سوريو الشتات وشطحاتهم في رؤية الدولة

أحمد الشمام

تحكي قصة من طرائف مراحل تعليمنا الابتدائي قصة رجل فقير دخل بيته المتهالك؛ حاملاً عصاه وجرة عسل جمعها من قفير النحل الذي استثمره طوال عام، علّق الجرة على الجدار وتمدّد تحتها وعصاه بجانبه وقال لزوجته بشيء من الحلم، سأجمع عسلا أكثر ثم أشتري دجاجا للبيض وأرانب للتكاثر وبضعة أغنام للحليب والسمن لتكثر وتصبح قطيعا ثم أوسع الدار وننجب أولادا كثرا ونضع كلا منهم على عمل، شاركته زوجته الحلم وخالفته في بعض ما يحلم به حتى قال وإن اعترض أحد الأولاد أنهره بالعصا ولوّح بها بقوة فكسر جرة العسل وانهار حلمهما معا.

لم تكن مشكلة الفلاح البسيط في حلمه؛ بل في بنائه افتراضا على افتراض على افتراض؛ يعتمد كل منها على احتمالات لها قوانين، ونسب تحقق؛ ما يتنافى مع عملية تحقيقه الافتراض الأوّل ليبني عليه.

وفي ثورتنا ثمة مقولة اقتسام جلد الدب قبل اصطياده، ودخل السوريون في شتى مشاريع اقتسام جلد “الأسد” الذي ثاروا عليه فمنهم من نظّر لقتل الأب الدكتاتور ليحل محله، ومنهم من فكّر في صنع فراش وثير، ومنهن من شطحت لتصنع به ما يشبه ذيل الثعلب على رقبتها كسيدة في قصور بلاط العصور الوسطى.

تشظت الصور المتخيلة للدولة بما يشوه صورة الوطن تلك المفردة الحميمة على كل فرد، التي عانت إيذاء بعمد وبغيره، وأُمعن في تشويها وتشتيت أبهى صورها وكادت أن تتحول إلى صورة تحفة قديمة في مساحة الذكريات السادرة بلا عودة..

وتشظت الصور المتخيلة للدولة بما يشوه صورة الوطن تلك المفردة الحميمة على كل فرد، التي عانت إيذاء بعمد وبغيره، وأُمعن في تشويهها وتشتيت أبهى صورها وكادت أن تتحول إلى صورة تحفة قديمة في مساحة الذكريات السادرة بلا عودة، ولغرض البحث بما يدفع لفهم ما يحصل من تنازع وتشتت في الرؤى؛ صار لزاما التفكير في عنوان عريض وهو: (معنى أن يكون السوريون شعبا بلا دولة).

في تاريخنا القريب نعرف وآباؤنا أن الفلسطينيين شعب بلا دولة بعد احتلال فلسطين، وعند تتبع حركة المقاومة الفلسطينية التي اندلعت في أكثر من مكان بعد توزعهم في الداخل والشتات، وخضوعهم لشتى ظروف القهر والاستغلال والخيانة، ورغم انتمائهم لشتى الأيديولوجيات قومية وطنية يسارية ودينية؛ ظل يجمعهم الانتماء إلى فلسطين، ويحدوهم ناموس عام هو النضال لتحريرها.

ذهب الاتجاه اليساري والقومي بنضاله في منظمة التحرير الفلسطينية- الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني- مثلما ذهب الاتجاه الإسلامي في جهاده، وبقي الطرفان في اتصال وتعاون بشكل ظاهر أو مدغم، كل ذلك خارج مرحلة الارتهان الذي شهدته الساحة الفلسطينية بدءا من خروج منظمة التحرير من لبنان، وصولا إلى اتفاق أوسلو الذي حرف الكثير وأخرجه من معادلة المقاومة، ولا يختلف اثنان في القول: إنّ الحقبة الأولى مثّلت تعاونا رغم الاختلاف المنهجي.

على الصعيد السوري بعد اندلاع الثورة لو تتبعنا مفهوم الدولة الوطنية ونمط وجودها في أولى صورها في مخيال السوريين وثقافتهم، سنجد أنّا أمام شطرين واضحين في مستوى التوزع الجغرافي لحملته بين داخل وخارج، ويختلف التصور العام للدولة بشكل فارق لدى كل منهما، وبعيداً عما يطفو على السطح من اعتبار الداخل مؤيداً ويتم التعامل معه بفوقية ونخبوية متعالية، وعما يظهر من قبل شبيحة “الأسد” وضحايا إعلامه من تعويم صورة الخارج في أنهم إرهابيون، لا بد من الاقتراب أكثر لمعرفة مجموع المشتركات التي تجمع كلا منهم في مستوى التصور الأولي للدولة ثم مستواها المأمول الذي يُحلم بالوصول إليه.

إن الداخل الذي يغط تحت براثن “الأسد” والفاقة والعجز وتجار الحرب؛ ما زال يحمل تصورا للدولة منسجما في مستواه الأولي في كونها كيانا يحقق له الكرامة برفقة غيره من البشر على أرضها، مع حلم أن ينال الوظيفة والمستوى المعيشي، والأمان والحرية بما يضمن له الشراكة فيها، مع إحساس المثقف بضرورة التغيير الدائم نحو مستوى أعلى، وشعور المواطن البسيط بضرورة تحقيق الخدمات التي تضمن له مجالا مفتوحا للفعل والعمل والعيش الكريم، وهو ما لا يختلف قطعا عن الدولة في مستوى إدراكها لدى المواطن الأوروبي نفسه؛ رغم الفرق في مستوى المعيشة والمنتج العلمي الذي ستقوده الدولة وليس الفرد ولا الجماعة الأهلية في أوطاننا.

ولعل ما غفل عنه أغلب مثقفينا إدراك حالة المثقف لدى الدولة عموما وأوروبيا على وجه التحديد، وتعاملهم مع الدولة ككيان أعلى يحتكر العنف ويعبر عن مصلحة الجميع، يضبط التنافس وصراع الجماعات والطبقات بما يضمن أمن البلاد وسيرورة النمو والتطور، مع وجود نقطة تمثل مفصلا لما يطرحه المقال؛ وهو أن الدولة لن تستجيب لكل راغب بتغييرها.

بمعنى أنها كيان أعلى يتم الاتساق معه في مستوى القوانين والتوجيهات، ويتماهى العامة معه مؤمنين بوجوب اتباعها وعدم التمرد عليها، بالتساوق مع رغبة النخب من ساسة ومثقفين بتغيير جزء هنا وجزء هناك؛ كتيار المعترضين على الشذوذ الجنسي وقضايا الجندر، أو شعوب كاملة ترهقها على الضرائب في كل دول أوروبا الديمقراطية وتفتقر إلى إمكان تقليصها، أي أن هناك إقرارا -ولو على مضض- موجودٌ وقائمٌ باعتبار الدولة كيانا سياديا تقوده نخبة تصيب وتخطئ؛ وقد تمضي في خطئها ولا تلقي لهم بالا، باعتبارها تحمل توجها قد يدركون ضَلاله ولا يمكنهم صياغته أو التأثير فيه؛ مثلما تكون السياسة الخارجية مجالا لا يستجيب لهم ولا لاعتراضاتهم، وحرية التعبير التي وقرت في قوانينها، يستغله المستغلون، ويدرك حدوده فلاسفة ومثقفون وقد يرفضونه، ويرفضون نهج الدولة وسياستها الداخلية، ولا يملكون شيئا سوى التعبير بالكتابة مع غياب كامل للحركات الاجتماعية.

عجز المجتمع أن ينتج حركة تتأطر عبر تصور يطرحه فيلسوف مشهور يحاول تلمس الواقع وطرح تصورات جديدة وأفكار جديدة، أي غياب إمكان أن يفرض الفرد رأيه على الآخرين ضمن دولة مستقرة الحكم، مع بقاء الجميع مقرّين بتصور مشترك للدولة وكيانها وهويتها بعيدا عن اختلافاتهم..

وعجز المجتمع أن ينتج حركة تتأطر عبر تصور يطرحه فيلسوف مشهور يحاول تلمس الواقع وطرح تصورات جديدة وأفكار جديدة، أي غياب إمكان أن يفرض الفرد رأيه على الآخرين ضمن دولة مستقرة الحكم، مع بقاء الجميع مقرّين بتصور مشترك للدولة وكيانها وهويتها بعيدا عن اختلافاتهم، قبالة ذلك نجد الخارج السوري -وهو الذي يلبس غالبا ثوب المثقف والناشط والسياسي- فهو مشتت على نفسه أولا ومشتت فيما شهده، فلا كيان أعلى يملك قوة الإلزام الاعتباري، يمكن اتباعه -مع الرغبة في الاعتراض عليه وتغيير جزء من سياسته- إضافة لفقدانه التصور الأولي للدولة التي تضمهم والذي ما زال يحمله طالبو الأمان في الداخل وذوو النزعة البسيطة للحياة.

فالريفي الأمي الذي لم يعرف سوى أرضه وبضعة من جواره مستعد لافتداء سوريا، والقبلي الذي اختزل الوطن بأرضه وجواره مستعد كذلك في افتداء تصور أعلى قد لا يدركه وقد يدركه أطفاله إذ يكبرون.

إن فقدان سطوة الدولة ككيان أكبر وأوسع يقوم بدور يوازن بين شتى النزعات الفردية والجمعية، ويفرض احترام القانون هو ما جعل السوريين شتاتا، يشطح كل منهم في تصور جعله يطرح احتمالا مركبا على افتراضات مبنية على افتراضات لم يحقق أرضيتها بعد، بحيث صارت سوريا دولة يتم تناهب شكلها وأسسها المتخيلة، ومثلما قال كاتب إن السوريين خمسة وعشرون مليون وحيد في العالم، وأجزم أنا إن بقينا هكذا ستتحول سوريا إلى خمسة وعشرين مليون جزيرة تمثل كل منها وطنا خاصا لفرد.

تُبنى الدولة على تصور لوطن هو أهل وجيران ومكان وأناس مختلفون ألوانا وأديانا وأعراقا، أن تكون هويتك من هوية هذا الوطن الذي ضم الجميع، فيها العروبة الثقافية التي يحملها الكردي والتركماني وفيها الثقافة الإسلامية التي يحملها المسيحي كذلك، وفيها مما تكرس من ثقافتنا المشرقية الكثير مما تعجز عن تحقيقه قوانين رتيبة.

ولنتساءل ماذا لو عمِل “الأسد” على الإصلاح عند اندلاعة الثورة أو استقال، هل كنا سنحمل ما نحمله الآن؟ أمّا وقد عجز الجميع عن إزالة “الأسد” لاعتبارات موضوعية فالأولى بهم ألا يكملوا ما زرعه فينا مع باقي الدول، وأن يحافظوا على صورة الوطن والدولة بتصورها الأولي كمشترك عام يجمعنا بعيدا عن التشظي خلف أيديولوجيات شطرت السوريين وانشطرت على نفسها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى