حماس -حزب الله- الثورة السورية: نقاش لبناني سنّي بعد الطوفان!

عبد الرحمن خوندي

لاقت ثورات الربيع العربي عموماً والثورة السورية خصوصاً دعماً شعبياً وسياسياً على مستوى الطائفة السنية في لبنان منذ انطلاقها. كان الارتباط المديد بالمحيطين العربي والإسلامي أحد تلك الأسباب التي أثرت على هذا المستوى من الدعم والمناصرة، بالإضافة إلى الاستبداد الذي يمثله نظام الأسد في الوجدان السني، مع اغتيال مفتي الجمهورية حسن خالد ورئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ومرافقيه، ولاحقاً اغتيال وسام عيد ووسام الحسن وأسماء أخرى. كما كان الاستبداد والقمع في ذروته مع وصاية قوات النظام في لبنان، التي أدت في نهاية الأمر بعد اغتيال الحريري إلى اندلاع شرارة ثورة الأرز التي حظيت بدعم ومناصرة جماهيرية من أبناء الطائفة وسياسية على مستوى ترؤس تيار المستقبل لتحالف 14 آذار.

بالإضافة إلى ذلك، كان هناك مناصرة مبدئية لمشروع منظمة التحرير الفلسطينية والوجود الفلسطيني في لبنان، الذي قابله معارضة مسيحية مسلحة شرعنت دخول قوات النظام السوري بمباركة عربية ودولية. وما حصل مع ذلك من انشقاقات عديدة داخل التنظيمات الفلسطينية بعد قمة فاس، التي أظهرت رغبة حافظ الأسد في مصادرة قرار الثورة الفلسطينية، وترجم ذلك عملياً بالسيطرة الأسدية على القوات الفلسطينية في شمالي البلاد. ومع التدخل العسكري لحزب الله في سوريا، ازدادت المعارضة السنية له، خصوصاً بعد وقوفه إلى جانب النظام في 8 آذار 2005، واجتياح بيروت في 7 أيار 2008، والاشتباكات التي حصلت آنذاك بينه وبين تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي.

في موازاة تيار المستقبل، كان لأحزاب وجماعات الإسلام السياسي الصوت العالي في مناصرة الثورة السورية من لبنان، بدءًا من الجماعة الإسلامية إلى التيار السلفي في طرابلس، وليس انتهاءً بحركة الشيخ أحمد الأسير. هذا الأمر أطاح بعلاقة الجماعة الإسلامية مع حزب الله، وهي التي احتفظت بعلاقات طيبة معه لسنين منذ نشأته، لكونها تشكل معه “شراكة نضالية” بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان ومشاركة الجناح العسكري للجماعة-قوات الفجر في القتال. ولكن، بدأت هذه العلاقة الطيبة تتضعضع تدريجياً على مرحلتين قبل الثورة السورية:

  1. المحطة الأولى كانت بعد اغتيال الوزير بيار أمين الجميل في 2006، حيث ألقى رئيس المكتب السياسي للجماعة الإسلامية أسعد هرموش خطابًا في ساحة الشهداء في بيروت تشييعًا للجميل، وقدّم وقتها على أنه “واحد من الشريحة الواسعة من الوطنيين الديمقراطيين العروبيين”. إلا أن هرموش أوضح بعدها أن هذه الحركة كانت “بنت ساعتها” وأكّد على مواقف الجماعة “المعروفة” من المحكمة الدولية والطائف ورئيس الجمهورية.
  2. المحطة الثانية كانت بعد 7 أيار 2008، حيث كان موقف الجماعة الإسلامية رافضًا لـ”قطع الطرق والتعرض للممتلكات العامة والخاصة” و”الاعتداء على أمن المجتمع ومصالح المواطنين وممتلكاتهم”، ودعت إلى وقف هذه الموجة العنيفة، ومأسسة الصراع القائم آنذاك ضمن الإطار الدستوري.

إعادة تفعيل “قوات الفجر”… نحو صراع “مسلم-مسيحي”

لم يعد يُسمع بقوات الفجر، وربما ظن البعض أنها حلّت، إلى حين انتخاب الأمين العام الجديد للجماعة الإسلامية الشيخ محمد طقوش، الذي ما إن باشر ولايته في الأمانة العامة حتى قال في خطاب له إن “قوات الفجر باتت أصابعها على منتصف الزناد”.

والشيخ محمد طقوش الذي بدأ ولايته في الأمانة العامة للجماعة الإسلامية بلقاء ثلاثي مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله والراحل الشيخ صالح العاروري، يُعد من الفريق الذي يؤيد التقارب مع إيران وحزب الله، في مقابل فريق يضم الشيخ أحمد العمري الذي يحمل الجنسية التركية والنائب عماد الحوت والأمين العام السابق عزام الأيوبي. التقى الأيوبي في ولايته بنصر الله مرتين في مباحثات طويلة لم تصل إلى نتيجة واضحة. هذه المساعي لإعادة العلاقات بين حزب الله والجماعة الإسلامية كانت من ضمن مسار حمساوي طويل لإعادة العلاقات مع حزب الله بعد 2017.

ترجم هذا التقارب في لبنان سياسياً وعسكرياً بإعادة تفعيل قوات الفجر وصعود قيادة تؤيد هذا التقارب داخل الجماعة، وتنحي كل الخلافات مع حزب الله جانباً. صرّح أمين عام الجماعة محمد طقوش في مقابلة مع إحدى الجرائد اللبنانية حول الثورة السورية وتدخل حزب الله في سوريا قائلاً: “أرى أنه من غير المناسب استحضار مثل هذه العناوين في هذه الظروف، لأن أمامنا معركة مفصلية على مستوى الأمة”.

تزامن إعادة تفعيل قوات الفجر وإعادة تطبيع العلاقات مع حزب الله مع المناوشات السياسية بين حزب الله وحليفه المسيحي جبران باسيل إثر الملف الرئاسي وملف جبهة الجنوب، والمعارضة المستمرة والمتصاعدة له من قبل القوات اللبنانية. هذا الأمر يسلب من حزب الله الشرعنة الداخلية المسيحية التي كان يعتمد عليها بعد تفاهم مار مخايل بينه وبين التيار الوطني الحر في 2006. البديل لهذه الشرعنة كان إظهار حليف سني له في وسط الفوضى السنية السياسية بعد انكفاء سعد الحريري عن العمل السياسي. وعليه، كانت الجماعة الإسلامية بجناحها العسكري “قوات الفجر” الحليف السني الأمثل له في ظل هذه المعارضة المسيحية. بالإضافة إلى هذا التحالف، جاءت موافقة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط للمقاومة في غزة ولحزب الله في لبنان ومطالبته الدائمة بتأجيل المناقشات حول “جبهة الإسناد” إلى ما بعد الحرب.

تشكلت موافقة إسلامية شيعية وسنية ودرزية لشرعنة ما يقوم به الحزب في جبهة الجنوب، في مواجهة معارضة مسيحية ممثلة بالثنائي المسيحي الأكثر تمثيلاً في البرلمان: حزب القوات اللبنانية، والتيار الوطني الحر.

تأتي هذه التطورات وسط مناوشات داخلية في الجماعة تتعلق بزيارة طقوش الأخيرة لنصر الله والخطاب الذي ألقاه في مجلس عاشورائي. هذه المناوشات تأتي وسط عدة امتعاضات جماهيرية سنية وقلق حول الهوية والسردية الدينية أثارها خطاب طقوش الأخير، مع تحذير حمساوي مستمر من مشاركة الجماعة في جبهة “الإسناد” الجنوبية وتبعات هذه المشاركة عليها سياسياً في الداخل اللبناني وخارجياً على النطاق العربي والدولي. أكد بعض المسؤولين في الجماعة مثل عزام الأيوبي وعماد الحوت على تقاطعية العلاقة مع حزب الله وعدم وجود تحالف، في ظل اعتراضات من نواب التغيير في بيروت وبيانات استنكار للعراضات المسلحة التي أقامتها قوات الفجر، وزيارة سعد الحريري الأخيرة التي تحدث فيها كثيراً عن “التطرف والاعتدال”، وبعض المواقف الصادرة عن أطراف سياسية سنية مختلفة استنكرت الحالة التسلحية التي فرضتها الجماعة.

هل من تناقض رئيسي مع حزب الله؟ ولماذا عارضناه في السابق؟

بعدما تدابح أرباب القومية الصينية في الكيومنتانغ والحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية، توقف القتال في 1937 مع غزوة اليابانيين للصين. كتب آنذاك ماو تسي تونغ كراسه الشهير “في التناقض”، والذي خط فيه فكرة مفادها أنه إذا شنت الإمبريالية حرباً على بلد ما، فعلى كافة القوى المتصارعة داخل هذا البلد أن تتحد في مواجهته. وعليه، يصير بين هذا البلد مع قواه المتصارعة وبين الإمبريالية “تناقض رئيسي”، في الوقت الذي يكون التناقض بين هذه القوى المتصارعة في مركز ثانوي وتابع -مرحلياً- وبعيداً عن شرح المبدأ الأول في الجدل المادي -أي التناقض- فإن المنطق ذاته يستخدم في التعامل اليوم مع حزب الله وما يمثله، ولو كان بعيداً عن تأطير نظري (وهو أمر مفقود لغلبة منطق “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”) من قبل أصوات عديدة داخل الطائفة السنية كانت تعارض حزب الله معارضة شرسة في السابق مثل النائب خالد الضاهر والشيخ حسن مرعب وغيرهما، أو من خارجها كتمنٍّ على الطائفة.

لكن، يكمن السؤال هنا في ماهية المعارضة لحزب الله داخلياً من الأصل. قبل أي فتح لنقاش مثل هذا، والذي يشكّل على بساطته ما يشابه أزمة وجودية عند أي جماعة سياسية كانت و/أو ما زالت تعارض ما يمثله حزب الله في الداخل اللبناني، لا بد من الانطلاق من نقطة جوهرية مفادها أن المشكلة مع الحزب قبل أن تكون متعلقة بالثورة السورية، فإن أساسها يتعلق بالداخل اللبناني أيضاً، من مصادرة قرار الحرب والسلم إلى مسألة احتكار العنف الشرعي. فهي مسألة متعلقة بسؤال الدولة من الأساس، باعتبار أن الحزب يُعد من القوى الفاعلة من غير الدول (Non-state actor) في ظل وجود الصفة القانونية للدولة، مع عدم وجود احتلال مباشر على أراضي هذه الدولة (إذا نحينا الخلاف حول لبنانية مزارع شبعا). هنا تكمن الفكرة البديهية في التفريق بين حزب الله وحماس وعدم جمعهما في إطار واحد تحت ذريعة الانتماء إلى نفس المحور. وهي البديهة التي تغيب عن معارضي “محور الممانعة” عموماً في إطلاقهم لموقف عام فيه الكثير من العشوائية والإجحاف والركون للموقف السياسي المجرد بلا مراجعة للقانون الدولي في حالة الاحتلال العسكري، أو الانطلاق من معايير موضوعية دقيقة بدلاً من العشوائية.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى