على هامش الأحداث الساخنة؛ تشظّي الوعي والروح

حازم نهار

أولًا: بيئة مريضة لا تصلح للحوار

تعرَّض السوريون بدءًا من 2011 وحتى اليوم لآلام وعذابات شديدة كان لها دور كبير في تشكيل بيئة غير صحية للحوار في ما بينهم، فضلًا عن غيابهم السياسي بفعل الاستبداد لمدة نصف قرن. تفتقر هذه البيئة إلى حدٍّ أدنى من آليات الإنصات والتأمل والتفكير والتفاكر والتشارك والتوافق واحترام الاختلاف والتنوع. تحولت وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا إلى ما يشبه “سوق الهال”، تمامًا مثل اجتماعات المعارضات السورية، متخمة بالصراخ والبصاق والتشهير والتخوين والسباب والعصبية والعصاب والتنافس السلبي والتذاكي “الغبي” والسخرية المؤلمة والتنمر والكراهية. لا أحد يسمع لأحد، ولا أحد يناقش فكرة، الجميع مُستقطَب بحدّة، ومندمج في محاور إقليمية أو غارق في أوحال أيديولوجية أو طائفية أو إثنية.

الحوار العقلاني والجدي والمنظَّم والتراكمي نادرٌ بين السوريين، ولذلك لا يحدث تغيّر إيجابي في توجهاتهم وأحكامهم عبر الزمن، وهناك مقولات وقناعات أصبحت قطعية وثابتة يجري على أساسها تقويم الآخرين وتصنيفهم إلى أصدقاء وأعداء بصورة سطحية ومبتذلة. إذا كان هذا الحوار ما يزال غائبًا بين النخب الثقافية السياسية أساسًا، فليس لنا أن نتوقَّع أن تكون الحال بين بقية السوريين مغايرة.

بعد كل ما حصل، وما أصابنا من كوارث، هل يمكن أن نتوقَّع إنجاز خطوة نحو الأمام على صعيد التعاطي مع مشكلاتنا، ومع التغيرات السياسية، من دون بناء بيئة حوار صحية وتقاليد راسخة في احترام الاختلاف وإنتاج التوافق والتشارك وتعظيم التفكير السياسي؟

ثانيًا: المظلومية السورية والمركزية السورية

لقد تكوَّنت “مظلومية سورية عامة” خلال سنوات ما بعد عام 2011، إلى جانب المظلوميات المحلية المتوارثة بالطبع؛ لقد “خذلنا” العالم كله، وتعرَّضنا لظلم كبير فيما العالم كله يتفرج، بحسب ما يرى كثيرٌ من السوريين. لكنَّ هذه المظلومية السورية أخذت تنفجر، من دون تفكير أو تمييز، في وجه العالم كله؛ فكلُّ ما يحدث حولنا لا يزيد على كونه مؤامرات مصوَّبة باتجاهنا نحن السوريين أو مسرحيات غايتها الالتفاف على حقوقنا والإمعان في قهرنا.

نحن السوريين مركز العالم، وينبغي للعالم كله ألَّا ينشغل إلَّا بقضيتنا، فالقضايا الأخرى هامشية إذا ما قيست بالقضية السورية، ومن حقنا أن نتعامل باستخفاف أو من زاوية مصلحتنا وحسب مع القضايا الأخرى إلى أن يُنظر في قضيتنا. والأنكى هو أنه في ظلِّ غياب رأي عام سوري تجاه القضية السورية نفسها، أو على أقل تقدير رأي عام على مستوى الثورة وأهلها ومناصريها أو اتفاق على مستوى النخب الثقافية والسياسية السورية، تتشظى هذه المظلومية العامة إلى مظلوميات محلية، دينية وطائفية وإثنية ومناطقية وعشائرية، متخمة بالتوتر والانفعال والتفكير الخرافي والتحليل البائس.

ربما يكون من حقنا لوم العالم كله، لكن ينبغي لهذه المظلومية ألّا تتحول إلى ستار يعمي أبصارنا وبصيرتنا عن رؤية الحقائق الواقعية والقضايا الأخرى بمعزل عن آلامنا ومشاعرنا. لكن يبقى الأهم في الحصيلة هو لوم أنفسنا، فهناك الكثير مما كان يمكننا القيام به من دون الحاجة إلى أحد ولكننا أخفقنا فيه.

ثالثًا: تحاليل هشة ومواقف بائسة

هناك مقاربات تبسيطية، وسطحية، سائدة في الساحة السورية على مستوى قراءة حوادث الواقع وتحليل السياسات الإقليمية والدولية، تنطلق من الانتماء الأيديولوجي أو الطائفي أو الديني أو القومي أو الموقف السياسي المعارض أو المؤيد للنظام السوري. ولذلك، أعتقد أنَّ معظم ما نقرؤه أو نسمعه في الساحة السورية، أكان في الصحافة أو على وسائل التواصل الاجتماعي أو الفضائيات، لا يزيد على كونه انطباعات متسرعة وانفعالية، ولا يرقى إلى مستوى الآراء الناضجة والمتماسكة التي يمكن لأصحابها الدفاع عنها أو تعميمها على أسس عقلانية.

إنَّها مجرد أسطر أو كلمات متخمة بالانفعال والعواطف والقطعيات والنهائيات التي لا قيمة لها في الحقل السياسي، لم يتعب أصحابها في التوصّل إليها، ولا هم في وارد بذل الجهد اللازم والضروري، على ما يبدو، من أجل زيادة معارفهم حول ما يحدث، ولا في وارد الإنصات للعلم والمنطق والعقل. ومن المثير للسخرية أنَّ بعضهم يصف تفكيره في الحدث السياسي بأنه تفكيرٌ خارج الصندوق فيما هو تفكير خرافي غير منضبط بالبدهيات العقلية، وتذاكٍ مفضوح يسعى لربط ما لا يُربط من الحوادث السياسية بقصد تثبيت رأيه ذي الخلفية الدينية أو الطائفية أو المناطقية.

ولذلك، يصبح الجو العام حافلًا بالاستقطابات السطحية والتصنيفات المتسرعة والآراء المطلقة والخرافية والتآمرية، ومتخمًا بالمواقف السياسية المهلهلة والمتشظية والمتناقضة عبر الزمن أيضًا. لا تحتاج أحداث الواقع إلى الفرح والحزن والشماتة، ولا إلى الجدل السطحي حول جواز الترحم من عدمه بشأن شخصيات فاعلة ومؤثرة، ولا إلى استحضار عقل الفتاوى في مواجهة العقل السياسي، وربما يكون موقف الصمت في لحظات معينة تختلط فيها الأمور بصورة معقدة ومتشابكة أفضل كثيرًا من المواقف التي قد تنتهي بأصحابها إلى تبجيل عدو ما في مواجهة عدو آخر.

رابعًا: على هامش الأحداث الساخنة في المنطقة

  1. المنطقة وشعوبها ضحية إرهاب متعدِّد الأوجه والمستويات والأشكال؛ إرهاب الأنظمة العربية وإرهاب إيران وميليشياتها وإرهاب الإسلام السياسي وإرهاب الحركات القومية واليسارية المتطرفة وإرهاب إسرائيل وإرهاب أميركا وروسيا وغيرها، فجميع هذه الأطراف مارست الإرهاب في لحظات معينة بدرجات متفاوتة.
  2. العرب غائبون، حكومات ودولًا وشعوبًا. العراقيون والسوريون واللبنانيون والفلسطينيون تعرَّضوا للمشكلة ذاتها والنكران نفسه، وتُركوا لقمة سائغة لإيران وإسرائيل. هناك عمل جارٍ دائمًا لتصفية القضية الفلسطينية وعمل آخر لإنهاء القضية السورية بوصفها قضية وطنية ديمقراطية في مواجهة الاستبداد بأشكاله كلها، والشعب السوري منكوب مثل الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني والشعب العراقي. لقد أدارت الأنظمة العربية ظهرها للقضية الفلسطينية بدل دعمها أو تاجرت بها ومزَّقتها، فضاعت بين إجرام إسرائيل وتسلق إيران عليها لتمرير مشروعها القومي.تقدِّم إيران دعمًا ماليًا وعسكريًا باسم فلسطين لتمتلك نفوذًا وأوراق ضغطٍ في المنطقة تفاوض بها أميركا وإسرائيل والدول الإقليمية بهدف تحقيق مصالحها القومية، وما كان لهذا أن يحدث لولا غياب الوحدة الفلسطينية على أساس برنامج عمل وطني من جهة، والغياب العربي من جهة أخرى.
  3. لا يمكن لإسرائيل أن تكون حليفة للسوريين، أو لأي من شعوب المنطقة، في أي لحظة، وإن كانت قد تخلَّصت، كما يرى بعضهم، من شخصيات معينة أسهمت في قتل السوريين.. إنّ إسرائيل تتصرف وفقًا لمصالحها وحسب.
    من جهة أولى إسرائيل تحتل أرضًا سورية اسمها “الجولان” أهلها مشردون في بقاع الأرض ومن حقهم استرجاعها والعودة إليها. ومن جهة ثانية، إنَّ إسرائيل هي أحد عناصر بقاء السلطة في دمشق لأنها ترفض إجراء تغيير غير مضمون العواقب في النظام السائد، ولكن هذا لا يعني في المقابل -كما يُروِّج الشعبويون- أنَّ النظام السوري عميلٌ لها، فالعلاقات الإقليمية والدولية أعقد كثيرًا من هذه الاتهامات والتقويمات السطحية. ومن جهة ثالثة، إنَّ ما قامت به إسرائيل في غزة جريمة كبرى كاملة الأركان في حقِّ شعب كامل، وبدعمٍ أميركيٍّ واضح، ويفترض أن تكون محطَّ إدانتنا بصرف النظر عن موقفنا من حركة حماس. ومن جهة رابعة، ينبغي لنا أن نكون ضد الاغتيالات السياسية بجميع أشكالها وأيًّا تكن الشخصيات المستهدفة.
  4. لا تميِّز إسرائيل بين السنة والشيعة، وهي تقتل كلَّ من يشكل تهديدًا لها أو يقترب منها. والأمر نفسه ينطبق على إيران، فمصلحتها القومية فوق كلِّ اعتبار، وهي إذ تلجأ للاستثمار في المسألة الطائفية فإنها تفعل ذلك انطلاقًا من مصالحها القومية بالدرجة الأولى، وينبغي لنا ألَّا ننجر إلى الخطاب الطائفي والتعامل مع أحداث الواقع انطلاقًا من الانتماءات الطائفية، فهذا الخيار أضاف، وسيضيف، إلى كارثتنا في سوريا والمنطقة، مزيدًا من الانحدار والتشظي.
  5. التحليل الذي يقول إنَّ إيران ومرفقاتها لا يملكون الطاقة العسكرية والاستخبارية الموجودة لدى إسرائيل وشركائها في الغرب، وإنَّ ادعاءات “محور الممانعة” أكبر كثيرًا من قدراته الفعلية الحقيقية، هو التحليل الأقرب إلى المنطق عندما نريد تفسير الاغتيالات التي حصلت (اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر وغيرهم) بدلًا من التفاسير الخرافية والشعبوية التي تشير بطريقة أو أخرى إلى اتفاق إيراني إسرائيلي من تحت الطاولة.
  6. تتلقى إيران ضربات عديدة من إسرائيل، مثل قصف سفارتها في سوريا، وانتهاك سيادتها، واغتيال بعض قادة حرسها الثوري وشخصيات مهمة في أذرعها العسكرية، ما يعني وجود عداء حقيقي بين إيران وإسرائيل، لكن هذا لا يمنع حدوث تفاهمات على مستويات الرد أو حدوث توافق حول بعض الأمور في لحظة ما، وهذا طبيعي في العلاقات الدولية.
  7. بعيدًا من التعامل القائم على تصديق أو تكذيب الحركات الإسلامية، السنية والشيعية على السواء، في مواجهتها لإسرائيل، نقول: إنَّ طريقة مواجهتها لإسرائيل أدّت في الحصيلة إلى تدمير بلدانها وشعوبها وزيادة إسرائيل قوة وتوسعًا. الدولة غائبة في جميع الدول التي استطاعت إيران أن تجد لها قدمًا فيها: سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن، وفي غياب الدولة لا شيء سوى الخراب. البيئة التي تعمل فيها إيران هي بيئة اللادولة.
  8. لا يمكن وضع الحركات الإسلامية المتحالفة مع إيران في سلة واحدة؛ حركة حماس غير حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية والحوثيين، أكان من حيث موقفها مما حدث في سوريا أو من حيث وجهة البندقية في يد كلٍّ منها؛ حماس تقاتل على أرضها ولم توجه بندقيتها باتجاه السوريين أو العراقيين أو اللبنانيين أو اليمنيين أو غيرهم، وللمفارقة قبلت بعض الفصائل السورية الإسلامية المسلحة أن تقاتل في خدمة تركيا على الأرض السورية وخارجها.
  9. يرى بعضهم أنَّ أي جهة تتقرب من إيران تحت أي مبرر هي جهة معادية للشعب السوري وثورته، وهذا غير صحيح لأنَّ العلاقات الدولية أعقد كثيرًا من هذه المقاربة السطحية والخطية. كان معظم طرائق التعاطي مع اغتيال إسماعيل هنية ينطلق من خلفيات لا علاقة لها بالسياسة ولا بالعقل ولا بالأخلاق السياسية؛ معظمها مقاربات تصب في خانة الشماتة أو الاستهزاء أو السخرية أو الانتقام، ويُفترض ألَّا يأخذنا عداؤنا لإيران وسياساتها باتجاه مخالفتها في كلِّ ما تقوله. هذا العداء يُفترض ألا يجرّنا مثلًا إلى الاستجارة بعدوٍّ لا يقلُّ خطرًا: إسرائيل.
  10. إن تعاطي الأفراد، أكانوا سياسيين أم عاديين، مع الأحداث السياسية، يختلف بالضرورة عن تعاطي الأفراد في موقع المسؤولية، أي الأفراد الذين يتقلّدون مناصب سياسية أو عسكرية. لذلك، فإن تغيّر مواقف المسؤولين أمر طبيعي مع تغيّر المصالح وموازين القوى، وقد يُضطر هؤلاء في لحظات معينة إلى التعامل مع جهات لا يرغبونها اعتقادًا منهم أنهم يخدمون قضيتهم.

خامسًا: كلمة أخيرة

من جهتي، لا أرى أنَّ الأنظمة والسلطات والحركات السياسية السائدة، ولا سيّما الإسلامية، في المنطقة يمكن أن تفيد شعوبها وتنقلهم نحو الأمام على طريق تعزيز حقوق الإنسان والتقدم والتنمية الإنسانية والاقتصادية وبناء السلام، وإنَّ ثلاثية الاستبداد السياسي (بدرجاته كلها) والاحتلال (بأنواعه كلها) والتطرف الإسلامي (بأشكاله جميعها، السنيّة والشيعيّة) تشكِّل كارثة معقدة ومتشابكة ومعيقة أمام تقدّم شعوب المنطقة، وينبغي لأي عمل سياسي عقلاني تقدّمي أن ينطلق من هذه الحقيقة في سبيل بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى