“أتى الديموقراطيون إلى مؤتمر شيكاغو ليشيدوا بجو بايدن، وليدفنوه”. قد تكون مقدمة مجلة “إيكونوميست” قاسية بحق الحزب الديموقراطي والرئيس الأميركي. لكن ثمة أدلة يمكن أن تؤيد طرح المجلة، وعلى أي حال، طرح آخرين أيضاً.
بعد أشهر من التوترات، عاد جو بايدن ليكون محبوباً بين الديموقراطيين، تقريباً. خلال تلاوة كلمته “الوداعية” في مؤتمر شيكاغو، قوطع مرات كثيرة بصيحات “نحبك” و”شكراً” وبتصفيق حاد. رأى البعض مثل فريدي هايوارد من مجلة “نيوستيتسمان” البريطانية، أن هذه الأفعال مبالغ بها وتنم عن “ذنب” أكثر مما تنم عن تعاطف. ربما هم محقون. فبحسب كارن تومولتي من “واشنطن بوست”، كان الجمهور يرسل الرئيس إلى كتب التاريخ.
حتى في وداعه (غير الرسمي)، لم يُمنح بايدن وقت الذروة ليل الاثنين كي تكون كلمته مسموعة لدى الجزء الأكبر من الأميركيين. ليس واضحاً ما إذا كان تأخر كلمته إلى ما بعد فترة الذروة الإعلامية مقصوداً أم عرضياً. لكن اللافت أيضاً أن بايدن تحدث في اليوم الأول لا الأخير من المؤتمر.
لا تتطلب معرفة عواطف بايدن اختصاصاً في علم النفس، بعدما دُفع إلى التنحي عن مسعاه لولاية ثانية. قبل أسبوعين من قراره المفصلي، قال إنه لن ينسحب إلا إذا تلقى طلباً من الله. ثمة جدل في الولايات المتحدة عما إذا كان ما حصل مع بايدن يرقى إلى انقلاب أم لا.
مشكلة “لم يصوتوا لبايدن وحده”
يقول جمهوريون إن ما حصل مع بايدن ينطبق عليه تعريف الانقلاب لأن الديموقراطيين اختاروا شخصاً لم يصوّت له ناخبوهم في الانتخابات التمهيدية. يرد الديموقراطيون بأنه سبق للناخبين أن صوتوا للتذكرة كاملة: بايدن وهاريس. وهي شاركت أيضاً في الحملة التمهيدية هذه السنة عبر تشجيع الناخبين على التصويت له. لكن ثمة نقطة ضعف في هذه الحجة. صوّت الناخبون لبايدن رئيساً ولهاريس نائبة للرئيس. إن كان هناك من ضرورة لتعديل التذكرة، وجب نظرياً العودة إلى الناخب. وهناك فكرة ثانية لا تخدم الديموقراطيين.
في الانتخابات التمهيدية لسنة 2020، لم تحصل هاريس على صوت واحد. لقد انسحبت منها حتى قبل انطلاق أول جولة من التصويت في مؤتمرات أيوا. وهذا أحد الأدلة على ضعف شعبيتها الخاصة. الأسئلة عن تحولها إلى مرشحة رئاسية بعد أربعة أعوام فقط على إخفاقها، ومن دون عودة إلى الناخبين، هي علامات استفهام معقولة إن لم تكن مطلوبة أيضاً.
“لا أحد يدين لك بأي شيء”
وهناك عقبة أخرى أمام الحزب الديموقراطي. يعدّ بايدن وسطياً في الحزب، بينما تُحسب هاريس على اليسار (هو تقسيم غير مثالي لكنه يسهّل النقاش). تشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن نسبة الوسطيين في الحزب أكبر من نسبة يسارييه أو ليبرالييه، ولو بشكل هامشي. بحسب دراسة صادرة في نيسان (أبريل) عن مركز “بيو للأبحاث” شملت توجهات الناخبين الديموقراطيين المسجلين، قال 25 في المئة سنة 2023 إنهم معتدلون أو محافظون، بينما قال 23 في المئة إنهم ليبراليون. (وأعلن 33 في المئة من الجمهوريين إنهم محافظون و14 في المئة أنهم ليبراليون).
