يصبح من الواضح بشكل متزايد -حتى لبعض المراقبين الغربيين- أن المشروع الصهيوني قد استنفد مساره. وكانت لديه مسيرة غير عادية، لكنه يصل الآن إلى نهاية طريقه الاستعماري الاستيطاني.
كان إنشاء هذه الدولة اليهودية الاستعمارية الاستيطانية الإقصائية حالة شذوذ تاريخي، ومن بين أعظم الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الحضارة الغربية في القرن العشرين. وعلى الرغم من التحالف العميق -بين اليهود الغربيين ومعذبيهم الغربيين- الذي أسس إسرائيل في منتصف القرن العشرين، لم تستطع هذه الدولة اليهودية على المدى الطويل مقاومة المنطق العميق للتاريخ. ويمكن لعدد قليل من الإسرائيليين الرصينين أيضًا قراءة الكتابة على الحائط.
في الوقت نفسه، لا أحد يشك في أن إسرائيل قادرة على إلحاق ضرر مدمر بالمجتمعات الغربية التي تستضيف ثقافة إسلامية مؤثرة. ويهدد بعض أعضاء الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، الذين يتغذى تشددهم على الأوهام المسيحانية، باستحضار “خيار شمشون”. من المؤكد أن إسرائيل يمكن أن تقتل ملايين عدة من الإيرانيين والعرب بترسانتها من القنابل النيوترونية. ولكن أين سيترك ذلك الدولة اليهودية؟
هل سيسافر نتنياهو وبايدن وحلفاؤهما في المنطقة إلى عاصمة إيرانية جديدة -بما أنهم سيكونون قد قد محوا طهران من الوجود- للاحتفال بانتصارهم على إيران، ثم يعودون لإبرام تحالف إسرائيلي-عربي دائم، ضمنته الولايات المتحدة لألف عام بعد فوز ترامب في الانتخابات الأخيرة لهذه الديمقراطية العظيمة؟ من المحتمل أن يكون توماس فريدمان الفذ بصدد إرساء الجذور لهذا السيناريو في مقالته الافتتاحية القادمة في صحيفة “نيويورك تايمز”.
من أجل منع إسرائيل من إطلاق قنابلها النيوترونية، يجب على القوى الغربية التي كانت القابلة والراعية للمشروع الصهيوني أن تتحمل الآن المسؤولية عن خطئها التاريخي، وأن تدير انتقال هذه الدولة اليهودية غير الطبيعية إلى دولة طبيعية تمنح حقوقا متساوية لجميع سكانها -اليهود والعرب على حد سواء. لقد حمت القوى الغربية هذه الدولة المارقة لأكثر من 76 عاما، وقد حان الوقت للتغيير.
ويتعين على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مع ضرورة التصرف بحزم وسرعة، أن يفرض عقوبات على إسرائيل إلى أن تضع حدا لانتهاكاتها المستمرة منذ أمد طويل للكثير من القوانين الدولية. وفي الوقت نفسه، ستحتاج الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا إلى إغلاق خط أنابيب أسلحتها إلى إسرائيل. وإذا رفضت إسرائيل الموافقة على وقف دائم لإطلاق النار، فقد يحتاج مجلس الأمن أيضا إلى فرض حظر نفطي عليها.
إذا كان شخص ما -يهودياً كان أو بطريقاً- يقرأ هذا المقال ويفهم اختباري لمعاداة السامية، ويظل يصر على اتهامي بمعاداة السامية، فليعلم أن هذه الاتهامات تفشل في هذا الاختبار. (سوف أكتب عن هذا في القريب).
إنني أعارض الصهيونية -ليس لأنها يقودها اليهود، وإنما بسبب ما اقترحت الصهيونية فعله، وما فعلته، وما تزال تفعله بالفلسطينيين. وقد أوضحتُ أنني كنت سأعارض أي مشروع استعماري استيطاني إقصائي حتى لو كانت تنفذه طيور البطريق أو البجع أو الباكستانيون.
