في الذكرى 68 لثورة 23 تموز / يوليو 1952 اختلاف الواقع بين مرحلة الثورة وتطوراتها وبين الواقع الراهن وتحدياته واحتمالات المستقبل

حسن عبد العظيم

إن ذكريات الماضي في تاريخ الشعوب والأمم ليست للتغني بالإنجازات والأمجاد؛ وإنما لاستخلاص الدروس والعبر لتغيير الحاضر وبناء المستقبل على الصعيد الوطني والقومي والدولي والعالمي:

١/ كانت الهزيمة التي تعرضت لها سبعة جيوش عربية اهمها الجيش المصري امام العصابات الصهيونية في حقيقتها رضوخ الانظمة لتنفيذ قرار مجلس الامن 194لعام 1947  بتقسيم فلسطين واقامة كيان يهودي صهيوني على القسم الساحلي وجاءت الاوامر لقادة الجيوش بوقف القتال عند معينة تشكل جزءا من الاراضي المحتلة عام 1948 حالت دون تمكين قادة الجيوش من طرد العصابات الصهيونية والقضاء عليها وكانت مسؤولية الهزيمة تقع على الامير عبدالله على الاردن وقائد جيشه  كلوب باشا الضابط البريطاني والملك فاروق الغارق في الترف واللهو والفساد وبتزويد الجيش المصري بصفقة الاسلحة الفاسدة التي ترتد على مطلقيها، بالإضافة الى الاختراق الصهيوني للوضع الفاسد في مصر عبر  (فضيحة لافون ) ومسؤولية نوري السعيد رئيس وزراء العراق وقائد جيشه الذي يكرر عند مطالبة الفلسطينيين بالنجدة عبارة ( ماكو أوامر).

٢/ هذا الواقع الفلسطيني والمصري والعربي المذل لم يقبل به ضابط في الجيش المصري شاب برتبة متواضعة ( بكباشي _ رائد ) كان يقود الطلبة الجامعيين في  مظاهرات ضد الوجود البريطاني وتعرض للاعتقال قبل قبوله في الكلية الحربية هو جمال عبد الناصر فبادر الى  الحديث مع اصدقائه لتشكيل تنظيم الضباط الاحرار في الجيش المصري الذي استخدمه الملك فاروق لحماية عرشه ومفاسده  بسطوة البوليس السياسي ؛ وحرص مع مجموعة من زملائه على التواصل مع الاحزاب السياسية الوطنية واليسارية والسلفية بما فيها جماعة الاخوان المسلمين  لمعرفة مواقفها. ورفض طلب مسؤول الجماعة ان يحصر تنظيم الضباط على ذوي الميول الاسلامية تمسكا بفكرة الجيش الوطني.

٣/ وقد تواصل مع اللواء محمد نجيب الذي كان مكلفا برئاسة نادي الضباط وكان يتعاطف مع مجموعة الضباط الملتفة حول عبد الناصر ويحرص على التعاون معهم والدفاع عنهم

وقد تم تحذير تنظيم الضباط الاحرار من اكتشاف امرهم فبادر قائد الثورة للقيام بها قبل الموعد المحدد لها ونفذ الضباط الاحرار في قطعات الجيش البرية والجوية والبحرية الاوامر بالتنفيذ صباح23 تموز /يوليو 1952 وتم الاعلان عن قيامها دون اية مقاومة ولاقت تأييدا عارما من جماهير الشعب المصري.

٤/ وتم تشكيل مجلس قيادة الثورة برئاسة عبد الناصر بمشاركة ضباط اساسيين من توجهات وطنية وقومية ويسارية وإسلامية. وكان ناصر يقوم بالتحضير لإدارة الاجتماعات وتحديد الموضوعات للمناقشة واتخاذ القرارات. وعند بحث مصير الملك فاروق اقترح البعض قتله لإلغاء النظام الملكي فكان جواب عبد الناصر لا نريد سفك الدماء والاكتفاء بنفيه مع افراد عائلته …

واسس هذا النهج لئلا تأكل الثورة ابناءها كالثورة الفرنسية والثورة اللينينية الماركسية والثورة العراقية. ولم يتم تصفية اي عضو من اعضاء الثورة بسبب مخالفته للأكثرية والاكتفاء بقبول استقالته ان أراد.

٥/ والخطوة الثورية المبدئية الثانية التي اكدها قائد الثورة هي تخيير القياديين المشاركين في الثورة واعضاء مجلس الثورة بين العمل بالجيش وعدم التدخل بالسياسة او العمل بالسياسة وحافظ الجيش المصري على احترافه وجهوزيته في كل الظروف لحماية حدود الوطن

وقد اكد في كتيب فلسفة الثورة الذي حدد فيه نهجه وافكاره الاولية عدم الانطلاق من نظرية جاهزة من النظريات السائدة في الخمسينات الليبرالية وحرية السوق القائمة على الاقطاع والاستغلال والنظرية الماركسية اللينينية وتطبيقها الستاليني القائمة على ديكتاتورية البروليتاريا والغاء الملكية الخاصة وحدد في فلسفة الثورة الدوائر الثلاث المصرية العربية الافريقية الاسلامية ؛ واختار اسلوب جدل الفكر والواقع  وتم اعلان المبادئ الستة كدليل نظري اولي لإنهاء النظام الملكي والاقطاع والقضاء على الاستعمار واعوانه والتنمية المستقلة لتحقيق الكفاية والعدل والديمقراطية السليمة بعد توفير الديمقراطية الاجتماعية للعمال والفلاحين وصغار الكسبة وتحالف قوى الشعب العاملة . والتعاونية الاشتراكية.

وحرص عبد الناصر على عدم السماح لأشقائه او اولاده ان يعمل في التنظيم السياسي او يستغل قرابته لجمع الاموال والاثراء والاستغلال والفساد وكذلك حرص جميع اعضاء قيادة الثورة.

ولم يكن لدى اي منهم أكثر من سيارته او منزله واضطر بعضهم للبناء في حديقة منزله لإسكان اولاده ولم يغير عبد الناصر منزله العائد للدولة عندما كان ضابطا قبل الثورة وتم تسليمه للدولة بعد وفاته وكان حسابه في المصرف اقل من 100جنيها.

وحرصت الثورة على بناء تنظيم سياسي بدا بهيئة التحرير ثم الاتحاد القومي بعد قيام الوحدة مع سورية وشارك في تشكيل منظومة دول عدم الانحياز والحياد الايجابي مع جواهر لال نهرو زعيم الهند واحمد سوكارنو زعيم اندونيسيا وتيتو زعيم صربيا وبعد جريمة الانفصال تمت الدعوة لحوار وطني واسع شارك فيه عبد الناصر لإقرار الميثاق الوطني وتشكيل تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي والحزب الطليعي؛

وبعد الهزيمة العسكرية في حزيران 1967 بادر في خطابه المتلفز لتحمل المسؤولية وأعلن استقالته من رئاسة الجمهورية وكل مسؤولياته في الاتحاد الاشتراكي والدولة وكان مثالا للقائد التاريخي واضطر للعودة تحت ضغط الجماهير المصرية والعربية.

٦/ في مجال التنمية المستقلة  تم بناء مصانع الحديد والصلب وما يزيد عن الف مصنع لكل انواع الصناعات التي تتطلبها البلاد وتحقيق الاكتفاء الذاتي من سكك الحديد والقاطرات والسيارات الى الابرة بنسبة تنمية تزيد عن ستة بالمئة سنويا عبر تنفيذ الخطة الخمسية في ظل سياسة التحول الاشتراكي  وإشراك العمال في نسبة من الارباح وتأمين مساكن لأسرهم وتعليم اولادهم وقروض للفلاحين بدون فائدة  لزراعة الاراضي التي وزعت عليهم عبر اجراءات الاصلاح الزراعي وتوزيع ابقار لإنتاج الحليب ومشتقاته ومناحل لإنتاج العسل يتم وفاء قيمتها من المحصول.

٧/ بعد عودة عبد الناصر عن استقالته بتفويض شعبي وانتحار المشير عامر المسؤول الفعلي عن الهزيمة العسكرية تمت اقالة مجموعته واعوانه وعلى راسهم شمس بدران  وتكليف الفريق محمد فوزي بقيادة الجيش وتمت اعادة بناء القوات المسلحة بالاعتماد على المجندين والمتطوعين من خريجي الجامعات القادرين على استيعاب الاسلحة الحديثة التي سارع قادة الاتحاد السوفياتي لإرسالها تعويضا عن الاسلحة التي دمرها العدو الاسرائيلي في المطارات  والمعسكرات وبدأ الجيش الجديد   مبكرا يخوض معارك وحرب استنزاف ضد قوات العدو في سيناء وفي الجيب المحاصر  غرب القناة وتم اغراق البارجة ايلات على يد البطل السوري الشهيد جول جمال وبلغ عدد الجيش المصري الجديد اكثر من مليون اعدادا لمعركة العبور وصار الضباط والجنود الاسرائيليون يتهربون من الخدمة في سيناء طيلة ثلاث سنوات.

٨/ وعند ما عقدت القمة العربية في الخرطوم قبل نهاية العام ووصلت الطائرة التي تقل الوفد المصري برئاسة عبد الناصر الى مطار الخرطوم. فوجئ العالم ورئيس وزراء حكومة السودان بمئات الآلاف التي تملأ المطار  بانتظار وصوله والزحف وراء موكبه الى الخرطوم كقائد منتصر  وكانت نتائج المؤتمر اللاءات الشهيرة الثلاث  ( لا للحوار مع العدو لا للصلح لا للاعتراف )  كما قرر المؤتمر قطع امدادات النفط عن امريكا والدول الغريية وغيرها التي تدعم الكيان الصهيوني  وتخصيص عشر مليارات سنويا  لكل من سورية والاردن ومبلغ مضاعف للجمهورية العربية المتحدة الاقليم المصري  وارتفعت اسعار النفط مرارا بسبب هذه الاجراءات كم قطعت الدول الافريقية والاشتراكية علاقاتها مع الكيان الصهيوني.

٩/ كانت الاشكالية التي تواجه عملية العبور بعد تجهيزها واجراء تمرينات عملية سرية عليها هي مد حائط الصواريخ الذي اقامه الجيش الى سيناء لتقليل الخسائر في الجيش، والمعدات  فاغتنم عبد الناصر مبادرة روجرز وزير خارجية  امريكا لوقف اطلاق النار لمدة محددة واعلن قبوله بها واعطى الاوامر لقيادة الجيش بنقل حائط الصواريخ الى سيناء خلف خط بارليف الذي اقامه جيش العدو بعد احتلال الضفة الشرقية للقناة وفوجئ العالم والعدو بهذه الخطوة التي تمكن الجيش المصري من الوصول شرقا الى الممرات.

١٠/ غير ان بعض المنظمات الفلسطينية حركت مظاهرات في الاردن تتهم عبد الناصر بالخيانة لقبول مبادرة روجرز وبدأت عمليات خطف طائرات اردنية وحدثت فوضى في الاردن وبدأت مجزرة ايلول الاسود ضد فصائل المقاومة الفلسطينية وفي مقدمها حركة فتح بوجود ابو عمار لمقابلة الملك حسين مما دعا عبد الناصر الى قطع اجازته للاستراحة بتوصية من اطبائه وتوجيه دعوة عاجلة لمؤتمر القمة واستقبال الوفود ووفاته بعد وداع الوفد الاخير شهيدا في سبيل القضية الفلسطينية.

١١/ بعد مؤامرة الانفصال الرجعي في 28 ايلول 1961  وقيام ثورة بقيادة جاسم علوان في حلب ضدها ارسل فرقة المغاوير بالطائرات لنجدتها ونزلت في مطار حلب وعندما قام ضباط بعثيون لتطويقها وافشالها وعلم بوصول بوارج  حربية امريكية وبريطانية الى الشواطئ السورية لدعم نظام الانفصال واحتمالات الحرب الاهلية اعلن من القاهرة،( ليس مهما ان تبقى سورية جزءا من الجمهورية العربية المتحدة انما المهم ان تبقى سورية ) حقنا لدماء السوريين خلافا لما يتعرض الشعب السوري على مدى عقد من الزمن.

١٢/ وقامت ثورة 14 تموز في العراق وجاء الانزال الامريكي في لبنان والبريطاني في الاردن لحماية الانظمة الموالية للغرب والكيان الصهيوني فسافر من دمشق سرا الى موسكو والتقى بقادة الاتحاد السوفياتي لضمان دعمه للجمهورية العربية المتحدة والثورة العراقية واستمر في دعم الثورة الجزائرية حتى انتصارها عام1961.

خاتمة :
بعد مضي خمسين عاما على غياب عبد الناصر والردة الساداتية عن ثورة 23 يوليو وتجاوز لاءات الخرطوم وتفكك النظام العربي واتفاقيات كامبديفد واوسلو لا تزال ذكرى جمال عبد الناصر ونهجه التحرري التقدمي حية في كتابات المفكرين والباحثين في المنطقة والعالم وتأتي ثورات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية السلمية المتجددة في سورية ولبنان والعراق والسودان والجزائر وتونس واليمن لتشق الطريق امام المشروع النهضوي العربي الحضاري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى