عمليتان قذرتان، تفجير أجهزة البيجر وأجهزة اتصالات أخرى لاسلكية في أفراد حزب الله وعائلاتهم، تشبهان ما تقترفه دولة الاحتلال الإسرائيلي في مدارس غزّة والضفة الغربية ومخيماتهما، وأيضاً حصار حزب الله أهل مضايا في سورية في 2016، عدا عن ممارسات أخرى منه ضد السوريين. ويقول الانحطاط في ممارسة الحروب هذه إن أخلاقيات الحروب انتهت، وتراجع كثيراً التقيّد بالاتفاقيات المتعلقة بحماية المدنيين الدولية. لاحظ إدانة المحاكم والمؤسّسات الدولية دولة الاحتلال، وقد صارت تصنفها دولة منبوذة، ولكنّ هذه مستمرّة في الإبادة في غزّة.
أكثر من ثلاثة آلاف جريح، ونحو 30 قتلى، وقعوا بسبب تلك التفجيرات، ويُجمع المحلّلون أن دولة الاحتلال خلفها؛ وهذا على الأغلب هو السبب. كان لافتاً حجم الشماتة التي أصابت سوريين عديدين بعد هذا العدد الكبير للجرحى وللقتلى؛ بدا الأمر بمثابة شكل من أشكال الانتقام لما فعله حزب الله، وجمهور الأخير لم يتعاطف أبداً مع مدنيين سوريين، وقعت عليهم كل أشكال المظالم والقتل، وشارك فيها حزب الله منذ 2011.
ارتكب حزب الله خطيئة كبرى، صار معزولاً عربياً، حينما دخل سورية ولا يزال ووقف إلى جانب النظام وضد الشعب؛ ويخطئ سوريون بفرحهم بهذه التفجيرات، ويخطئون بضعف اهتمامهم بما يجري في غزّة وفلسطين؛ يخطئون لأنّ قضية فلسطين قضية العرب؛ أغلبية الأنظمة تخلّت عنها، منذ عقود، ولأسبابٍ عديدة، وهذا خطأ كبير. صحيحٌ أن تَشكّل سياقٍ معينٍ يتطلب بحثاً موضوعياً للفعل، ولكن هذا لا يغيّر من كونه خاطئاً. ورغم كثرة الأسباب، هناك ما يتعلق بالأفكار والآراء والسياسات القاصرة والمحدودة التي سادت عربياً، كالقول بالتعايش مع دولة الاحتلال، ورفض أيِّ شكلٍ من الحروب لاستعادة فلسطين، وإعلاء الكلام عن السياسة باعتبارها خياراً وحيداً لتلك الاستعادة، ومنها إعلاء الدولة الوطنية على حساب الفكرة القومية، ووضع الوطنية بالضد من القومية، وأن كل تفكير في الأخيرة هو ضد الدولة الوطنية. واقعياً، استفادت إيران وتركيا وتمدّدتا عربيّاً، ورفضت دولة الاحتلال كل تلك الثرثرات، ووقّعت الاتفاقيات الابراهيمية، ولكنها لم تلتزم بأيِّ حلٍّ للقضية الفلسطينية، بل لم تدفع محاولتها إبادة غزّة وتهشيم القضية الفلسطينية وشبه عملية كاملة ضد الضفة الغربية دول التطبيع إلى إيقاف اتفاقيات السلام أو حتى التهديد به. ومن ثم، تُعبر تلك الأفكار والسياسات عن مصالح الأنظمة المُطبعة، وهي بمثابة أيديولوجية لها، ومن المفيد مقارنة الصمت الشامل لتلك الكتابات عن ممارسات الدول المطبّعة القمعية. وفي النهاية، يصبح ذلك الكلام أقرب إلى الموافقة على حرب الإبادة وتجاهل حقوق الفلسطينيين في كل الأوقات.