سوف يعترف مؤرخو الصهيونية في المستقبل بأن الصهيونية كانت فخاً نصبه معادو السامية البريطانيون -بالإضافة إلى تأمين السيطرة على نفطهم في الشرق الأوسط- للتخلص من السكان اليهود في أوروبا. وقد باع القادة الصهاينة، المفرطون في الطموح وقصيرو النظر، رؤيتهم الصهيونية بسهولة لليهود الغربيين بمجرد أن “جندوا” بريطانيا، القوة الإمبريالية الرائدة، لقضيتهم.
من المدهش جداً كيف أن شعبا لامعا ربما يكون قد أنتج ربع العقول الأكثر استثنائية في العالم -من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين- تبنى رؤيتين طوباويتين معيبتين؛ الشيوعية والصهيونية، اللتين قد تبهران بتألقهما السطحي، لكنهما لم تكونا متوافقتين مع القوى السماوية.
وقد انهارت الرؤية الطوباوية الأولى بسبب مطالبها المتطرفة من الطبيعة البشرية، في العام 1990. كما منعت هذه الاشتراكية الشمولية أيضا الانتقال -عندما كانت النافذة التاريخية ما تزال مفتوحة- من الرأسمالية المدمرة في القرن التاسع عشر إلى بدائل اشتراكية إنسانية وديمقراطية.
والآن، ربما تكون الرؤية الطوباوية الثانية قد استنفدت مسارها أيضاً. ولكن في حين أن الاتحاد السوفياتي الشاسع -قوة عظمى لديها ثاني أكبر جيش في العالم وترسانة نووية هائلة- قد انهار بطريقة سلمية، من دون التسبب في أي حروب، فإن إسرائيل، التي تجسد اليوتوبيا الصهيونية، تهدد جيرانها بنهاية عالم نووية.
لا يمكن لليهود الإسرائيليين أن ينقذوا إسرائيل من نفسها، لكن لدى يهود الشتات فرصة -بسبب بعدهم عن ذهان الحرب الذي ولدته الدولة اليهودية الاسبارطية- لاستخدام نفوذهم وسلطاتهم التنظيمية لمحاولة إعادة توجيه النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا نحو إنقاذ اليهود في فلسطين من المستنقع الصهيوني. هل هذا ممكن بما أن الصهيونية هيمنت على الخطاب في الشتات اليهودي أيضا؟
مع ذلك، هناك دلائل على أن قطاعات مهمة من يهود الشتات بدأت ترى أبعد من دعايتها الخاصة. على مدى الأشهر العشرة الماضية، اتخذ العديد من اليهود، وخاصة الشباب، موقفا أخلاقيا ضد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين التي بدأت في العام 1947، وليس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2024. وللمرة الأولى أيضا، تكلمت “محكمة العدل الدولية” -وإن لم يكن بوضوح وبصوت عال. وقدمت ”المحكمة الجنائية الدولية” أيضاً طلبات لإصدار أوامر اعتقال لاثنين من القادة الإسرائيليين، بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت.
يمكن للشتات اليهودي، ويجب عليه، أن يحشد جهوده لإنقاذ يهود إسرائيل من أسوأ غرائز حكومتهم اليمينية المسيحانية. لأكثر من 76 عاما، حشد يهود الشتات دعماً مستمراً للحكومات الإسرائيلية، بغض النظر عن جرائمها ضد الفلسطينيين. وقد حان الوقت الآن للتعبئة لكبح جماح القيادة الإسرائيلية المتطرفة. قد لا يكون الأوان قد فات. وربما ما يزال هناك وقت لعمل الشيء الصحيح.
*م. شهيد علام M. Shahid Alam: أستاذ الاقتصاد في جامعة نورث إيسترن. هذا المقال مقتطف من كتابه القادم “الاستثنائية الإسرائيلية: منطق الصهيونية المزعزع للاستقرار” Israeli Exceptionalism: The Destabilizing Logic of Zionism (ماكميلان، تشرين الثاني/نوفمبر 2009).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Zionism: Managing Its Demise
المصدر: الغد الأردنية/(كاونتربنش)