لبنان بامتياز أجمل بلد عربي، قطعة من الطبيعة الرشيقة ممتدة بكامل قامتها على فضاء البحر، وقد تركه إخوته العرب فى قاع “الجُبِّ” ، تماما كما فعل إخوة سيدنا يوسف ، وجاءوا إلى أبيه “يعقوب” بالدم المكذوب على قميص المغدور ، وسولت لهم أنفسهم أمرا ، وتصوروا أنهم تركوا الفتى النبى الأجمل لمصائر موت تخيلوها .
وكما لم يمت سيدنا يوسف بخسة إخوته ، فلن يموت لبنان بإذن الله ، ودونما انتظار لعزيز ملكه ، الذى جعل سيدنا يوسف على خزائن الأرض ، فالبلد الأصغر الأجمل عربيا ، يملك خزائن بشر من نوع فريد ، أعلى قيمة بمراحل من خزائن ملوك البترو ـ دولارات ، وقد صنع اللبنانيون عزا لأمتهم ، لا ترقى إليه رقاب الذين يحاصرونهم اليوم ، وينتظرون خبر هلاك لبنان ، الذى انتصر بدماء بعض أهله على جبروت العدو الإسرائيلى ، ووضع أنف قوات الاحتلال فى التراب ، وأرغمها على الانسحاب ذليلة من الجنوب اللبنانى ، ومن دون توقيع صك اعتراف ، ولا تورط فى اتفاقات تطبيع مدنسة .
وشرف لبنان هو تهمته عند إخوته الأغنى مالا ، وقد حبسوه عن لبنان رغبة فى دهسه ، وإفقار شعبه ، والتلذذ بمناظرة مآسيه ، وبدفع “عربون” محبة لعزيزتهم إسرائيل ، وكأن المطلوب هو معاقبة اللبنانيين جميعا ، وإلى حد الإفناء ، لسبب مكشوف ومعلن ، هو أن بعض اللبنانيين حاربوا إسرائيل ، وهم يريدونهم أن يحاربوا “حزب الله” خدمة لأمريكا وإسرائيل ، وكأن سلاح “حزب الله” هو الذى صنع أزمات لبنان الاقتصادية والمالية ، وليس أمراء الطوائف الفاسدين المدللين المفضلين عند ملوك البترول ، الذين لايعرفون أخوة دم ، صارت عندهم ماء ، وأحلوا محلها من عقود أخوة المعسكر الأمريكى الإسرائيلى ، فأمريكا عندهم هى الرب المعبود ، و”البيت الأبيض” لا المسجد الأقصى هو أولى القبلتين ، والتحالف الضمنى فالظاهر مع إسرائيل هو دين العصر العربى الأثيم ، وفيما هم لا يذكرون كلمة “العروبة” إلا بالتضاد مع نفوذ إيران الفارسى المتضخم ، فإنهم لا يذكرونها أبدا فى مقام التناقض الأوجب مع إسرائيل ، التى تحتل وتستوطن بلدا عربيا كاملا ، لم يعودوا يذكرون اسمه إلا فى مقام “الفلس” و”الطين” (!) .
