خرقت إسرائيل قواعدَ الاشتباك، المعمول بها اعتباراً من 8 أكتوبر / تشرين الأول 2023 في لبنان وفي إيران، عندما أغارت الطائرات الإسرائيلية على مبنىً سكنيٍّ في الضاحية الجنوبية لبيروت، فقتلت فيه مدنيين، إضافة إلى القيادي العسكري في حزب الله، فؤاد شكر. وأيضاً، عندما اغتالت في طهران رئيسَ المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، من دون أن تُعلن ذلك أو أن تتبنّاه رسمياً.
توعّد حزب الله بالردّ على ضرب الضاحية، واغتيال أحد قادته العسكريين، لكنّه لم يكشف عن طبيعة الردّ، ولا عن زمانه ومكانه، واكتفى الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، غير مرّة، بالقول : “إنّ الردّ آتٍ، وبيننا وبينكم الأيّام والليالي والميدان”. وقد مرّ على حادثة الاغتيال أكثر من عشرة أيام ولم يردّ الحزب بعد على العملية الإسرائيلية.
أمّا في طهران فقد تعهّد المُرشد الأعلى للجمهورية، علي خامنئي، بالردّ على اغتيال هنيّة، ووجّه قيادات الجيش والحرس الثوري ومؤسّسات الدولة للتحضير لذلك، على اعتبار أنّ جريمة الاغتيال اعتداءٌ على سيادة الدولة الإيرانية، فضلاً عن أنّها استهدفت أحدَ أبرزِ حلفاء الجمهورية الإيرانية في المنطقة، غير أنّ الردّ الإيراني لم يحصل بعد، على الرغم من مرور أكثر من عشرة أيّام أيضاً على حادثة الاغتيال.
عاشت إسرائيل، والمنطقة كلّها معها، حالةً من الانتظار والترقّب والقلق. أمّا إسرائيل، فيشكّل الانتظار حالة استنزاف لها، لأنّها مُضطرّة إلى العيش بحالة من الاستنفار الكامل في مدار الساعة، وفي كلّ المدن والمؤسّسات، بانتظار معرفة ماهيّةَ الردّ وكيفية التعامل معه، وهذا يُشكّل نزفاً حقيقياً للدولة ومؤسّساتها، وللمجتمع أيضاً. ولذلك، لا تستطيع أن تبقى في حالة الاستنفار من ناحية، ولا تملك الاستغناء عنها من ناحية ثانية، ما دام أنّه لم يطرأ أيّ تغيير أو تعديل على الوضع. وأمّا المنطقة، ومحيط فلسطين المُحتلّة، سيّما لبنان، فالترقّب والقلق سيّدا الموقف، على اعتبار أنّ الردّ على إسرائيل قد يفتح أبواب المنطقة على حرب واسعة ومجنونة، تنخرط فيها دولٌ كثيرةٌ، وهذا ما يُعقّد المشهد، ويجعل أمد الحرب تطول وتتوسّع أكثر.
أمّا إيران وحزب الله، فهما لا يريدان توسّع الحرب، ويعرفان أنّ ذلك سيجعل دولاً أخرى، سيّما الولايات المتّحدة تنخرط فيها دفاعاً عن إسرائيل، وضماناً لأمنها واستمرارها، فضلاً عن أنّ تحوّل المنطقة إلى ميدانِ حربٍ واسعٍ سيجعل من هذا الميدان بؤرةً تستنزف كلّ القوى والدول المنخرطة في الحرب. ومن ثم، سيخسر بعضها مكتسباتٍ ومنجزاتٍ تحقّقت لها في عقود. وعليه، إيران وحليفها حزب الله يزينان الردّ بميزان الذرّة، وليس الذهب فحسب، حتّى لا يُعطيا رئيس الحكومة الإسرائيلية ما يريده، وحتّى يحافظا على مكتسباتهما، وحتّى يُبقيا حالةَ الاستنزاف لإسرائيل، وهي أفضل حالة في هذه المرحلة. غير أنّهما لا يمكنهما تجاهل ما جرى والسكوت عنه، خاصّة أنّه مسَّ سيادة الدولة الإيرانية، وضرب أمن الحزب في عمق داره في الضاحية. ومن هنا، فإنّ الردّ عندهما بات محكوماً بسقف استعادة الردع، والحفاظ على التوازن في حالة الحرب، وليس الانتقام لاغتيالي إسماعيل هنيّة وفؤاد شكر، ولذلك ركّز الأمين العام للحزب في آخر كلمة له على الردّ الحكيم والعقلاني والمتأنّي.
غير أنّ هذا الردّ قد لا يحصل أبداً، وربّما تأخّرُه يشي بذلك، ويتوقف على فرصة إنجاز تسويةٍ شاملةٍ في المنطقة، تُوقِفُ العدوان على غزّة، وتُطلِقُ سراح الأسرى، وتعيد إعمار القطاع، وتوقف جميع الجبهات. بهذا المعنى، سيظلّ الردُّ مُعلَّقاً إلى حين إنجاز التسوية، ويبدو أنّها باتت محلَّ رغبة أطراف أساسية، وربّما هذا يُشكّل مَخرَجاً وفرصةً حقيقيةً للانتهاء من الوضع القائم حالياً، الذي يُنذر بتوسّع الحرب التي لا يُريدها أحد، حتّى بنيامين نتنياهو، سوى بمقدار ما يُقدّم نفسَه إلى الرأي العام الإسرائيلي بطلاً قد أحرز نصراً، ولو وهمياً، وإلّا، فالمنطقة كلّها تقف على حافَة حربٍ حقيقيةٍ قد تتحوّل مع الأيّام إلى إقليميةٍ وكُبرى.
المصدر: العربي الجديد