الدعوة التي أطلقها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي إلى حياد لبنان قبل أكثر من 3 أسابيع لاقت ردود فعل كثيرة مؤيدة ومرحِبة، لكنها جوبهت أيضاً بتعليقات رافضة، لا سيما من قِبل أوساط وقيادات شيعية وأخرى حليفة لـ”حزب الله”، ويُنتظر أن تستدرج مزيداً من التعليقات في الأسابيع المقبلة.
ومع اعتقاد أكثر من فريق سياسي أن الفكرة التي أطلقها البطريرك الماروني دشنت مرحلة جديدة على المسرح السياسي اللبناني، فإن لدى المتعاطفين مع الراعي قراءات مختلفة ومتعددة حول أي نوع من الحياد مطروح على لبنان في هذه الظروف، على الرغم من الإجماع حول أن الفكرة تستهدف “حزب الله” وسلاحه وتوريطه البلد في صراعات المنطقة وحروبها.
لن يتراجع
وأكد البطريرك الراعي خلال الأيام الماضية موقفه بوجوب حياد لبنان، وأبلغ مَن زاروه من السياسيين أنه لن يتراجع. فمنذ أن أطلق في 25 يونيو (حزيران) الماضي، نداءه داعياً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى فك الحصار عن الشرعية والعمل على حياد لبنان، والدعوة إلى مؤتمر وطني بحضور الدول الصديقة والشقيقة، أخذ الراعي يبلور فكرته بشكل يومي تقريباً، ويوضح مقاصده من ورائها. فبعد أسبوع على ندائه، الأول ناشد الأمم المتحدة أن تعمل على إعلان حياد لبنان. وما كان تكهنات بأنه يتحدث عن توريط “حزب الله” للبنان في حروب المنطقة وصراعاتها بسبب مشاركته فيها، أتى صريحاً على لسانه، حين قال لموقع “فاتيكان نيوز” الإخباري الذي يوزع أخبار البابا والنشاطات المتصلة به، الخميس في 16 يوليو (تموز) الحالي، “يوجد نوع من هيمنة يمارسها حزب الله على الحكومة والسياسة اللبنانية بسبب دخوله في حروب وتحالفات عربية ودولية، لا يريدها لبنان بالأساس، وهذا خلق أزمة سياسية كبيرة أثمرت أزمة اقتصادية ومالية حادة للغاية، وتحييد لبنان هو الحل”.
الاختلاف بين الراعي وعون
موقع “فاتيكان نيوز” الإخباري بث تصريح الراعي غداة اجتماعه بالرئيس ميشال عون للبحث في تصريحاته. وحاولت أوساط الرئاسة اللبنانية التخفيف من وقع كلام البطريرك بحجة أنه أدلى بتصريحه قبل موعده مع عون، أن الراعي كان “دبلوماسياً” في حديثه مع عون، لإدراكه عمق تحالف الأخير مع “حزب الله” ومراعاته مقتضيات هذا التحالف، ثم ساير رئيس الجمهورية في تصريحاته عند خروجه من لقائه معه في القصر الرئاسي، حين قال إنه لا يقصد فريقاً معيناً بدعوته إلى الحياد بل كل الفرقاء.
لكن الراعي بدد تسريبات الرئاسة بأنه كان على اتفاق معها، حين واصل التأكيد على مطلبه، وأبلغ بعض زواره بما دار بينه وبين عون من حوار، إذ إن الأخير حسبما نقل هؤلاء الزوار لـ”اندبندنت عربية”، قال له إن “الدعوة إلى الحياد في هذا التوقيت تسبب انقساماً وتحتاج إلى توافق داخلي”، مشيراً إلى أن “هناك موقفاً شيعياً معترضاً عليها”. وأوحى عون له بأن يبحث الأمر مع ثنائي حركة “أمل” و”الحزب”. ورد الراعي مذكِراً عون بأنه كان أول مَن دعا إلى حياد لبنان (قبل أن يتولى الرئاسة). وأشار إلى أنه سيتواصل مع ممثلين عن الثنائي الشيعي لمناقشة الأمر. وذكر هؤلاء الزوار أنهم سمعوا من الراعي كلاماً حول إمكان إيفاد أحد المطارنة للقاء رئيس البرلمان نبيه بري لإطلاعه على اقتراحه. كما فهموا منه أن هناك احتمالاً لإحياء لجنة قديمة للحوار بين البطريركية وبين “حزب الله”، للبحث في طروحاته الأخيرة.
نقل السجال إلى موضوع العداء مع إسرائيل
إلا أن أوساطاً مطّلعة على أجواء البطريركية تساءلت عما إذا كان اللقاء مع “الحزب” سيبقى مطروحاً بعدما شنّ مناصروه حملةً عنيفة على الراعي على مواقع التواصل الاجتماعي إثر بث تصريحه لـ”فاتيكان نيوز” وتحديداً كلامه عن “هيمنة الحزب على الحكومة”. واستخدم مناصرو الحزب هاشتاغ “راعي العملاء”، في إشارة إلى أنه يجاري مَن يهاجمون “سلاح المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي”، على الرغم من أن البطريرك استثنى عداوة لبنان مع إسرائيل في شرحه لمبدأ الحياد الذي طرحه.
افتعال مواجهة إسلامية – مسيحية
وفي وقت بقي “الحزب” صامتاً، استخدم حلفاؤه ومناصروه لغةً تخوينية ضد اقتراح الراعي. ووجد مؤيدو البطريرك أن الهدف منها ترهيب الراعي لنقل السجال الإعلامي من الاعتراض على تدخلات “الحزب” في الحروب العربية والتزامه المشروع الإيراني إقليمياً، ما تسبب بعزل لبنان عن محيطه العربي وعن الدول الغربية وبتعميق أزمته الاقتصادية، مع تشديد العقوبات الأميركية عليه وعلى البلد، إلى سجال حول الحق في مقاومة إسرائيل. وبدا واضحاً أن “الحزب” سعى إلى إحداث توازن مع تصاعد الاعتراض على استخدامه نفوذه على الرئاسة والحكومة لتكييف الموقف اللبناني الرسمي مع متطلبات المواجهة الإيرانية – الأميركية، على الرغم من الانعكاسات السلبية لذلك على معالجة الأزمة الاقتصادية المالية في البلد.
تقصّد “حزب الله” خلق مشهد مطالبة مسيحية بطريركية بالحياد مقابل رفض إسلامي، وإمكان حصول مواجهة سياسية طائفية، فزار وفد من “تجمع العلماء المسلمين”؛ وهو هيئة نشأت قبل سنوات بتشجيع من “الحزب” وتضم رجال دين شيعة وسنة حلفاء له، الرئيس عون. وشدد الوفد على أن “لا معنى للحياد وكل وسيلة تسهم في حماية بلدنا من الأخطار الإسرائيلية والتكفيرية يجب أن نحافظ عليها”، فأكد لهم عون أن لبنان “ليس في وارد الاعتداء على أحد أو تأييد الخلافات والحروب مطلقاً، إلا أننا ملزمون بالدفاع عن أنفسنا سواء كنا حياديين أو غير حياديين”. وتواكب مشهد الانقسام الطائفي مع اعتماد “الحزب” على حدوث انقسام مسيحي بفعل تحفظ حلفائه المسيحيين على كلام الراعي وفي طليعتهم عون.
تدخلات “الحزب” الإقليمية والتوافق الوطني
إلا أن تكرار البطريرك تمسكه بموقفه في عظته الأحد الماضي، بدعوته إلى الحياد دفع الحزب إلى استصدار بيان من رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان ضد هذه الدعوة معتمداً اللغة نفسها، فحذّر من “تحميل المقاومة وزر الأزمة الاقتصادية والمعيشية وطرح حياد لبنان كمخرج للخروج من الأزمات الحالية”، داعياً إلى “أن نقول لمَن بذل وقاتل وحرر الأرض واستشهد من أجل ذلك، شكراً لك”. لكن هذا التوجه يشكل في الوقت ذاته تحذيراً من أخذ المواجهة على الحياد إلى منحى مسيحي – شيعي، وإلى مواجهة مسيحية سنية مع الثنائي الشيعي. فالقيادات السنية الرئيسة أبدت تضامناً مع موقف البطريرك الماروني، حيث زاره في 6 يوليو (تموز) الحالي، زعيم تيار “المستقبل” رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، مؤيداً، ثم رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة على رأس وفد، مرحِباً بدعوته إلى الحياد. في المقابل، فإن انضمام رئيس الحكومة حسان دياب إلى مقولة الرئيس عون بأن الحياد يحتاج توافقاً وطنياً، يرمز إلى استبعاد الخيار الذي يطرحه الراعي، لكن تمثيل دياب السني شبه معدوم، لا سيما أن الحجة التي يطرحها وعون رد عليها معارضو “حزب الله” بالقول “ألا يحتاج خوض الحروب في الإقليم من قبل الحزب توافقاً وطنياً أيضاً؟ ومنها إطلاق حسن نصر الله الدعوات لقتل الجنود الأميركيين في العراق؟ وهل استأذن الحزب شركاءه في البلد للذهاب إلى القتال في سوريا والتدخل في العراق واليمن؟”.
مسار بدأ لكنه يأخذ وقتاً
ويسود الأوساط السياسية اعتقادٌ بأن مبادرة البطريرك الراعي أطلقت مساراً يهدف إلى فك العزلة عن لبنان بسبب توريطه من قِبل إيران في حروب المنطقة، لكنه سيأخذ وقتاً قبل أن تظهر نتائجه نظراً إلى ارتباطه بتعقيدات المنطقة. وترى هذه الأوساط أن البطريرك الماروني التزم متابعة القضية مع الأمم المتحدة حين ناشد المنظمة الدولية السعي إلى إعلان حياد لبنان. كما أن استناده إلى دعم الفاتيكان عبّر عنه السفير البابوي في لبنان جوزيف سبيتيري الذي كان واضحاً بعدما زار الحريري في 16 يوليو، بتشديده على “الدور الأساس والتاريخي لهذا البلد في المنطقة، في ما يتعلق بمفاهيم الحياد والوقوف على مسافة واحدة من كل القوى الإقليمية، مع البقاء ضمن لعب دور جسر التواصل والقناة بين العالم العربي والشرق الأوسط عموماً وأوروبا”.
جمهور القيادات المسيحية الحليفة لـ “الحزب”
وبالإضافة إلى تلقي الراعي تأييداً علنياً (إضافة إلى الدعم الضمني) من عدد آخر من الدول لمبادرته وفي مقدمتها السعودية على لسان سفيرها في بيروت وليد بخاري وفرنسا، فإن استبعاد تراجعه عن مبادرته يعود بحسب قيادات تتابع المزاج الشعبي المسيحي، إلى أن قسماً لا يُستهان به من الجمهور المسيحي الموالي لقيادات مسيحية حليفة لـ “حزب الله” مثل “التيار الوطني الحر” والنائب السابق سليمان فرنجية، بات يعتبر أنه جرى تسليف “الحزب” ما يكفي من المواقف المؤيدة له على صعيد سياساته الإقليمية، لكن البلد لم يعد يحتمل الأضرار الاقتصادية لعملية إلحاقه بالكامل بالخطط الإيرانية والآثار السلبية للعقوبات ضده على اللبنانيين وبالتالي المسيحيين. وهو أمر انعكس في مواقف هؤلاء الحلفاء، الذين وإن كانوا يرغبون في مسايرة الحزب في الوقوف ضد الدعوة إلى الحياد، يتجنبون المجاهرة بذلك ويحاولون تدوير الزوايا وابتداع مناورات وشروط للحياد، لشعورهم بأن جزءاً من مناصريهم بات يؤيد وضع حد لانسياق لبنان وراء سياسات “الحزب”.
المصدر: اندبندنت عربية