ولو كان هؤلاء عربا بحق ، لتذكروا معاداة إسرائيل قبل أو إلى جوار التناقض مع إيران ، فلا بأس أن يحاربوا إيران ، التى ارتكبت خطايا هائلة بحق أوطان عربية متكاثرة ، وأغراها الفراغ العربى ، بالتوسع والهيمنة وامتداد وتوحش النفوذ ، ليس بالسلاح الإيرانى وحده ، بل بمليارات هؤلاء بالذات ، وقد أنفقوها على حملات تكفير الشيعة ، ومن قبلها على حملات تكفير دعوة القومية العربية ، وتفجير المشروع القومى العربى من داخله ومن خارجه ، ومع إجهاض المشروع القومى بعد ما جرى فى مصر عقب انتصارأكتوبر 1973 ، لم يعد من بديل سوى مشاريع الطوائف واليمين الدينى ، وقد دفع فيها هؤلاء مئات مليارات الدولارات ، لا لشئ ، سوى أن أمريكا تريد ومعها إسرائيل ، ثم كانت المفارقة ، فلم يستفد بحملات تكفير الشيعة العرب أكثر من إيران الخمينية ، التى تعتبر “التشيع” الدينى قومية جامعة لشعوبها متعددة الأعراق ، وأضاف إليها هؤلاء ذخيرة جديدة ومددا مجانيا ، بدفع الشيعة العرب إلى أحضان طهران ، التى استثمرت الشيعة والمتشيعين فى حروب كسب النفوذ ، وإدارة عمليات تفكيك ما امتدت إليه يدها من أقطار العرب فى المشرق والخليج ، وبدعوى محاربة العدو الإسرائيلى المجمع عليه تاريخيا وشعبيا ، وفيما لم تضبط أغلب جماعات التشيع لإيران متلبسة بطلقة رصاص ضد إسرائيل ، فإن “حزب الله” وحده بينها ، هو الذى حارب إسرائيل مرات ، وهذه حقيقة مادية صرفة ، لا يصح أن يمارى فيها أحد عاقل ، مع التسليم طبعا بخطايا تورط فيها “حزب الله” فيما بعد ، لعل أخطرها مشاركته الطائفية فى حروب دارت على أرض سوريا ، وتشيعه لنظام بشار ، وضد أشواق الشعب السورى فى نيل الحرية ، وسفكه لدماء السوريين ، حتى عندما كانت ثورة الشعب السورى بكرا لا تزال ، وكانت سلمية تماما فى مراحلها الأولى ، قبل أن يغزوها جراد وأوبئة جماعات التكفير والقتل ، التى شربت ولم ترتو بعد من دماء السوريين ، تماما كما فعلت وتفعل جماعة بشار ، فلا أحد من المتقاتلين اليوم فى سوريا ، يستحق العطف أو التعاطف ، اللهم إلا الشعب السورى والوطن السورى ضحية كل الأطراف ، وحتى إشعار آخر ندعو الله أن يعجل بمجيئه وفرجه .
والذين يريدون تدمير لبنان اليوم ، هم الذين شاركوا بمليارات الدولارات فى عملية تحطيم سوريا ، تماما كما فعلت إيران وحزب الله ، إضافة للأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة فى المشهد السورى ، وهذه قصة دامية بتفاصيل مفزعة ، قد لا يكون هنا مقامها ، لكنها لا تبرر كل هذا التربص بلبنان ، ولا الامتناع الخليجى عن دعم لبنان فى أزمته الاقتصادية الطاحنة ، ولا هذا التساوق والتطابق مع رغبات وأولويات أمريكا وإسرائيل ، وجعل “حزب الله” هو القضية، وليس شقاء غالب اللبنانيين اليوم ، وعذابهم المتفاقم فى بطولة البقاء على قيد الحياة ، وتردى نصف الشعب اللبنانى إلى هاوية ما تحت خط الفقر ، وإلى حد صار العيش معه شبه مستحيل ، مع إنهيارات يومية متسارعة فى قيمة الليرة اللبنانية ، وتوحش فساد أمراء الطوائف ، الذين يحظون بمحبة ملوك البترو ـ دولارات ، وبالتدفقات المالية الغزيرة ، الموجهة فى غالبها لتجريف وتزوير غضب الشعب اللبنانى ، وجعل بوصلته موجهة ضد سلاح “حزب الله” ، وليس ضد الإفقار وهيمنة الفاسدين السارقين ، وبدعوى محاربة إيران ممثلة فى حليفها “حزب الله” ، ولو كان هؤلاء يفقهون ما يقولون ، ولو كانوا حقا يحرصون على عروبة لبنان كما يهرفون ، لفعلوا العكس تماما ، وسارعوا لنجدة لبنان ، وكسبوا للعروبة أرضا بالأيادى البيضاء على حساب نفوذ إيران ، لكنها قلوب عليها أقفالها ، تفضل أن تذهب بمئات مليارات الدولارات إلى خزائن أمريكا ، وليس أن تدفع قطرة مليارات لبلد عربى فى غرفة الإنعاش ، لا لسبب ، إلا لأن ذلك عين ما تريده أمريكا ، وتريده إسرائيل من باب أولى ، والأخيرة تعرف خطر قوة “حزب الله” المتنامية على وجودها ، ولا ترى خطرا أكبر منه على جبهتها الشمالية ، وجربت حروبا لإفناء سلاحه ، ودونما نجاح بالمرة ، وتعد لحروب أخرى قريبة ، دونما ثقة فى الفوز ، ويفيدها بالطبع أن يخوض حروبها الآخرون ، وأن تزج باللبنانيين فى حرب أهلية جديدة ، وأن تثير دواعى الشقاق والاحتراب ، وتدفع بطوائف السنة والمسيحيين والدروز إلى حرب قصاص من “حزب الله” بالذات ، وتلك لعبة مفضوحة ، لن يقع غالب الشعب اللبنانى فى شراكها أبدا ، فقد قاسى اللبنانيون من قبل حربا أهلية طويلة ، لم تجلب إلا الدمار ، وسفك دماء 120 ألف لبنانى ، إضافة للغزو الإسرائيلى ، واحتلاله لبيروت أوائل ثمانينيات القرن العشرين ، ولم تذهب الغمة إلا بعزيمة طلائع الشعب اللبنانى ، وبمقاومة أطراف وطنية متعددة المشارب ، كان بينها ثم فى مقدمتها “حزب الله” ، الذى قد يكون تورط قبل سنوات فى اشتباكات محدودة فيما أسمى إعلاميا باجتياح بيروت ، لكنه لم يكن طرفا فى حرب أهلية دامت 15 سنة ، ليس لأن “حزب الله” جماعة من الملائكة أو الأطهار الأخيار ، بل بوعى سياسى مقاوم ، انحرفت بوصلته فى جرائم حروب بسوريا ، هذا صحيح ، لكنه على الأرجح ، أو هكذا نأمل ، قد لا يكرر الخطايا ذاتها داخل لبنان المأزوم المحاصر المنهك اليوم ، بل ربما نرى ما هو أبعد أثرا ، فالقوة المسلحة الراجحة لحزب الله ، تظل عنصر ردع لأى طرف لبنانى آخر ، قد يفكر بالتورط فى إشعال حرب أهلية جديدة ، ثم أن التطور الملحوظ فى تكوين وعقيدة الجيش اللبنانى الرسمى ، قد يكون ضمانة سلم أخرى ، تقلص فرص انزلاق البلد إلى صدام أهلى واسع ، حتى مع تدهور الأوضاع الأمنية ، وظواهر الانفلات التلقائى أو المصنوع المصاحب عادة لمآسى الإفقار والتجويع المتفشية ، وافتعال المشاغبات الطائفية والمذهبية ، وكلها أساليب مكشوفة ومرفوضة عند أغلب اللبنانيين العاديين ، برغم قسوة المعاناة اليومية ، فالشعب اللبنانى يملك خزائن الوعى والخبرة والتجربة ، وشغفه الفطرى بالحياة والحرية ، كفيل بجعله يعبر المحنة ، والذين يتربصون به اليوم ، ويريدون دفعه لإشعال حروب مزورة ، لن ينجحوا أبدا فى “كى” الوعى اللبنانى ، ولا حرفه عن وجهة غضبة ضد الأعداء الحقيقيين ، فى داخل لبنان ومن حوله ، والله متم نعمته على لبنان الأبهى عربيا ، ولو كره الكارهون من إخوة “يوسف” القدامى والجدد .
المصدر: القدس العربي