إذاً، مُنح الليبراليون رئاسة التذكرة والوسطيون نيابتها. وإذا كان صحيحاً أن هاريس استبعدت حاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو لمصلحة نائبها الحالي تيم والز، فقط من أجل إرضاء الجناح اليساري الذي يرى شابيرو داعماً لإسرائيل، فهذا يعني أن اليسار كانت له الكلمة العليا في كلا المنصبين.
لم يقتصر وصف الانقلاب على الجانب الجمهوري من الأميركيين. في حين يرفض ليبراليون هذا الوصف على اعتبار أن قرار بايدن بالتنحي جاء طوعاً، كتبت مورين داود مقالاً في “نيويورك تايمز” تحت عنوان: “الديموقراطيون فرحون. لكن الانقلاب لا يزال انقلاباً”.
ربما ما يُحزن بايدن بحسب “إيكونوميست” – بالرغم من أنه فهم درس والده جيداً بأن “لا أحد يدين لك بأي شيء” – هو أن الرئيس لم يتعرض لأي هزيمة طوال حياته في مواجهة جمهوريين، بل فقط، كما الآن، في مواجهة ديموقراطيين.
“دليل عمليّ”
مؤلّف كتاب “انقلاب: دليل عملي” والذي تُرجم إلى نحو 16 لغة عالمية إدوارد لوتواك، يوافق على هذا التوصيف. لكنه يغوص في تفاصيل أعمق. هو يؤكد أولاً في مقاله على موقع “أنهيرد” أن هاريس ليست ديكتاتورية لكن المناورات السرية هي التي جعلتها مرشحة رئاسية.
ويشرح أن منصب نائب الرئيس معدّ أساساً ليكون شاغله مستعداً لتولي الرئاسة في حال وفاة الرئيس وليجذب أصواتاً لا يستطيع الرئيس جذبها. فطوال التاريخ الأميركي انتُخب سبعة نواب رؤساء إلى المنصب الأعلى في البيت الأبيض بينما حل ثمانية مكان رئيس متوفٍّ. كذلك، ذهب خيار بايدن الأولي لنيابة الرئاسة باتجاه السيناتور إليزابيث وارن قبل أن يقنعه أبرز سياسي أسود البشرة، النائب جيمس كلايبيرن الذي أنقذه بعد سلسلة من الخسائر التمهيدية، بأن تكون نائبته سوداء أيضاً. عندها، وقع خيار بايدن على هاريس لأنها حديثة العهد في مجلس الشيوخ وتفتقر لسلطة خاصة بها. وعلى أي حال، تجاهلها بايدن في سياساته خلال ولايته الأولى، بحسب تعبيره.
“منفى”
يترك كلّ ذلك المراقبين أمام فرضية مفادها أن بايدن خسر الترشيح وربما حتى حق المساهمة في اختيار الرئيس المقبل، وإن كان قد دعم هاريس بقوة خلال خطابه. يمكن أن يكون بايدن نفسه قد ساهم في خسارة هذا الحق بمجرد أن تراجع عن وعده السابق بأن يكون مرشحاً رئاسياً انتقالياً. بالتالي، فقدَ هو وحزبه وقتاً ثميناً لإعداد الاسم المقبل ووضعه في غربال الناخبين.
بعد كلمته التي نفى فيها أي خلاف مع الذين فضلوا تنحيه، ذهب بايدن إلى عطلة في جنوب كاليفورنيا. هايوارد من “نيوستيتسمان” وصف ذلك بأنه “منفى اختياري”. ففي 2024، كما كتب، “لم يكن بإمكان حزبه أن يحبه إلا بمجرد معرفته بأنه سيكون قد ذهب خلال وقت قصير”.
المصدر: النهار العربي