طوفان الأقصى وحرب التحولات

هيثم أبو الغزلان

لم تكن تأثيرات عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، آنيّة ومحدودة، فما تلاها من عدوان مستمر، وحرب إبادة، وصمود شعبي، ومقاومة مستمرّة تكاد أن تُنهي عاماً، جعلها تُحدِث تحوّلًا في مسارات الصراع ضد “إسرائيل”. وتزايدت تأثيرات هذا الصراع الواضحة في المجالين الإقليمي والدولي، وكان من تمظهراته دخول جبهات الإسناد في جنوب لبنان واليمن… وما تَبِعَ ذلك من تطورات، تمثّلت بالتصعيد المتبادل، وصولاً إلى تزايد التحذيرات من الانزلاق إلى حربٍ إقليمية. وتصاعدت حدّة التوتر والتصعيد بعد اغتيال “إسرائيل” القيادي في حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، ثم عملية تفجير “البيجر” في مناطق لبنانية مختلفة، وتاليا استباحة لبنان في اعتداءات نجم عنها سقوط نحو خمسمائة شهيد في يوم واحد، ما زاد من تعقيدات المشهد، وزيادة مُراهنة بعضهم على أن يقود هذا إلى فتح مسار من الرفض ومقاومة الاحتلال والهيمنة الصهيوأميركية في المنطقة، قد تكون أولى بشائرها عملية معبر الكرامة التي نفذها الأردني ماهر الجازي.

لا يمكن قراءة نتائج معركة طوفان الأقصى وما تبعها من عدوانٍ وإبادةٍ ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة، وما ستُؤَدّي إليه من نتائج ترسم الواقع والمستقبل، من دون قراءة للأحداث والأهداف وتطورها، وصولاً إلى مآلاتها المتوقعة لمختلف الأطراف الفاعلين.

ليس صحيحاً أنّ “إسرائيل” قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة والتفكك والاندثار، والواقع يثبت أيضاً أنّ الفلسطينيين لم يُهزموا

ستُشكّل معركة طوفان الأقصى منعطفاً تاريخياً سيرسم معالم الشرق الأوسط من جديد، بحسب تعبير استخدمه الكاتب الأميركي توماس فريدمان، ويتلاقى ذلك مع ما قاله رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، حين توعّد بتغيير وجه الشرق الأوسط. أما الفعل الفلسطيني فقد تبدّى من خلال إعلان القائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد الضيف قرارها “وضع حد لكل جرائم الاحتلال وعربدته دون أن يُحاسب”، ودعوة الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وداخل الأراضي المحتلة منذ العام 1948 للانتفاض نصرة للأقصى، وشمول دعوته تلك إلى الالتحام مع المقاومة بفلسطين “المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسورية”. وقد حدّد نتنياهو ثلاثة أهداف رئيسية لعدوانه على قطاع غزّة: “القضاء على حماس، وإعادة الرهائن، والتأكد من أنّ غزّة لن تشكّل تهديداً لإسرائيل”.

ورغم العدوان والإبادة والتدمير الممنهج، لم يستطع الاحتلال تحقيق الأهداف المُعلنة للحرب، واستمرّت المقاومة الفلسطينية في القتال، وقدّم الشعب الفلسطيني نموذجًا رائعًا في الصمود والبسالة. ويقارن البروفيسور إيال زيسر، في مقال له في “إسرائيل اليوم”، بين ما جرى في حرب 1967 وما يحدث في القطاع منذ أكتوبر 2023، بأن الجيش “الإسرائيلي” واجه في في تلك الحرب قوات عسكرية أكثر عدداً من قوات “حماس”، لكنه احتل غزّة في يوم ونصف اليوم، وحسم المعركة بسرعة، كما احتل معها سيناء برمتها، والضفة الغربية والجولان. أما اليوم فالجيش يقف عاجزاً عن فعل شيء. ونقلت القناة 12 “الإسرائيلية” عن اللواءين احتياط عاموس يادلين وأفنير غولوف، عقب اجتماعات لهما في الولايات المتحدة مع مسؤولين وصحافيين وخبراء معاهد البحوث، سمحت لهما بالتعرّف بشكل مباشر إلى التفكير الرئيسي في واشنطن في ما يتعلق بالحرب المستمرّة في الشرق الأوسط، وخرجا بأنّ “الولايات المتحدة لا تفهم ما هي أهداف إسرائيل الاستراتيجية في الحرب، وأنهم في واشنطن يعتقدون أنها تخوض حرباً بلا نهاية، تؤدّي إلى تآكل وضعها الاقتصادي والسياسي، ولا تحقق أهدافها”. ويرى الاثنان أنّ انتقاد الإدارة الأميركية لإسرائيل يتركّز على ثلاثة أمور رئيسية: عدم رغبتها في تحديد أفق سياسي لـستة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وعدد الأبرياء الذين قتلوا في غزّة، والإرهاب الإسرائيلي في الضفة.

ما يجري في القدس، وفي قطاع غزّة، والضفة المحتلة، وصفة جاهزة لمزيدٍ من تصعيدٍ يصعُب التنبّؤ بنتائجه ومآلاته وحدوده

لقد ألحقت معركة طوفان الأقصى ضرراً بالردع “الإسرائيلي”، وبالمكانة والهيبة اللتين تضرّرتا بشدة في المنطقة والعالم، فخرجت “إسرائيل” للحرب مدفوعة برغبة الانتقام عبر السعي إلى إبادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإحداث تحوّل على المدى البعيد في تفكير هاتين الحركتين وهويتهما.

ليس صحيحاً أنّ “إسرائيل” قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة والتفكك والاندثار، والواقع يثبت أيضاً أنّ الفلسطينيين لم يُهزموا، ولم يرفعوا الراية البيضاء، رغم حرب الإبادة والتدمير والتجويع، والدعم والمشاركة الأميركية، والصمت الدولي، والعجز العربي الفاضح، ونأي السلطة الفلسطينية! وفي ظل هذا الوضع، يخطئ مَن يظنُّ وهلة أنّ “إسرائيل” يمكن أن توقف العدوان والإبادة، فهناك أغلبية وازنة تؤيد استمرار الحرب، وهناك تأييد لها في الضفة الغربية وصولاً إلى الحسم. وتكتب صحيفة هآرتس أنّ نتنياهو لا يعمل على اتخاذ قرار بوقف الحرب، بل إلى إضاعة الوقت، وتوضّح أنّه يعدُّ نفسه للمرحلة التالية منها: السيطرة على شمال قطاع غزّة، وطرد السكان الفلسطينيين من هناك، وتجديد المستوطنات، وهذه كلها جرائم حرب من وجهة نظر القانون الدولي. حتى لو لم تتحقق الإجراءات التي يجري النظر فيها بالفعل ضد نتنياهو وآخرين في لاهاي، فإنّ هذه التحرّكات ستقوده بالتأكيد إلى لاهاي.

ما يجري في القدس، وفي قطاع غزّة، والضفة المحتلة، وصفة جاهزة لمزيدٍ من تصعيدٍ يصعُب التنبّؤ بنتائجه ومآلاته وحدوده.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى