الثورة السورية وحرب المصطلحات

عبد الحميد عكيل العواك

إنَّ ثورات “الربيع العربي” لم يُنظِّر لها أحدٌ من المثقفين؛ لأنَّهم لم يتوقعوها، ولم يكن لها فلاسفة يسيرون أمامها لينيروا الطريق، لذلك فإنّ تلك الثورات العربية سابقة لنخبها، ليس لها آباءٌ مؤسسون أو مفكرون أو منظرون، فهي يتيمة بهذا الجانب، وقد تقدّم القادةُ الشبابُ في الثورة حين تأخر الآخرون.

إنَّ الزلزال الذي تهتزّ تحته بنية السلطة في الوطن العربي لا يشكلُ تحدياً لها فقط، بل يضع العلوم الاجتماعية، وبالأخص علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية، في مواجهة صلاحية أدواتها ومناهجها التي استُخدمت في دراسة المجتمعات العربية وفهمها، فهذه المجتمعات كثيراً ما عُدَّت راكدة وعصية على التغيير ليس بسبب ضعف، بل لغياب إحساس شعوبها بالحاجة إلى الديمقراطية.

أخطأت بعض النخب مرةً حين لم تسر مع شباب الثورة، وأخطأت مرة أخرى حين خاطبت الناس من برج عاجي، كما أخطأ بعضهم بإطلاق مسميات عليها لا تشبهها، إذ إنّ لفظ الثورة بمقدار ما اتّضح في وقتنا الحالي، وتحدّد معناه، بمقدار ما يثير لغطاً حول كثرة استخدامه، فالبعض -ولا سيما من يقوم بذاك التحرك- يرى بأنّ أيَّ تحرك ضد السلطة مهما كان نوعه أو حجمه أو غايته أو وسائله يراه ثورة، والبعض الآخر، ولا سيما من يكون بالسلطة أو موالياً لها، ينفي عن كلّ تلك التحركات صفة الثورة، حتّى لو استجمعت عناصرها ووسائلها وغايتها، فهو يراها جميعاً تمرّداً يستوجب القمع  المادي والمحاسبة القانونية؛ لأنّها مؤامرة على السلطة الشرعية التي تحكم البلاد باسم القانون الذي وضعته واستبدّت به.

وثمة طَرفٌ ثالث لم يحدد موقفه بعدُ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يبحث عن تسمية أخرى بذريعة البحث العلمي والحيادية والاستقلالية التي يتمتع بها الباحث.

ولأنَّ المصطلح العلمي له دلالته ومقوماته وشروطه الموجودة مسبقاً، فلا يستطيع علمياً أيُّ طرف أن يستخدم المصطلح في غير موضعه؛ لأنَّه حتماً سينكشف عوار ذلك الاستخدام، من هذا المنطلق سنحدد معنى مصطلح (الثورة) ونطبّقه على ما حدث في سوري بعد عام 2011.

دلالة مصطلح الثورة

إنَّ لفظ الثورة من أكثر الألفاظ التي تثير الجدل بين فريقين (السلطة، والثوار) إذ يعلمان بأنَهما لا يستطيعان إقناع بعضهما البعض، لكنّ الجدلَ بالنسبة إلى الثورة هو جزء منها، وهو أساس الحرب الإعلامية بين الطرفين.

إنَّ الاستخدام المجازي الأول لكلمة (revolution) في اللغة السياسية، استُخدِم للدلالة على شيء لا يُقاوم، دون الإشارة لأي دلالة أخرى، وخلال الحوار الذي جرى بتاريخ 14/7/1789 في باريس بين لويس السادس عشر ورسوله (البانكوروت) عندما جرى تحرير سجناء الباستيل صرخ الملك قائلاً: “إنه تمرد” فصحح له اللفظَ رسولُه قائلاً: “لا يا صاحب الجلالة إنَّها ثورة”، فالملك كان يرى اقتحام الباستيل تمرداً، ويجب أن يمارس سلطته في قمع هذا التمرد بالوسائل التي بين يديه، أمّا جواب رسوله فكان تحت معنى أنّ هذا الأمر يصعب، وتستحيل مواجهته، فهو خارج سلطة الملك، وهو لا يقاوم.

الحقيقة التي يجب أن نعيها هي أن مصطلح “الثورة” لم يقف عند دلالة لفظه الأول السابق ذكره، بل إنَّه تجاوزه، وتجاوز مفهوم الآباء المؤسسين للثورتين (الأميركية، والفرنسية)، فالباحثون المختصون في الثورات الذين درسوا الثورات بعد انتهائها توصلوا لمفهوم عن “الثورة” يختلف اختلافاً جذرياً عمّا تعلمه السابقون، بأنَّ الثورة ليست عودة للخلف لاستعادة الحقوق الطبيعية للإنسان، بل إنَّها مَسيرة إلى الأمام.

ونستطيع إجمال تعريفات “الثورة” من خلال المنظور الذي تمّ به تحديد مفهومها، فالبعض نظر إلى الثورة من خلال الغاية التي سعت إلى تحقيقها، وآخرون تعرّفوا إلى الثورة من خلال الوسيلة التي استخدمتها الثورة.

الثورة والتغيير

إنَّ التغييرات الجذرية التي فرضتها الثورات الكبرى في التاريخ على كل المجالات والأصعدة، هي التي جعلت جذرية التغيير الثوري يُعدّ من أهم مميزات الثورة، ليرتبط مفهوم الثورة بالتغيير ارتباطاً عضوياً لا انفصام له، ويصبح مفهوم الثورة من وجهة نظر البؤر الثورية السياسية تغييراً للسلطة السياسية والواقع الاجتماعي والثقافي لمجتمع، وهو تغيرٌ نوعيٌ كليٌ مفاجئ

وفي هذا السياق ربط بعض المفكرين بين مفهوم التغيير والثورة، فيعرفها Jack Woodis:  “الثورة الاجتماعية والسياسية هي مسألة التغيير في كل أساس المجتمع وبنيته”، من هذا المنظور يرى (Maciver): “الثورات الحقيقية هي الحركات الكبرى التي تقوم بها طبقة بكاملها، يدفعها إليها شعورها بأنّها مضطهدة بوصفها طبقة معينة وتحركُها إرادةُ وضع الكرامة ورفع الذل، وتفلح في تحقيق ما تريد”، والسؤال هنا: أكانت أحداث سوريا سنة 2011 غير ذلك؟! فطبقة الثوار حركها شعورها ووعيها بأنها مضطهدة، فسعت إلى تحقيق كرامتها، وغاياتها المشروعة، إذاً هي ثورة حقيقية وفق الفقه السياسي المعاصر.

إنَّ جذرية التغيير تستهدف استبدال البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لتأسيس قيم جديدة يتطلع المحكومون إليها لأنَّهم يعتقدون أنَّها تلائم مصالحهم، وهذا ما جعل السوريين يندفعون في المغامرة الثورية، فلا فكرةَ تحويل مسار التاريخ تحركهم، ولا الإيديولوجيا (التركيب العقلي)، وإنَّما القضايا الإنسانية المباشرة (حقوقهم وحرياتهم) هي التي جعلت الثورة السورية فعلاً إنسانياً بقدر ما هي فعل تاريخي.

فالتغيير الثوري يتألف من عمليتين متكاملتين (التدمير، والبناء)، فهو تدمير للنظام السياسي القديم وما يحمل من أفكار ومعتقدات تكبّل إرادة الإنسان وتقيد حريته، وبناءٌ لنظام سياسي جديد يعيد للإنسان حقوقه الطبيعية وحرياته العامة.

ويؤكد هذا المعنى (Joel Monroe) بقوله: “إنّ الثورة السياسية تتناول ليس فقط الهيئة الحاكمة، ولكنّها تتغلغل لتتناول بالتغيير كلّ بنيانه”.

ولأنَّ الثوار السوريين يرون أنَّ تغيير السلطة أول شروط نجاح الثورة، وأول آليات التغيير، فلا تستطيع تغيير ما سواها قبلها، لذلك كان الصدام مع السلطة بصفتها القلعة الأولى التي تمنع التغيير وليس بصفتها تحتكر العنف المركزي.

ولو بحثت في أدبيات الثورة السورية منذ يومها الأول، لوجدتها تنادي بالتغيير الذي يشمل البنية القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كرسها نظام الاستبداد، والاستبدال بها قيمَ مجتمعٍ ديمقراطي.

ربما يعترض البعض على توصيف ما حدث بالثورة؛ لأنَّ هناك ممَّن شارك بالثورة أراد العودة بها إلى الماضي، وليس السير بها إلى الأمام، نرد على ذلك بأنَّ مفهوم الثورة المعاصر يختلف عمّا كان يُؤمن من قام بها من الآباء المؤسسيين الأميركيين، الذين كانوا يرونها التفاتاً إلى الأصول، وأنَّها ليست سوى استعادة الحقوق الطبيعية وتصحيح العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم.

هذا المفهوم تغيّر عندما فرضت الثورة نتائجها المذهلة بالتغيير والسير إلى الأمام من دون التفات إلى الخلف. هذه النقلة بالتصور عن مفهوم الثورة فرضه الواقع الناتج عن الثورة، وهذا يعني بأنَّ إيمان القائمين بالثورة الأميركية والفرنسية بالعودة للماضي إلى الحقوق الطبيعية لم ينفِ عنهما صفة الثورة، على ذات القاعدة وجود فئة بالثورة السورية تؤمن بالعودة إلى الماضي لتنقية الحاضر لا ينفي عنها صفة الثورة.

الثورة والعنف

البعض نظر إلى كمية العنف الذي حصل في سوريا منذ عام 2011 إلى الآن، وعمد إلى إخراجها من كونها ثورة باتجاه أي مصطلح آخر، أو لنقل: سلب هذا الحراك اصطلاح الثورة.

هنا نقول: السمة الظاهرة والغالبة على الثورات هو استخدامها لوسيلة “العنف” للوصول إلى غاية “التغيير”، لأنّ التاريخ أثبت أنّ عملية الانتقال من زمن الاستبداد إلى عهد الحرية لا يتم ضمن التطور الطبيعي للمجتمعات الإنسانية، بل لا بدّ من فعل عنف من الجماهير باتجاه السلطة المستبدة، وبهذا السياق فسَّر نيلسون مانديلا تحول منظمته إلى العنف في إفادته أمام محكمة Rivonia)) بتاريخ 2/4/1964 حيث قال: “شعرنا أنَّه من دون العنف لن يكون هناك طريق مفتوحة تضمن للإفريقيين النجاح في صراعهم ضد مبدأ تفوق البيض، فالتشريعات كانت قد أغلقت جميع السبل القانونية للإعراب عن معارضة هذا المبدأ، ووُضعنا في مركز يحتّم علينا إمّا القبول بحالة دونية، أو تحدي الحكومة، فاخترنا تحدي القانون أولاً بطريقة تجنبت الالتجاء إلى العنف، وعندما لجأت الحكومة إلى عرض القوة بغية سحق المعارضة، عندها فقط قررنا أن نرد على العنف بالعنف”.

هنا يتفق السوريون مع مانديلا في لجوئهم للعنف بأنّهم مثل كل الثوريين لا يبدؤون صناعة العنف، إنّما السلطةُ المستبدة التي سدّت المنافذ القانونية والدستورية بوجه التغيير هي التي تملك وسائل القهر المادي، لذلك فإنّ هذه السلطة هي التي أوقدت شرارة العنف، ودفعت إليه، وحددت مقداره، إذ إنه بمقدار ما تلجأ السلطة إلى القوة في قمع الثورة تلجأ البؤر الثورية إلى عنف يوازي قوة القمع السلطوية ويتحداها.

إنَّ استعمال العنف يؤدي إلى توسيع نطاقه أفقياً وعمودياً، وكلّما ازداد العنف من الجانبين توسعت دائرته بصورة حلزونية، هذا التلازم بين الثورة والعنف دفع (Chalmers Johnson) للقول بأنّ “الطريقة الوحيدة لفهم الثورة هي أن تُدرس بكونها شكل من أشكال العنف”.

من خلال النظر لهذا التلازم يُعرّف بعضُهم الثورات بأنّها “اضطرابات مدنية تتسم بالعنف، وتؤدي إلى إبدال جماعة قائمة بأخرى، تلقى دعماً شعبياً على نطاق واسع”، وبذات المعنى يربط Raymond Aron)) بين الثورة والعنف بقوله: “إنّ كلمة ثورة في علم الاجتماع تعني إزالة نظام عن طريق القوة وإحلال آخر مكانه”، وفي ذات السياق نفسه يعرف “ليون تروتسكي” الثورة بأنها: “تدخل عنيف تقوم به الجماهير في المجال الذي تتقرر فيه مصائرها”.

هذا العنف الثوري المعترف به لدى كل الاتجاهات الليبرالية واليسارية، لا بد أن يجد طريقه لدى الجماهير السورية التي تقاوم استبداد الأسد الذي أوغل في العنف والإجرام، فالعنف الثوري مؤشر على ردة فعل الجماهير تجاه الاضطهاد الذي كانت تعاني منه.

كان حريّاً بآخرين بدلاً من محاربة العنف في الثورة، وهو سياق طبيعي، محاربة منزلقات العنف الثوري، لأنَّ الحركة الثورية معرضة لأخطار إساءة استعمال العنف، الذي نحن ضده، فيجب على الحركة الثورية أن تكون لديها نظرية تعرف بواسطتها متى تستعمل العنف، وضد من، وبأي مقدار، وما هو الفرق بين العنف الثوري والإرهاب؟!.

ما بين الثورة والحرب الأهلية!

الذي وصف الثورة السورية بالحرب الأهلية أخطأ، لأنَّ ما بين الثورة والحرب الأهلية فروقات كثيرة وكبيرة لا مجال لذكرها الآن، ولا أستغرب من ردة فعل الثوار العنيفة على ذلك الوصف، لأنَّ الثورة السورية أمٌّ عزيزة على أبنائها، سُطّرت صفاحتها بدماء شهدائها، وصرخات معتقليها، وتاجها نساء حرائر منهنَّ الشهيدات والمعتقلات والقياديات.

لقد استخدم من أراد وصفها بالحرب الأهلية، تعريفاً مرناً ومطاطاً ينطبق على الحرب الأهلية وسواها، فهو يقول بأن الحرب الأهلية هي “صراع مسلح بين جهة مركزية تحتكر العنف وأكثر من جهة فاعلة ضمن أراضي الدولة على أن يكون هذا العنف دائماً ومستمرا”.

هذا التعريف يصلح لجميع أنواع الصدام بين السلطة والجماهير، سواء كان التصادم احتجاجات يرافقها عنف أو تمرد موزع على جغرافيا الدولة، أو انقلاب عسكري أدى إلى تصادم بين السلطة والانقلابيين، هذا التعريف الواسع نعتقد من الناحية الأكاديمية أنه يجب استبعاده، لأنَّ التعريف يجب أن يكون محدداً ودقيقاً وذا دلالة واضحة، ولا يُحدِث لَبْساً مع غيره من المصطلحات.

وأما الثوراتُ لا نستطيع تصنيفها ضمن قالب واحد نعدُّه نموذجاً للثورة، لأنّ الثورة متحركة متبدلة متماهية مع واقعها، فالفروقات كثيرة بين الثورات، وكذلك بين الأنظمة التي تمخضت عنها، ومن هذا المنطلق فإنَّ الثورة السورية لا يمكن قياسها بثورات سبقتها أو عاصرتها.

إنَّ المفهوم العصري للثورة، يعبِّر عن نزعة الخير الموجودة في الإنسان، التي تدفعه إلى تحسين أوضاعه وتغيير ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، كما أنَّ التغيير الثوري الذي يجب أن يرتكز على القيم التي تحكم المجتمع.

ويرى السوريون المشاركون بالثورة مثلما يرى Georges Burdeau)) بأنّ “الثورة إعادة ترتيب كامل لكلّ القيم التي هي القاعدة الذهنية للنشاط الإنساني”، وللنظام السياسي السوري قواعد استبدادية تتحكم بنظمه السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وقد شعر السوريون المحكومون بهذه القواعد بأنَّها أصبحت قيداً على تطلعاتهم المستقبلية، وبدأت حالة التناقض بين قواعد موجودة وقيم يريدونها، هذا التناقض أدى إلى اضطرابات سياسية واجتماعية، ووصل الأمر بحدوث الثورة السورية للمطالبة بقيم جديدة تتناسب مع روح المجتمع الثورية.

إنَّ ما حدث في سوريا ثورة لا يتنازل أبناؤها عنها مهما كانت التضحيات، ولن تنتهي، بل سيولد من رحمها سلسلة من الثورات ليس آخرها ثورة “سويداء القلب”، وستبقى الثورة ولّادة حتى تحقق أهدافها بالتغيير المنشود.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى