في الوقت الذي تشعر المعارضة السورية بمؤسساتها وتياراتها فيه بأن حلفاءها قد تخلوا عنها بعد انطلاق قطار التطبيع العربي والإقليمي الهائج مع الأسد، يكثر الهمس في الأروقة عن مخارج ذكية تضغط على هؤلاء الحلفاء للعودة إلى مواقفهم السابقة. بينما وفي ضفاف أخرى يعلو صوت شعبي رافض لأي خطوة تغرق أصحابها في مغاطس الدمٍ وتقدّم هدية مجانية تُخرج السوريين من شخصية الضحية المثالية لمجرم الحرب الكيماوي بشار الأسد إلى شخصية المتلاعب المتشاطر بقضيته، تمهيداً للتخفّف منها بعد أن بات يعتبرها عبئاً ثقيلاً عليه.
لستُ واثقاً من أن تحليلاً كهذا الذي أشير إليه اليوم، سيكون خبراً ساراً لمن يُقدمون على خطوات من نوع التقارب مع إيران وأذرعها في المنطقة، ولا يعنيني ذلك أصلاً، فالهدف هو قراءة الأفعال لا الأشخاص، وهم لو لم يحسبوا حساباً لردود الفعل المختلفة، المقتنعة والناقدة، لما كانوا أعلنوا عن خطواتهم المتودّدة إلى إيران، إيران ما غيرها التي بادرت إلى الضغط على الأسد من بدايات الثورة في العام 2011 ليطبّق الحل الأمني ورسمت له طريق ورؤية قاسم سليماني التي دمّرت سورية وهجّرت ملايين السوريين وسفكت الدم وزجّت بمئات الآلاف في المعتقلات وقادتهم نحو الموت تعذيباً.
ترتفع فكرة السياسة بالأصل إلى مقامٍ يشبه التعريف العلمي للذكاء البشري، وهو بأشهر نسخه (القدرة على حل المشكلات)، وكذا السياسة؛ تحاول حلّ المشكلات المحيطة بالناس في الفضاء العام. أما إذا تحوّلت السياسة إلى آلة لخلق المشكلات وإكثارها، فهي تقوم بوظيفة مناقضة تماماً وتصبح كارثة تضاف إلى الكوارث التي يعاني منها الخلق. والسياسة ليست “نجاسة” كما اشتكى الرئيس محمد مرسي ذات يوم في أحد خطاباته الأخيرة قبل الانقلاب عليه، حين نقل عن كمال الشاذلى عضو مجلس الشعب المصري الراحل قوله له “يا دكتور مرسي السياسة نجاسة وانتو ناس أطهار.. سيبولنا النجاسة وخليكو في الطهارة”. ويبدو أنهم حين قرروا ألا يتركوا السياسة، ذهبوا إلى ممارستها على الشكل المذكور في كلام الشاذلي، بينما أنت حين ترغب بممارسة السياسة لن يكون لزاماً عليك أن تتخلى عن “طهارة المبادئ” التي هي أساس كل عمل، ومن دونها تصبح الأمور فوضى و”سَلَطَة” كما وصفها رئيس وزراء ووزير خارجية دولة قطر السابق الشيخ حمد بن جاسم، قبل عدة أعوام.
من هنا تبدأ أهمية وخطورة المبادرات التي يعتقد أصحابها أنها تفكير خارج الصندوق، بحيث تبدو لهم نوعاً من “الفتوح السياسية المحنّكة”، بينما هي تورّطٌ جديد في المجهول وغرقٌ في رمال متحركة لها أول وليس لها آخر.
