حفِل التاريخ البشري بأحداث جسيمة وابتلاءات تكاد تفوق قدرة البشر على الاحتمال، أصابت هذا الشعب أو ذاك. في العصر الحديث، يبدو أنّ الشعب الفلسطيني حاز “قصب السبق”، ونال أرفع وسام في سباق الابتلاءات، فما شهده خلال آخر مائة عام مكتظّ بسير الكارثة والبطولة، الانكسار والصمود، السحق والمحق والنهوض من تحت الرماد. أمّا الجزء الأكثر دموية وكارثية في سيرته فهو تلك الملحمة التي نرى فصولها اليوم بكلّ توحّشها وبشاعتها وبطولتها، في غزّة تحديداً، وفلسطين عموماً، حيث يُقدّم هذا الشعب يوميّاً “وجبة” من الشهداء والجرحى والمعتقلين والأسرى والمختطفين، فضلاً عمّا يخسره في صعيد الممتلكات والابتلاءات من نقصٍ في الأموال والغذاء والدواء، وبكلّ ما يتعلّق بما يلزم من أساسياتٍ لاستمرار الحياة لا الرفاه.
في عقيدة الإسلام السمحة، ما يصيب العبد من ربه كلّه هو ابتلاء أو عقاب، وحينما ننظر في طبيعة ما يجده الفلسطيني اليوم، فالأغلب أنّ ما يمرّ به هو ابتلاء بحت، ومُقدّمة لأحداثٍ جسامٍ بدأت تباشيرها تظهر هنا أو هناك. ويبدو والله أعلم أنّ هذا الابتلاء هو تكريم على جانب رفيع من لدن ربّ العباد لعباده في الأرض المُقدّسة التي باركها الله، يُؤيّد هذا تلك اللغة الوديعة التي تجري على ألسنة المبتلين بالقتل والفقد والتدمير، وخسران الممتلكات، لغة تسليم كامل بقضاء الله وقدره، بلا سُخط أو رفض أو تذمّر، فحيثما تنظر تجد القوم يحمدون الله على ما أصابهم، ويستسلمون طواعية رضا بقضائه وقدره، ولا تكاد ترى من يشذّ عن هذه القاعدة، وكأنّ ثمّة اتفاقاً سرّيّاً بين الجميع على أن يقولوا بصوت واحد عقب كلّ ابتلاء، مهما بلغت فداحته، “الحمد لله”، وهذه العبارة بالذات حيّرت أهل الغرب ممّن لا يعرفون معناها، وحيّرتهم أكثر حينما تُرجِمت لهم، وطفقوا يسألون: على ماذا يحمد هؤلاء ربّهم؟ وكان هذا السؤال مُفجّراً رغبةً جامحةً في فهم الدين الذي صنع هذه النفس الراضية، رغم ما يصيبها من ابتلاء فوق احتمال كثير من البشر، وهو ما أفضى، بالتالي، إلى دخول آلاف من غير المسلمين إلى الإسلام.
وبعيداً عن هذه اللغة التحليلية التي تهيمن على هذا السرد، ينفجر في النفس سؤال: ماذا بينك وبين الله أيّها الفلسطيني حتّى خصّك بكلّ هذا القدر من الابتلاء والصبر والبطولة والبلاء الحسن؟ من أين لهذا الإنسي العادي كلّ هذا التحمّل وثمّة رجال في عالمنا يبكون إذا جاعوا، وينتحبون للسعة نحلة، وينهارون بعد أول صفعة، بل ثمّة قاماتٌ و”زُلم” ذوو مكانة رفيعة ووظائف عُليا، يحملون أسماءنا ويتحدّثون لغتنا، ويدينون (ولو رسمياً) بدِيننا، يركعون تحت أقدام العدو، ويلحسون أحذيته، خوفاً على منصب أو جاه أو مال، أو طمعاً في شيء من حطام الدنيا؟
ماذا بينك وبين الله، أيّها الفدائي الذي لم ينلْ قسطاً من راحة أو وجبةً كاملة أو حمّاماً ساخناً أو ملبساً جديداً منذ عشرة أشهر، ولم تزل، رغم كلّ ما أصابك وأصاب أهلك وربعك وأسرتك، من تشتيت وقتل وسجن وتهجير وتدمير، قابضاً على سلاحك الذي صنعته بعرقك، تناجز العدو وتثخن فيه، وتقهره؟ من أين لك مثل هذه القوّة وهذا العزم، بل الجبروت، لتقف، وأنت العاري إلّا من إرادتك الفولاذية، ندّاً لأكثر الجيوش توحّشاً ودعماً وتسليحاً، وتوقع في صفوفه خسائر لم تجرؤ على مُجرّد التفكير فيها جيوش مجحفلة؟ ماذا بينك وبين الله، أيّها الشعب الذي شققت عصا الطاعة، فخرجت من سيرة القطيع، وضربت بعرض الحائط كلّ دروس الخصي والقهر والإذلال، التي دأبت البساطير على رسمها على جبين الملايين من الذين، حين يتحدّثون بأمر ما، يتلفتون حولهم خوفاً من أن يسمعهم متنصّت أو راصد؟
ماذا بينك وبين الله، أيّها الشعب الذي ترى بعيني رأسك أبناءك يبتلعهم الركام، أو يقضون جوعاً ومرضاً، ثم تصرخ بالمقاومة (التي سبّبت لك كلّ هذا الابتلاء حسب قنوات الانبطاح والتطبيع ومعلّقيهما وكتّابهما): إيّاكم أن تتوقّفوا أو تسلّموا أو تتهاونوا في شروط وقف إطلاق النار، بل تطلب من رجالها أن يمضوا حتّى نهاية الشوط، بل حتّى آخر طفل فلسطيني؟
ماذا بينك وبين الله، حتّى حمّلك هذه الأثقال كلّها، فلم تئن، بل شكرته، وفوّضت أمرك إليه، ومضيت حاملاً بعضاً من مَتاعٍ، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، بحثاً عن خيمة أو ظلّ جدار وقع نصفه أو بيت بنيته بعرق جبينك ولم يبقَ منه لا أثر ولا عين، بل محض ذكريات وركام؟
لأيّ دور أو مهمّة يعدّك ربّ العزة، حتّى يدخلك مثل هذه التجربة، التي تحسبها غير مسبوقة، ولا تشبه في سخونتها وفداحتها غير فرن ناري يصهر الحديد ويحيله سائلاً لزجاً؟ ما المهمّة التي تنتظرك بعد أن علّمت العالم كلّه أنّ داود الضعيف الغضّ، الذي هزم جالوت العملاق بمقلاع، لم يمت، بل ثمّة داودون كثيرون بالآلاف، يهزمون كلّ يوم جواليت كثيرة.
أغلب ظنّ كاتب هذه السطور أنّ ما بدأه هذا الشعب لن ينتهي قريباً، فقد تخلّى عنه البشر، ومن تخلّى عنه هؤلاء في كرب، فليعلم، كما قال الإمام الشافعي، أنّ الله يريد أن يتولّى أمره، وكفى بالله وكيلاً، ومن تولّى الله، جلّت قدرته أمره، فلن يقف في طريقه شيء مما يجترحه البشر مهما بلغت قوّتهم أو جبروتهم.
المصدر: العربي الجديد