نظّمت اتفاقية صوفا (ٍSOFA)، بين العراق والولايات المتّحدة (2008)، وضع القوات الأميركية في هذا البلد الذي غزته عام 2003، وفصّلت نظامه السياسي بما يتوافق مع المصالح الأميركية في العراق والمنطقة. ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 1 يناير/ كانون الثاني عام 2009، ونصّت على بنود عدة، من أكثرها أهمّية تنظيم انسحاب كامل للقوات الأميركية من العراق خلال ثلاثة أعوام، وهو ما جرى في ديسمبر/ كانون الأول عام 2011، مع بقاء بعض القواعد الأميركية بموافقة الحكومة العراقية.
لم تصمد هذه الترتيبات طويلاً بعد دخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عدّةَ محافظات عراقية، واستيلائه عليها عام 2014، إذ عادت القوات الأميركية، برفقة قوّات دولية أخرى، بطلب الحكومة العراقية، فيما عرف لاحقاً بـ”التحالف الدولي ضدّ داعش”، لتبدأ مرحلة أخرى من مراحل الصراع السياسي والدبلوماسي حيال هذا الوجود الأميركي الجديد، خاصّة عقب هزيمة التنظيم عام 2017، فالوجود الأميركي في العراق بقي مصدر شدّ وجذب بين مختلف القوى السياسية العراقية، فتفيد تقديرات بأنّ عديد هذه القوات ربّما يتجاوز خمسة آلاف جندي ومستشار عسكري، بينما تُصرّح الحكومة العراقية أنّ العدد لا يتجاوز ألفين، وأن وجودهم مرهون بموافقة الحكومة العراقية وفقاً لاتفاقية صوفا.
واجهت الحكومات العراقية، عقب هزيمة تنظيم داعش، ضغوطاً متزايدة من قوى سياسية شيعيّة لديها أذرع مُسلّحة، من أجل الدفع لانسحاب كامل للقوات الأميركية من الأراضي العراقية، خاصّة بعد انتفاء الحاجة لها، بحسب تلك القوى. في المقابل، تجد قوى سُنيّة وكردية أنّ دعوات سحب القوات الأميركية من العراق هي محاولة إيرانية من قبل أذرعها بالعراق للهيمنة الكاملة على هذا البلد، في ظلّ عدم وجود رادع “قوي” كالذي تمثله القوات الأميركية في العراق، وضعف القرار السياسي العراقي والخاضع بالكلية لأجندات إيرانية، علماً أنّ الوجود الفعلي لتلك القوات يقتصر على قاعدة عين الأسد في غرب العراق، وهي القاعدة الكبرى، فضلاً عن مستشارين في قاعدة بلد الجوية شمال العاصمة بغداد، وبعض القواعد العسكرية العراقية الأخرى.
تحوّل الوجود الأميركي في العراق مسمارَ جحا، الذي تتذّرع به دائماً الفصائل المُسلّحة وقواها السياسية في البرلمان العراقي، فهي الحجة التي طالما تستخدمها من أجل تصعيد مواقفها، وفي كثير من الأحيان يكون هذا التصعيد غير موجّه فعلياً إلى تلك القوات ووجودها في العراق، وإنّما ضدّ كتلٍ سياسيةٍ منافسةٍ أو حتّى ضدّ الحكومة بغية إحراجها وصولاً إلى مكاسب بعينها، تريدها تلك الفصائل المسلّحة وقواها السياسية أو حتّى تريدها إيران، في بعض الأحيان، من الولايات المتّحدة في إطار حالة الشدّ والجذب التي تعيشها طهران مع واشنطن بخصوص ملفّاتٍ كثيرة.
تجتهد الفصائل العراقية المسلّحة في استخدام الوجود الأميركي في العراق بريدَ رسائلَ تبعث من خلاله ما تريد متّى ما شعرت بأنّ هناك حاجة، خاصّة أنّ أغلب تلك العمليات المسلّحة ضدّ القواعد الأميركية لم تؤدِّ إلى قتل جندي أميركي واحد، ما خلا عملية تعرّضت لها قوات أميركية كانت موجودة في كركوك، حيث أدّت عملية قصف نفّذتها فصائل حشدية مسلّحة إلى مقتل عراقي يحمل الجنسية الأميركية، وكان ذلك في 2019، وبعدها بنحو أقلّ من شهر نفّذت الولايات المتّحدة عملية اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ومعه نائب رئيس الحشد الشعبي في العراق، أبو مهدي المهندس، في عملية الاغتيال الشهيرة، قرب مطار بغداد الدولي مطلع عام 2020. من لحظتها، أدركت تلك الفصائل المسلّحة أنّ عملية قتل أميركي في قصفها المُتكرّر تلك القواعد سيُؤدّي إلى ردّ أميركي ربّما غير محسوب وكبير. بالتالي، بقيت تلك العمليات العسكرية التي تنفّذها الفصائل العراقية المسلّحة فارغة المحتوى، فهي لا تقوى حتّى على جرح جندي أميركي، وغالباً ما تقع عمليات القصف في محيط القواعد الأميركية، وليس في قلبها، لتضمن الفصائل عدم وقوع خسائرَ في صفوف القوّات الأميركية.
لذلك، يمكن القول إنّ وجود القوات الأميركية في العراق تحوّل من حاجة عراقية رسمية، بسبب وجود تهديدات للجماعات والتنظيمات المُتطرّفة، إلى حاجة للفصائل المسلّحة الموالية لإيران، ومن خلفهم إيران طبعاً، فهي دائماً ما تريد أن يبقى مسمار جحا حجّة لوجودها ولاحتفاظها بترسانة أسلحة كبيرة تفوق في بعض قدراتها ترسانة الجيش العراقي. وقد زار وفد عسكري عراقي واشنطن أخيراً من أجل التباحث بشأن الوجود الأميركي، وهي مهمّة تأتي في إطار ما اتُّفق عليه بين بغداد وواشنطن من أجل جدولة سحب تلك القوات، ففي حين تُشير أميركا إلى أنّ سحب القوات قد يتطلّب ثلاثة أعوام، فإنّ العراق يُؤكّد أنّ هذا الانسحاب قد يتم في سبتمبر/ أيلول المُقبل، بناءً على رغبة عراقية.
كان ترامب، في عهدته الرئاسية، قد أعلن عن رغبته في سحب القوات الأميركية من العراق وسورية، وهو ما عارضته المؤسّسة العسكرية الأميركية آنذاك، فهل تُسرّع عودته المحتملة إلى البيت الأبيض هذا الإجراء؟ أم أنّ لدى ساكن البيت الأبيض الجديد، ترامب الجمهوري أو هاريس الديمقراطية، رأياً آخر في هذا الموضوع، خاصّة أنّ المُتغيّرات في المنطقة عقب حرب غزّة العدوانية، التي تشنّها دولة الكيان الإسرائيلي، بدأت تفرض واقعاً جديداً في المنطقة والعالم؟
المهمّ أنّ الفصائل المسلّحة، التي تقصف، من حين إلى آخر، مواقع وقواعد أميركية في العراق، وحتّى في سورية، ستكون أكثر الأطراف المتضرّرة من هذا الانسحاب، لأنّها ببساطة لا تريد أن يضيع منها مسمار جحا، وهي التي تدرك أنّ سحب أميركا لقواتها من العراق سيطلق يد تلك القوات في التعامل مع الخطر الذي تشكّله هذه المليشيات.
المصدر: العربي الجديد