باختيار حركة حماس يحيى السنوار رئيساً لمكتبها السياسي، تفقد عملية اغتيال إسرائيل الرئيس السابق للحركة، إسماعيل هنيّة، أيَّ قيمةٍ عسكريةٍ أو معنويةٍ، بل إنّها تندرج في إطار العبث أو استعراض فائض القوّة، فالرجل كان مفاوضاً وسياسياً ولا فاعلية ميدانية له، والمخابرات الإسرائيلية المسؤولة عن تقييم الوضع وتقديم المشورة للمستويَين، العسكري والسياسي، كانت تعرف هذه الحقيقة.
الحقيقة الأكثر أهمّية، أنّ السنوار، بصفته القائد في غزّة، هو من أخرج مشهد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (2023)، وكتب السيناريو الخاص به، عبر سنوات طويلة من العمل وهندسة الأجنحة الأمنية والعسكرية للحركة، لتكون في هذه الشاكلة. وحسب مصادر الحركة، بدأ السنوار بعملية الهندسة داخل الحركة منذ انتخابه عام 2012 عضواً في المكتب السياسي للحركة، وتولّيه مسؤوليةَ الجناح العسكري؛ كتائب عزّ الدين القسّام، وشغل مهمّة التنسيق بين المكتب السياسي للحركة وقيادة الكتائب.
واعتباراً من حرب غزّة 2014، التي سمَّتها إسرائيل “الجرف الصامد”، بدأ ظلُّ السنوار يظهرُ بوضوحٍ في إعادة تشكيل الجناح العسكري للحركة، فقد أجرى بعد انتهاء الحرب تحقيقات وعمليات تقييم شاملة لأداء القيادات الميدانية، وهو ما نتجت منه إقالة قياداتٍ بارزةٍ، وتولّي قياداتٍ شابّةٍ جديدةٍ أقرب إلى فِكْرِ السنوار وتصوّراته العسكرية.
والسنوار، الرجل المهووس بالأمن، بسبب نشأته الأمنية، وهو مُؤسّس أول جهاز أمني في الحركة (مجد)، الذي كانت مهمّته الأساسية مطاردةَ العملاءِ والجواسيس، شأن رجال الأمن كلّهم في أيّ سلطة، لا يثق إلّا بمن يختبرهم ويفحصهم، وكانت آخر عشر سنوات، وحتّى قبل اختياره رئيساً للمكتب السياسي للحركة في غزّة، كافيةً للسيطرة على أكثر مفاصل الحركة العسكرية والأمنية أهمّيةً، وإدراج تصوّراته ورُؤاه للحرب مع إسرائيل في صلب استراتيجيتها وعقيدتها.
كان ما جرى في 7 أكتوبر تطبيقاً لرؤية السنوار الاستراتيجية للصراع مع إسرائيل، فهو يرى أنّ نمط العمل القديم القائم على عمليات صغرى لا يُؤدِّي إلى نتائجَ مهمّة للقضية الفلسطينية، ولن تُرغِم إسرائيل على تنفيذ القرارات الدولية، وأنّ ما يُحقّق ذلك عملية كُبرى تجبر إسرائيل على الرضوخ، أو تعزلها عن المجتمع الدولي، وتضعف موقفها العالمي، ما يعني أنّ السنوار كان لديه تقدير للمشهد بعد عملية الطوفان، فالمعروف عن الرجل أنّه واقعيّ وليس حالماً. في الأحوال كلّها، إسرائيل مسؤولة بدرجة أساسية عن المعادلات التي تشكَّلت في غزّة، وفلسطين كلّها، ولا يمكن إلقاء اللوم على شخص أو كيان في الطرف المُقابل، فقد كان من المنطقي أن يُقابل النُخْبَة المتطرفة التي وصلت إلى الحكم في إسرائيل، التي تعمّدت عبر سياسات مقصودة وممنهجة إذلال الفلسطينيين، وتهديم أساسات قضيتهم، تشدُّدٌ في الطرف الآخر، بات مطلوباً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً لحماية ما تبقَّى من فلسطين، شعباً ومُقدَّساتٍ ورمزيةً، في مواجهة دعوات إسرائيليةٍ صريحةٍ بالتسريع في إعلان يهودية فلسطين، وطرد العرب من الضفّة، وهدم المسجد الأقصى.
والحال أنّ اختيار السنوار ستكون له انعكاسات واضحة في إدارة المفاوضات، وسيكون للميدان تأثير كبير في تحديد أطر أيّ صفقةٍ محتملةٍ في المستقبل، ورغم أنّ تأثيرات السنوار في هذا الإطار كانت موجودة، إلّا أنّها، وبعد دمجه السيطرة على السياسة والعسكر، وتفرُّده في القيادة، سيغيّر بدرجةٍ كبيرةٍ المعادلةَ السابقةَ، ويُؤثِّر في خيارات “حماس”، بحيث يصبح خيارُ استمرار المقاومة، حتّى رضوخ إسرائيل وسقوط بنيامين نتنياهو، ممكناً، رغم صعوبة تحقيق هذا الاحتمال بالنظر لاختلاف موازين القوى، إلّا أنّ رهانات السنوار تنطوي على شيء من المنطق في ظلّ الانقسام الحاصل في النخبة الإسرائيلية، وتعب المجتمع الإسرائيلي، ومساعي واشنطن لإيجاد مخرجٍ للحرب في غزّة.
وقد تكون لاختيار السنوار رئيساً للحركة تداعيات على “حماس”، التي تحتاج إلى التعامل بمرونةٍ وبراغماتيةٍ إزاء تغيّر البيئة الاستراتيجية للصراع، وحاجة الحركة لدعم سياسي إقليمي وتقبّل دولي. وبتوضيح أكثر؛ إلى قبول أميركي، إذ رغم عزم المقاومة وإصرارها على تحقيق أهدافها تظلّ بحاجة إلى وجوهٍ دبلوماسيةٍ، لديها القدرةُ على المناورة وهامشٌ من الحرّية في التحرّك، في حين إنّ السنوار، ومن سلوكه وسياساته، يبدو أنه يسير في طريق تهميش الفاعلين الآخرين كلّهم في الحركة، وحصر أدوارهم في إطار القوالب التي يُحدِّدها، وليس بعيداً أن يُجري في مراحلَ لاحقةٍ تغييرَ مُعظم الوجوه المعروفة في “حماس”، وإن لم يكن عنوةً، وإنّما عبر تهميشها وتعطيل مفاعيلها.
يقودنا ذلك إلى السؤال عن حجم التأثيرات الإيرانية في مسار الحركة الراهن والمستقبلي، إذ يبدو أنّ “حماس”، وبعد اختيار السنوار، باتت أكثر التصاقاً بمحور إيران، عبر انتصار التيّار الذي يدعو إلى تقوية العلاقة معها إلى أبعد الحدود، على اعتبار أنّها الطرفُ الوحيدُ الذي يدعم “حماس” في المستويات كلّها، وهذه إشكالية ستترتّب عليها تداعيات مستقبلية على الحركةِ والقضيةِ الفلسطينية برمَّتها، إذ لن تتوانى إسرائيل، أيّاً ما كان الطرف الذي يحكمها، في توظيف هذا المُعطى لغير مصلحة الفلسطينيين، ورغم ضعف الإطار العربي، وحتّى تخاذله في مساعدة الفلسطينيين، يبقى أقلَّ ضرراً من دمج الموضوع الفلسطيني ضمن المشروع الجيوسياسي الإيراني، لما ينطوي عليه من إشكاليات إقليمية ودولية، وأثره السالب في الصعيد المشرقي العربي.
المصدر: العربي الجديد