تقترب التحضيرات العسكرية التركية لشنّ عملية عسكرية واسعة داخل إقليم كردستان العراق، بحُجّة القضاء على حزب العمّال الكردستاني، من ساعة الصفر. وضعت آخر زيارة للرئيس التركي، أردوغان، إلى العراق، وما نتج منها من تفاهمات واتّفاقات عسكرية وأمنية، اللمسات الأخيرة على خطّة هذه الحملة العسكريّة الجديدة. تأتي هذه الاتفاقات حزمةً مضافةً إلى ما جرى توقيعه بين البلدين من سنة 1984 إلى 2007، وصولاً إلى 2024. لكن، منذ سنواتٍ والقوّات التركية موجودة، وبما يزيد على 20 ألفاً، في تلك المناطق، وتشتبك مع عناصر “الكردستاني” هناك بين الفنية والأخرى، وتكاد تلك الاشتباكات تدخل دائرة الروتين اليومي. صحيح أنّ الأتراك يستولون على مناطق جديدة كان الحزب يشغلها ويستغلّها، لكن لا توجد نتائج نوعيّة على صعيد حسم المعارك. فالأتراك يتمدّدون داخل الإقليم الكردي العراقي، وكذلك حزب العمّال الكردستاني (التركي) يتمدّد، ويشغل الجيش التركي مناطق تمدّد “الكردستاني”، وهكذا دواليك. بمعنى آخر؛ تمدّدُ الطرف الأوّل من الصراع يستجلب معه تمدّد الطرف الثاني. والسؤال هنا: الاشتباكات بين عناصر الكردستاني والجيش التركي داخل الأراضي التركيّة شبه معدومة، فما الخطر الذي يشكّله الحزب على أمن واستقرار تركيا، ووحدة أراضيها؟… أصلاً، تخلّى “الكردستاني” عن شعار الدولة القوميّة منذ اعتقال عبد الله أوجلان ومحاكمته، بل صار يشيطن الدولة القوميّة ويناهضها في أدبيّاته وإعلامه، لأنّها شكل “متخلّف” لإدارة أيّ بلد. أبعد من ذلك، “العمّال الكردستاني” صار يحارب إقليم كردستان العراق أكثر من الأطراف القوميّة المتطرّفة داخل تركيا.
يبدو أنّ حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القوميّة بعد أن تراجعت شعبيتهما وشعبية زعيميهما، فإنّ الائتلاف الحاكم في تركيا بأمسّ الحاجة إلى نصر عسكري خارجي ضدّ الإرهاب كي يعيد إليه شعبيّته السابقة. وإذا لم تشنّ هذه الحملة العسكريّة، وما يمكن أن ينجم عنها، فمصير “العدالة والتنمية” حزباً حاكماً لدورة قادمة سيكون على المحكّ، بل في خطر. إذاً، والحال هذه، لكي تزول أو تقلّ المخاطر التي تهدّد مستقبل “العدالة والتنمية” في السنوات القادمة، لا مناص من التحجّج بمخاطر “العمّال الكردستاني” على أمن واستقرار تركيا. لكن، لا أحد يسأل نفسه: حكومات “العدالة والتنمية” المتعاقبة تسيطر على حكم وإدارة تركيا منذ 22 عاماً، وهو أوّل حزب في تاريخ تركيا المعاصر يحكم البلاد أطول فترة، فلماذا لم يستطع إنهاء وطيّ ملفّ مكافحة الإرهاب، والقضاء على “العمّال الكردستاني”؟… يجري ذلك، رغم أنّ التلف، الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي، الذي أحدثه “الكردستاني” في المجتمع الكردي في سورية، وفي تركيا، وفي العراق، وحتّى في الشتات والمهاجر، هو أضعاف الأضرار التي ألحقها هذا الحزب بالدولة والجيش التركيين.
سؤال اعتراضي آخر يفرض نفسه هنا: هل بالفعل تركيا جادّة في القضاء على “العمال الكردستاني”؟ وإذا كان من مصلحتها طي ملفّ هذه الجماعة المسلّحة، التي لم تعد لها أيّ قضيّة حقيقيّة تقاتل من أجلها، بعد تخلّيها عن شعار الدولة القوميّة (تحرير كردستان)، فبأيّ شيء ستتحجج لتبرّر وجودها الأمني والعسكري في الشمال السوري (عفرين، تل أبيض، رأس العين…)، وتبقى تهدّد مناطق شرق الفرات أيضا؟ إذا استيقظنا غداً، ووجدنا أنّ “العمّال الكردستاني” تبخّر ولم يعد له أيّ وجود، فماذا ستكون حُجّة تركيا الاستراتيجيّة والوجوديّة كي تبرّر بقاءها الأمني والعسكري في إقليم كردستان العراق؟… المقصد من هذه الأسئلة؛ الصراع بين تركيا والكردستاني أشبه باللغز المسموم الممنوع الاقتراب منه؛ ظاهرهُ صراعٌ واحترابٌ، وباطنهُ ائتلافٌ وتحالفٌ خفي يضمن لتركيا الذريعة والحجّة الكبرى للتمدّد جنوباً.
ما يطرح هذه الفرضيّة ــ اللغز أسبابٌ عدّة. أوّلاً: لماذا المسيّرات التركيّة عمياء لا تصطاد قيادات الصفّ الأوّل من الكردستاني، وتكون بصيرة في اصطياد قيادات من الصفّ الثاني أو الثالث، وحتّى الرابع أيضاً، سواء في سورية أو في كردستان العراق؟ لماذا المسيّرات التركيّة لا تتعقّب وتصطاد جميل بايك، ومراد قرايلان، ودوران كالكان، وصبري أوك، ومصطفى قره سو… وغيرهم، حتّى لحظة كتابة هذه السطور، بالرغم من أنّ المذكورة أسماؤهم يتحرّكون بين سورية والعراق وإيران؟ أيعقل أنّ تنجح تركيا قبل 25 سنة في القبض على أوجلان في نيروبي، وتفشل في القبض على واحد من القياديين المذكورين آنفاً، وهم يتحرّكون قريباً جدّاً من الحدود التركيّة؟! وإذا كانت أسئلة كهذه ممنوع طرحها في إعلام “العمّال الكردستاني”، فلماذا هي غير مطروحة في الإعلام التركي، المُؤيّد للحكومة والمُعارِض لها؟
ثانياً، هل يعقل أنّ تركيا، ثانيَ جيشٍ في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ومنذ 1984 ولغاية 2024، على امتداد أربعة عقود، تبقى في حرب مع جماعة مسلّحة تعدادها لا يتجاوز 20 ألفَ مسلّحٍ؟ دولة في مواجهة حزب أو جماعة، لا الحزب فرض شروطه على الدولة، ولا الأخيرة نجحت في القضاء المبرم على هذه الجماعة. لكنّ حجم (وحصيلة) الضرر والتلف والدمار، الذي يتعرّض له الكرد شعباً وقضيةً، جغرافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، من هذا الصراع المزمن والعبثي، بكل تأكيد يصبّ في طاحونة وخزانة ورصيد الدولة العميقة في تركيا، التي تكره ليس فقط الكرد في تركيا، بل في المرّيخ، وتكره العرب والأرمن أيضاً.
في ضوء ما سلف، يمكن القول إنّ تركيا ليست جادّة في القضاء على “العمّال الكردستاني”، لا سابقاً ولا حاليّاً ولا مستقبلاً. وإذا ما أسفرت هذه الحملة عن قتل أو أسر قيادات الصفّ الأوّل من الحزب، فهذا يعني أن هناك جدّية وحزماً حقيقياً في مساعي الحسم العسكري نهائيّاً. ستكون الحملة العسكريّة المُرتقبة واسعةً وتحظى بتغطية إعلاميّة لزوم الاستثمار الداخلي والخارجي، لكن لن تستأصل الحزب القنديلي الأوجلاني تماماً، بل ستُبقي خلايا أو أوراماً سرطانيّة من الحزب، لأنّ مصالح الجهات والقوى الفاعلة في الدولة الرسميّة والعميقة داخل تركيا ما زالت بحاجة إلى حزب كهذا، يلحق أفدح الأضرار بالكرد وقضيتهم ويشوّهها، ويقدّم الخدمات والمبرّرات العظيمة للدولة التركيّة.
السؤال الاستراتيجي والمصيري بالنسبة للمجتمع التركي، ولا يطرحه الإعلاميون وقادة الرأي في تركيا، هو إذا حسبنا كميّة الأموال التي أنفقتها تركيا على حملاتها العسكريّة، والجيش والأسلحة، وميزانيّة الدفاع، في مكافحة “العمّال الكردستاني”، منذ 1984 ولغاية 2024، ولو دخلت تلك الأموال في مشاريع التنمية والاقتصاد التركي، فربّما نافس اقتصادُ تركيا اقتصادَ أميركا والصين. أين ذهبت تلك الأموال التي لا يعلم الأتراك عنها شيئاً، مع هذه النتيجة الصفريّة عسكريّاً في الحرب على العمّال الكردستاني طوال 40 عاماً؟
لا نعلم إذا كانت مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجيّة في تركيا أتعبت نفسها في الإجابة عن هذه الأسئلة التي يمكن إدراجها تحت عنوان عريض: “الصراع بين تركيا والكردستاني: إلى أين؟”، ذلك أنّ المُؤشّرات والأرقام والظواهر تشير إلى أنّه بالفعل هناك صراع حقيقي ودموي عمره 40 عاماً، لكنّ الحزب موجود والدولة موجودة حتّى اللحظة. هل هذا يعني أن هناك تكافؤاً؟… لا طبعاً. إذن ماذا يجري؟… إنّ تركيا، بحكومتها الحالية ورئيسها الحالي، بإمكانها حلّ المسألة الكردية في تركيا التي اعترف أردوغان نفسه بوجودها، وأنّه سيحلّها منذ 2005 في ديار بكر. نعم، بإمكان أردوغان الحلّ عبر اتّخاذ قرارات سياسية جادّة، وإجراء بعض الإصلاحات الدستوريّة، التي تعترف بمكوّنات الشعب التركي (عرب، كرد، أرمن، سريان…)، وتصون وتضمن حقوق هذه الشعوب في الدولة ومؤسّساتها. تعني إجراءات أحادية الجانب، بمعزل عن مسرحيات التفاوض مع “العمّال الكردستاني” في قنديل، وإيمرالي، وأيّ عاصمة أوروبيّة، حلّاً أحادي الجانب، سيجنّب تركيا المزيد من الهدر في الدماء والأموال، ويسحب البساط من تحت أقدام “العمّال الكردستاني” بشكل نهائي. وإذا كانت خاتمة الحملة العسكريّة المُرتقبة على الجماعة الأوجلانيّة في كردستان العراق خطّة سياسيّة للحلّ، من المذكور، ولا يحرج الحكومة والدولة التركيتين نهائياً، فسيلقى ذلك الحلّ ترحيباً دوليّاً، وربّما من قطاعات واسعة تضرّرت من الجماعة الأوجلانيّة، وسلوكياتها الفاشيّة، وتسلّطها على رقاب الكرد، وممارستها الديماغوجيّة، والتضليل، والعزف على الغرائز، واستدرار عواطف الشارع الكردي بالشعارات البرّاقة والمسمومة.
من متابعة إعلام حزب العمّال الكردستاني، تظهر حالة من الهستيريا المحمومة مسيطرةً ومستحكمةً، عبر حملات التخوين العشوائيّة والاعتباطية، ضدّ قيادة إقليم كردستان العراق، وتحديداً الحزب الديمقراطي الكردستاني، وزعيمه مسعود بارزاني، من خلال ذلك، يظنّ المرء أنّ قيادات “العمّال الكردستاني” الرئيسة باتت تتحسّس رؤوسها، وتشعر بدنو النهاية. وضمن حملات التخوين والترهيب التي يمارسها الحزب المذكور، أصدر جميل بايك تعليماتٍ وأوامرَ سريّةً إلى قيادة الحزب في أوروبا باستهداف 16 شخصاً ممّن ينتقدون حزبه بشكل مستمرّ، وضمن تلك اللائحة السوداء، اسم كاتب هذه السطور، وعلى قيادة الحزب في أوروبا تنفيذ الأوامر وإسكات هؤلاء، سواء بطريق الاعتداء الجسدي والترهيب وإلحاق الأذى المباشر، أو الخطف، أو الاغتيال. سلوك كهذا مارسه الحزب في الثمانينيّات والتسعينيّات في الأراضي الأوروبيّة، ويبدو أنّه سيعود إليه بحجّة استرداد الهيبة، التي تراجعت وتزعزعت أمام انتقادات “الخونة”، بزعم الحزب. ومن المؤسف القول إنّ جماعات كهذه، عقائديّة متطرّفة، يساريّة أو جهاديّة، دائماً وقودها وحطبها هم البسطاء والسذّج وأنصاف المتعلّمين، الذين سرعان ما تخدعهم الشعارات والخرافات الأيديولوجيّة.
أيّاً يكن من أمر، من مصلحة الكرد وكردستان وتركيا، والشرق الأوسط والعالم، أن يصبح حزب عبد الله أوجلان في خبر كان. متى يتحقّق ذلك؟ وما هي القوى القادرة على تحقيقه؟… الإجابة برسم المستقبل.
المصدر: العربي الجديد