في وقت فرضت باريس وبرلين ولندن عقوباتٍ جديدةً على إيران، بسبب اتهامات نقل طهران صواريخ باليستية إلى روسيا، يبدو انشغال الإعلام الإيراني بمهاجمة موسكو بسبب دعمها فتح ممر زانغيزور، الذي سيربط إقليم ناختشيفان الأذربيجاني بأذربيجان عبر أراضي أرمينيا، يخفي توتّرات مستمرّة، ويعكس قلقاً عميقاً لدى إيران من تراجع نفوذها في المنطقة. الواضح من التصريحات الإيرانية، أخيراً، أنّ ناراً تحت الرماد في علاقات موسكو وطهران، المتنامية في ظلّ ضغوط وعقوبات غربية مع تحدّيات مشتركة يواجهها البلدان، ويبدو أنّ آخر موقف لروسيا من ممرّ زانغيزور، دفع تحفّظات إيرانية عديدة إلى أن تطفو في السطح بعد قضية الاتفاق النووي، الذي ساهمت روسيا بإفشال المفاوضات حوله (بحسب اتهامات إيرانية)، وكذلك جرّ إيران إلى أزمة أوكرانيا.
العلاقات الروسية الإيرانية مُعقّدة ومتشابكة، تتأثّر بعوامل داخلية وخارجية عديدة، شهدت تحوّلاتٍ عديدة بين التعاون والتوتّر، والتنافس على النفوذ، ويعود تاريخ هذه العلاقات إلى قرون مضت، وتأثّرت كثيراً بالتطوّرات السياسية والاقتصادية في كلا البلدين، وكذلك بالتغيّرات الجيوسياسية في المنطقة والعالم، والمُؤكّد أنّ استمرار التناقضات بين موسكو وطهران سيظلّ يعرقل طموحات إيران الإقليمية.
يمكن القول إنّ فشل إيران في الحفاظ على نفوذها جنوب القوقاز هو نتيجة سياساتها الخارجية غير المتناسقة، التي لم تكن فعّالة في مواجهة منافسيها، مثل تركيا وأذربيجان، كما تحدُّ العقوبات الدولية من قدرة طهران على الاستثمار في المنطقة وتطوير علاقاتها التجارية، وتؤثّر هذه العقوبات سالباً في الاقتصاد الإيراني، وتجعل من الصعب عليها تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى التوسّع الاسرائيلي في المنطقة، الذي يدفع إيران إلى اتّخاذ إجراءاتٍ مضادّة. وتمثل الشراكة الوثيقة بين روسيا وأذربيجان تحدّياً كبيراً لإيران، فتمنح أذربيجان دعماً عسكرياً واقتصادياً قوياً، ما يُعزّز قدرتها على مواجهة الضغوط الإيرانية، وتشكّل تركيا منافساً قوياً لإيران في جنوب القوقاز، تسعى إلى تعزيز نفوذها في المنطقة عبر دعم أذربيجان وتطوير علاقاتها مع جورجيا، ويزيد هذا التنافس مع التحدّيات التي تواجهها إيران من حدّة التوتّرات الإقليمية.
يتباهى أكثر من مسؤول إيراني بالسيطرة على أربع عواصم عربية، إلّا أنّ طهران عجزت عن جعل باكو تدور في فلك نفوذها
وصحيح أنّ إيران تمتّعت بعلاقات قوية مع أرمينيا، لكنّها في المقابل لم تتمكّن من جعل أذربيجان ضمن حلقة نفوذها الإقليمي، على رغم خلفيتها الدينية المذهبية المشتركة معها. وتظلّ أذربيجان نقطة حرج لإيران التي يتباهى أكثر من مسؤول فيها بالسيطرة على أربع عواصم عربية، إلّا أنّها عجزت عن جعل باكو تدور في فلك نفوذها، كما تربطهما علاقات تاريخية وثقافية عميقة، فالقومية الأذرية في إيران تُعدّ القومية الثانية في التركيبة الاجتماعية بعد القومية الفارسية.
اختلف الوضع اليوم، ومن غير الواضح بعد، كيف سيُؤثّر انتصار أذربيجان في حرب كاراباخ الثانية على علاقتها مع إيران، وسيفرض على إيران جهوداً مضاعفةً، ومزيداً من الموارد للتأقلم مع الواقع الجيوسياسي الجديد في طول حدودها الشمالية، وهذا يعني اهتماماً أقلّ بدول أخرى تسعى طهران إلى تعزيز نفوذها فيها، كما أنّ تغير الوضع المريح الذي تمتّعت به إيران في جنوب القوقاز على مدى العقود الثلاثة الماضية لم يأت في أفضل أوضاع طهران.
ويمكن تفسير آخر توتّر أثارته أوساط سياسية وإعلامية إيرانية تجاه موسكو، في سياق المناورات الدبلوماسية الإيرانية المُعقَّدة، التي تتأثّر بالتناقضات في السياسات الخارجية لكلا البلدين، فبينما تسعى إيران إلى استثمار الظروف الدولية لتحسين علاقاتها مع الغرب، خاصةً في ظلّ الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، تسعى روسيا إلى تعزيز تحالفها مع إيران في مواجهة الضغوط الغربية، حيث يمكن لطهران أن تلعب لعبةً مزدوجةً، وتحصل على أقصى قدر من المكاسب من الجانبَين معاً.
يبقى القول إنّ إنكار إيران الاتهامات بتزويد روسيا بالأسلحة قد يكون جزءاً من استراتيجية مُتعدّدة الأوجه، تهدف إلى تحقيق عدّة أهداف سياسية، فمن خلال الحفاظ على موقف غامض، تسعى طهران إلى كسب الوقت وتقوية موقفها في المفاوضات النووية، كما تسعى إلى تقويض الوحدة الغربية وتقسيم موقفها تجاه إيران، وفي الوقت نفسه، ليس مستبعداً أنّ هذا الإنكار يعكس التناقضات الداخلية للنظام الإيراني، حيث تتنافس مختلف التيّارات السياسية على النفوذ والتأثير، وتسعى بعض التيّارات إلى التقرّب من الغرب، بينما تفضل أخرى التوجّه نحو روسيا.