاعلاً من القواعد الشعبية، التي يجب أن تكون داعمةً لها، بل تخلّت عن قواعدها الشعبية، وبدأت تتحرّك في دائرة ضيّقة داخل المؤسّسات التي تقودها.
ثالثاً، النخب الغائبة أو المغيبة، إذ إنّ نخباً سياسية واقتصادية كثيرة، بل حتّى اجتماعية، لا تكاد يُسمَع لها صوت في الأزمات كلّها التي تطرأ على السياسة الداخلية، فضلاً عن أن يكون لها فعل في الأزمات المتتالية.
جعلت هذه الأسباب كلّها من القاعدة الشعبية المجتمعية تنكفئ على نفسها، وترضى بأن تكون في موطن المتفرّج لا أكثر، غير أنّ هذا الوضع قد لا يستمر أكثر من ذلك، فالأزمات المتتالية أخيراً، والانسداد السياسي المُفتعَل، سيجعلان من الحراك الشعبي واجباً اضطرارياً سيُحدِث الفارق في التغيير إن حدث، وسيقلب سياسة الواقع سياسةَ تغيير وتبديل للأجسام كلّها الموجودة في الساحة، التي انعدمت سلطةً شرعيةً منذ سنوات. وبالتالي، الحاجة الآن ملحّة أكثر من أي وقت مضى لوجود تيّار سياسي نخبوي قادر على التغيير، والسير في ركب التجديد، والتغلّب على الانحيازيات الداخلية والإقليمية، وكذلك الدولية، ويفهم المحدّدات الواقعية والفاعلة في التوازن السياسي الإقليمي والدولي لإحداث التغيير الواقعي، الذي تربوا إليه القاعدة الشعبية المجتمعية، ويُنهي سياسة الأمر الواقع بمؤسّسات جديدة تقودها الأطر الحاكمة لها دستورياً وقانونياً.
المصدر: العربي الجديد