تدفّق كثير من الشماتة على ألسنة السوريين، وفي وسائل التواصل الاجتماعي. والحقيقة هي شماتة المهزومين؛ يعتقدون أن حزب الله وإيران هم من هزموهم، وفي هذا بعض الحقيقة، ولكن الحقيقة الأكبر أن السوريين لم يستطيعوا الوصول إلى توافقات وطنية، وإلى رؤى مشتركة للخلاص من أوضاعهم ومنذ 2011، وظلَّ الانقسام كبيراً فيما بينهم؛ انقسام قوى المعارضة، وانقسام الفصائل العسكرية، وانقسامات بين عرب وكرد؛ وهنا أحد الأسباب الكبيرة لهزيمتهم “المستمرة”.
مرّت الأعوام، وها نحن نقترب من العام الرابع عشر للثورة، أو لبدئها، ورغم الضعف والتهالك الذي أصبح عليه النظام، وتَحكُّم كل من روسيا وإيران فيه وبشكلٍ شبه كامل، ورغم سياسات دولية كثيرة تحاول إنقاذه من تهالكه، وسواء عبر التقارب مع العرب أو الاتراك أو بعض الدول الاوربية؛ أقول، رغم ذلك كله، لا يزال السوريون يشعرون بالهزيمة؛ الأنكى تجاهلهم انتفاضة السويداء المستمرّة منذ أكثر من عام، وهناك مظاهرات لا تتوقّف في إدلب وأرياف حلب، وكذلك الاحتقان الشعبي المستمر للسوريين العرب تحت سلطة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتجاهل يشمل الأوضاع المتدهورة وبحدَّةٍ في كل المناطق التي يسيطر عليها النظام، ولن نتكلم على الشامتين بسوريي الداخل! والذي يدفع إلى القول إن هناك إمكانية لانفجارٍ شعبيٍّ واسع، وهو ما بدأت الصحافة العالمية الكتابة عنه.
لم تكن الثورة في سورية ممكنة لدى كثيرين في 2011، كانت أقرب إلى الأوهام، والأمر ذاته يخص النظام والمعارضة. وهناك حالياً عزوف عن التفكير فيها من جديد، وهناك تجاهل لبعض أوجهها كما أشير أعلاه، وهذا يشكّل واقع السوريين الذين ينشغلون بقضاياهم الخاصة، وبما يخص العام يتحدّثون عن الهزيمة، وعدم القدرة على تغيير الواقع، وأن سورية انتهت، ولن تعود، ومن هذه الأفكار “الانهزامية”.
الشماتة كانت “الفعل” الانتقامي السائد، وهي عظيمة الشأن بين السوريين أنفسهم. اقتصار سوريين كثيرين على الشماتة والكراهية يتضمّن قصوراً كبيراً في فهم المتغيرات، والواقع القابل للانفجار؛ هناك أسباب كثيرة لتوسّع الاحتجاجات، وكما لم يكن هناك شكلٌ محدّدٌ ومسبق ومعروف لها في 2011 سيكون الأمر ذاته في سورية، لاحقاً، كما يبدو.
أن ينحط وضع السوريين من الثورة إلى الشماتة أمر خطير، ولو كان حزب الله عدواً لثورة السوريين، وهو كذلك؛ فإن هذه الوضعية الفكرية البائسة هي ما تطيل عمر النظام المتهالك، وهي تعيق أيَّ تشكّلٍ معارض جديد؛ ذلك أن غلبة هذا الشكل من المواقف تعني انتصار أفكار النظام في تحييد السوريين عن الفعل، وحصر تفكيرهم في الإطار العاطفي والانفعالي والشخصي.
النظامُ سعيدٌ للغاية بما أصبح عليه السوريون، ويشعر بالقلق فقط من الاحتجاجات وإمكانية توسّعها، أو من أيّة تشكيلاتٍ سياسية جديدة. الواقع في غاية التأزم، ويفرض تحدّياً يتعلق بضرورة تجدّد النشاط السياسي، وتجاوز الاكتفاء بالشماتة فعلاً وحيداً؛ ففي الشماتة انتصار للنظام ولحزب الله ذاته، ولكل ما هو سيئ في النفس البشرية.
المصدر: العربي الجديد