في بدايات سنوات الثورة، شنّ الإخوان المسلمون وغيرهم من أطياف المعارضة السورية هجوماً عنيفاً على هيثم مناع، حين تسرّبت أنباء عن لقائه بحسن نصر الله أمين عام حزب الله، وعلى هذا الأساس تم تكفير هيئة التنسيق التي كان مناع يمثلها سياسياً في الخارج، وجرى وضع خطوط حمر صارمة ضد التحرّك نحو إيران، ثم بعد حين اعترف القيادي في الإخوان والعضو المزمن في كافة المؤسسات السورية المعارضة منذ نشأتها بعد الثورة، فاروق طيفور بأن الإيرانيين عرضوا على الإخوان نوعاً من التسوية مع الأسد، مقابل بعض الوزارات بوساطة تركية، وزعم حينها أن الإخوان رفضوا ذلك العرض وامتنعوا عن اللقاء المباشر مع ممثلي خامنئي. ولم تحاول إيران استقطاب المعارضة السورية والشعب السوري الثائر بل اختارت قتلهم جميعاً، وطبّقت ذلك على أيدي ميليشياتها من عصائب الحق والزينبيين والفاطميون وحزب الله وفيلق القدس وكتائب سيد الشهداء ولواء أبو الفضل العباس وحركة النجباء…إلى آخر سلسلة القتلة.
وجاء تحوّل حماس الأخير من داعم للربيع العربي وللثورة السورية وقبلها المصرية، إلى طرف يتغنى ببطولات قاسم سليماني ويدور في فلك إيران ومحورها الدموي المقاوم، ويسمّي قاسم سليماني “شهيد القدس”، ليكون بوابة لانفتاح حماس على الأسد، ليس هذا فقط، بل كان قادة حماس يقومون بجولات مكوكية في المنطقة لإقناع بعض الدول الداعمة للثورة السورية بالتطبيع مع الأسد، وهذا ما فعلوه مع تركيا وغيرها. وكان تبرير خالد مشعل وغيره لذلك التحوّل إلى التحالف مع إيران، أن العرب لم يدعموا قضيتهم، فلا يحق لأحد أن يسائلهم، لماذا اتجهتم نحو إيران. وهكذا بدأت حماس تخرج من كونها حركة مقاومة لتدخل حفل الميليشيات الدائر في المنطقة في السنوات الماضية.
موقف البعض من السوريين لم يكن حاسماً تجاه ذلك التحوّل اللاأخلاقي من حماس، وكان يبرر لها الارتماء في الحضن الإيراني بذريعة أن (المُحاصَر مضطّرٌ وأن الضرورات تبيح المحرّمات)، ولن يلبث هؤلاء أن يسقطوا ذلك المبدأ على الثورة السورية، ليكون من الطبيعي عندئذٍ أن ينفتحوا هم على إيران أيضاً.
سيقول قائل الآن؛ لكن إيران لم تفعل بالفلسطينيين ما فعلته بالسوريين، بل دعمتهم، والرد على ذلك تقوله خمس ثوان من مشاهدة أخبار غزة، ما الذي كانت ستفعله إيران أكثر من دفع حماس إلى تدمير غزة على يد الإسرائيليين، كما هي الصورة في سورية؟ وما الذي كانت ستفعله إيران أكثر من قتل عشرات الآلاف وجرح وإعاقة مئات الآلاف من الغزيين؟ وما الذي كانت ستفعله إيران أكثر من إتاحة اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية على أراضيها كما في حالة اسماعيل هنية؟ إذاً إيران طبّقت المعادلة السورية على غزة بحذافيرها، وإن اختلفت الأدوات ولكن النتيجة واحدة.
وقد يراهن البعض على أن التلويح بالارتماء في الحضن الإيراني من قبل السوريين قد يثير اهتمام الدول العربية وتركيا مثلاً، قد يكون هذا ما يدور في أذهانهم، في تكرار للحسبة الحمساوية ذاتها، وربما يصل بهم الوهم إلى الاعتقاد بأن هذا الانفتاح قد يستفز الأميركيين فيسارعون إلى العودة إلى دعم المعارضة السورية من جديد.
هذا التفكير ليس قادماً من العدم، وإنما كان له محللون شرعيون فتحوا هذه القنوات من قبل، ولكن مع الروس، حين اعتبروا أن العلاقة مع روسيا ضرورية للسوريين حتى بعد أن دعم بوتين الأسد وأنقذ نظامه من السقوط وقتل من السوريين ما لم يقتل من الأوكرانيين ولا في كافة الحروب الروسية السابقة في الشيشان وسواها. والغريب أن السائرين في ركب الانفتاح على إيران من المعجبين بخط السائرين في ركب العلاقات الوثيقة مع الروس.
إيران لم يعد ينطلي عليها مثل هذا اللعب، بعد أن تجاوزت، ومنذ زمن طويل، قاموس السياسة إلى لغة الميليشيات وهدم الدول والمجتمعات، وبالتالي يصبح نشاط مثل هذا لعباً في الوقت الضائع، وانتقالاً غير محسوب إلى المزيد من الخسائر.
ولكن ماذا لو كان أحد الأطراف الإقليمية هو من يقف خلف مثل هذه الخطوات بالتقارب السوري المعارض مع إيران والحشد الشعبي والميليشيات، بغرض الضغط على الأميركيين، للقول؛ إننا ما زلنا نتحكّم بالأوراق التي بأيدينا، وهذه لحظة في غزة تحتاج فيها الولايات المتحدة إلى كل ما يزيد الضغط على الإيرانيين لا إلى ما يريحهم.
حتى معادلة كهذه تبدو ساذجة إن كان هناك من اعتمدها حقاً، فالإدارة الديموقراطية الحالية في البيت الأبيض ليست بحاجة بدورها إلى عبث كهذا مع الإيرانيين، وهي التي تحتفظ بعلاقات متواصلة معهم تدار في مسقط على أيدي بريت ماكغورغ وروبيرت مالي، والديموقراطيون يبدون حالياً أحرص على إيران من الخامنئي وحرسه الثوري، وهم لا يريدون لنفوذ إيران أن يتراجع بعد أن سلّم عرابهم باراك أوباما سورية والعراق واليمن ولبنان لطهران على طبق من ذهب.
لقليلي الصبر على التاريخ السياسي، نقول إن نظام الولي الفقيه في إيران يعيش في أواخر عهده، مرتبط بصحة الخامنئي وموته الذي قد يحدث في أي لحظة، وتفكّكه قادمٌ دون شك، لاعتبارات موضوعية تتصل بالاقتصاد والأمن والمجتمعات المقموعة التي تديرها منظومة الحرس الثوري وتؤثر بقوة على مستقبل المشروع كلّه، والرهانات لا تكون على المؤقت وإنما على الثابت الراسخ، وفي النهاية ليس مهماً من هو الذي يقدّم نفسه من السوريين (متطوّعاً أو مُنفّذاً) لدورٍ كهذا، ولا البُعد الذي يأتي منه، ولا ماذا يريد شخصياً، إنما الأهم هو كيف نقرأ نحن ظواهر من هذا النوع في المشهد السوري، وكيف نراقب ونحلّل انعكاساتها المباشرة على الرأي العام السوري الذي يثبت يوماً بعد يوم أنه متيقّظ كلّ التيقظ وواعٍ كلّ الوعي لأي صغيرة وكبيرة تدور من حوله، يرصدها ويقبض عليها في لحظتها.
أخيراً، يجد بعض السوريين أن من حقّهم أن يمارسوا السياسة بحرية غير محدودة، وفي كل اتجاه منفلتين من أي مسؤولية قد تترتّب على ذلك تمسّهم وتمسّ من حولهم، ومستندين إلى أدوار لعبوها في السابق، يظنّونها كفيلة بمنحهم حصانة ضد أي خطيئة سياسية يرتكبونها أو انجراف غير معقول يهرولون في ركابه، وفوق هذا كله يرفضون توقّف مواطنيهم السوريين عند مثل هذه السلوكيات، بل يستغربون ويستهجنون نقد الناس لها، وهذا وغيره من الأوهام نتركه للسوريين ليفكّكوه على طريقتهم، ورحم الله من قال “شعبي دوماً على حق”.
المصدر: غلوبال جستس