منذ بداية معركة طوفان الأقصى، ظهر تضارب كبير في توصيف الأحداث، ليس بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، بل عالمياً، وبين مؤسّسات ومنظّمات حقوقية دولية، إذ تبنّى بعض منها، في بداية الأحداث، السردية الصهيونية التي وصفت استخدام إسرائيل المُفرِط للقوّة دفاعاً عن النفس. وطوال أشهر الحرب على غزّة، ظلّ بعضُهم يتبنّى السردية نفسها في مواجهة الإدانة الدولية والعالمية التي اجتاحت العالم في وصف ما يحدُث باعتباره جريمة إبادة جماعية، لكن أيّاً من المؤسّسات الحقوقية الدولية لم ترق إلى تبنّي خطاب الجانب الفلسطيني، الذي ينظر إلى ما قامت به المقاومة الفلسطينية، ولا تزال، حقّاً في الدفاع عن النفس وفي مقاومة الاحتلال، وحقّاً في تقرير المصير، وأنّ المقاومة بأشكالها كافّة، ومنها العسكرية، حقّ كفلته القوانين والقرارات الدولية لكلّ الشعوب تحت الاحتلال، في ظل ما ترتكبه إسرائيل من أساليب الاحتلال وقمع الفلسطينيين. ففي أحدث تقرير دولي صادر عن منظّمة هيومن رايتس ووتش، في 17 من الشهر الحالي (يوليو/ تمّوز)، وُجّهت اتهامات خطيرة للفصائل الفلسطينية المشاركة في هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) على مستوطنات غلاف غزّة، واعتبرت المنظّمة أنّ الهجوم كان مُخطّطاً له من غرفة عمليات مشتركة للفصائل، ويتضمّن جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب. وعلى الرغم من تأكيد المنظّمة أنّ الاحتلال الإسرائيلي هو جوهر الصراع، إلّا أنّها أشارت إلى أنّ ذلك لا يُبرّر الانتهاكات التي وثّقتها خلال الهجوم. تضمّن التقرير (236 صفحة)، توثيقاً لعشرات الحالات من الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، ما أثار رفضَ فصائل المقاومة الفلسطينية وإدانتها، وردّت بعضها عليه، رغم أنّ العديد منها أكّدت عدم تلقّيها خطاباً من المنظّمة بهذا الصدد سابقاً، معتبرةً ذلك عواراً قانونياً تتحمّله الجهة الدولية، ويُشكّل انحيازاً كاملاً للسردية الصهيونية.
تقرير “هيومن رايتس ووتش” الصادر حديثاً، يعكس منظوراً مُحدّداً ومُنحازاً، تجاهل السياق الكامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وينحاز بشكل كبير للرواية الإسرائيلية، متجاهلاً بشكل واضح الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حقّ الفلسطينيين، بما في ذلك القتل العشوائي، والاعتقالات التعسّفية، والتهجير القسري، والحصار الاقتصادي على قطاع غزّة.
أسّست المُنظّمة الدولية تقريرها على أنّ المنطقة التي تسمّى “غلاف غزّة” تابعة للدولة الصهيونية، متجاهلةً كلّ الاتفاقيات الدولية التي تعتبرها جزءاً من الأراضي الفلسطينية المُحتلّة بموجب القانون الدولي واتفاقيات الهدنة. كما تعمّدت تجاهل الوضع القانوني لقطاع غزّة واعتباراته الدولية، حيث احتلت إسرائيل قطاع غزّة في 1967، ورغم انسحابها من المستوطنات في 2005، إلا أنها لا تزال تسيطر بشكل كامل على حدود القطاع وعلى المجالين الجوّي والبحري المحيطين به. بموجب القانون الدولي، تُعتبر المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزّة غير شرعية، وتعتبر إسرائيل الدولة المُحتلّة المسؤولة عن حماية المدنيين في المناطق التي تحتلّها، وهذا يشمل التزامات قوانين الحرب الدولية وحقوق الإنسان. ووفقاً للقانون الدولي والخبراء القانونيين، لا تعدّ مقاومة الاحتلال اعتداءً، بل هي جزء من الدفاع المشروع عن الأرض الفلسطينية واستعادة الحقوق المُغتصَبة. فبموجب اتفاقيات الهدنة المُوقّعة في 1949، تُعتبَر هذه الأراضي جزءاً من قطاع غزّة، وسكّانها الإسرائيليين مستوطنين غير شرعيين. وهنا نستعرض التفاصيل المُتعلّقة بالحدود والاتفاقيات التي تُؤكّد حقّ الفلسطينيين في هذه الأراضي.
وُقّعت اتفاقية الهدنة في 24 فبراير/ شباط 1949 مع مصر وسُجّلت في الأمم المتّحدة. وعند الاطلاع على الوثائق الأصلية لاتفاقية الهدنة، يتبيّن أنّ الحدود الحالية لا تمتُّ بصلة للاتفاقية الأصلية التي تشمل مساحة حوالي 550 كيلومتراً مربعاً، بينما يظهر الوضع الحالي نقص القطاع بنحو مائتي كيلومتر مربع. في فبراير 1950، احتجّت إسرائيل لدى اللجنة المُشتركة مع مصر على وجود مشاغبات كثيرة على الحدود، ما يُسبّب اشتباكات. بناءً على ذلك، اتّفقوا في لجنة الهدنة المصرية الإسرائيلية المشتركة على اقتطاع جزء من القطاع ليكون مُؤقّتاً منطقةً عازلة (بمساحة 165 كيلومتراً مربّعاً)، ووقّعوا اتفاقية سرّية باسم “موديس فيفندي” أو “تعايش”، وأُودِعت في الأمم المتّحدة من دون علم الشعبين الفلسطيني والمصري، لكنّها اعتبرت ذلك الإجراء لا يعني إلغاء الاتفاقية الأصلية (اتفاقية الهدنة). لكن أيّ دولة عربية، بما في ذلك مصر (ومنظمّة التحرير الفلسطينية)، لم تطالب بالعودة إلى خطّ الهدنة الأصلي، وهو خطّ توقّف القوات العسكرية وليس له أيّ معنى قانوني، ولا يعني أنّ الأرض على يمينه أو يساره تحت سيادة الدولة الصهيونية، واعتبارها حدوداً لها، بل يعني أنّها أراضٍ مُحتلّة. منذ ذلك التاريخ، لم تعيّن إسرائيل المنطقة المُقتطعة من قطاع غزة (200 كلم مربع)، التي تضمّ مستوطنات نيريم، ونور عوز، وماغن، وعين هشلوشة، أرضاً لها. وعليه، هذه المستوطنات كلّها باعتراف وثائق الأمم المتحدة، وباعتراف القانون الدولي، أراضٍ فلسطينية مُحتلّة.
الوثائق والشهادات التي اعتمدتها “هيومن رايتس ووتش” أدلةً في وصف أحداث 7 أكتوبر (2023)، ومنها شهادات من الجانب الإسرائيلي، أدلّة غير قطعية ولا ترقى إلى درجة اليقين وتُعدّ غير مكتملة، ودحضتها تحقيقات إعلامية إسرائيلية. وكانت تقارير الصحافيين الذين سمحت لهم سلطات الاحتلال بدخول المنطقة غير موضوعية، وهناك صور وفيديوهات لم يتم التحقّق من صحّتها أو استخدمت خارج السياق. وحين تدّعي المنظّمة أن الهجوم كان مُخطّطاً له بشكل منهجي من دون أن تُقدّم أدلةً تثبت أنّه كذلك، وأنّه استهدف المدنيين بشكّل مُتعمّد، فيمكن اعتبار تلك المزاعم مبالغاً فيها. يتطلب اتهام المقاومة الفلسطينية بالقيام بهجوم ممنهج أدلة قوية تظهر أنّ الهجمات كانت جزءاً من سياسة واضحة ومُتّبعة من الفصائل. ناهيك عن أنّ التعريفات التي اعتمدتها المُنظّمة حول “مشاركة المدنيين في الأعمال العدائية”، تشي بأنّهم يفقدون حصانتهم بموجب المشاركة في تلك الأعمال، متجاهلة القانون الدولي، كالمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف، التي تنصّ على حماية المدنيين بما في ذلك حظر العنف ضدّهم، سواء كانوا مدنيين أو مقاتلين أسرى. قد تكون بعض الفصائل اتّخذت إجراءات قاسية في بعض الحالات. وفي غياب أدلة قاطعة، من الصعب الاعتماد على هذه المزاعم، كما تلك الاتهامات بجرائم اعتداءات جنسية وردت في التقرير. وتُصرّ “رايتس ووتش” على استخدام مصطلحاتٍ تُعلن بها انحيازها الكامل للسردية الإسرائيلية، مُتّخذة بذلك موقف إدانة مسبق للفصائل الفلسطينية، كما في تعريفها مصطلح “الرهائن” واحتجازهم، فيجب التمييز بين احتجاز الأفراد رهائن واعتقالهم جزءاً من الصراع العسكري. وترى الفصائل الفلسطينية في احتجاز بعض الأفراد وسيلةً للضغط على الجانب الإسرائيلي للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين. تحت الاحتلال، يمكن للفصائل المسلحة تبرير بعض الأفعال أنّها جزء من الدفاع الشرعي عن النفس والمقاومة.
قدّمت المنظّمة الدولية توصيات مختلفة للأطراف كافّة مطالبةً بوقف الهجمات “غير القانونية” التي تقوم بها الفصائل الفلسطينية، وهو وصف يشي بالإدانة المُسبقة من دون أيّ تحقيق فعلي أو أحقية قانونية للفلسطينيين بالردّ، لكنها لم تطالب دولة الاحتلال بوقف هجماتها، رغم أنّ إسرائيل أيضاً ملزمة بوقف الهجمات غير القانونية ضدّ المدنيين الفلسطينيين. الغريب في التقرير هو التلاعب بالقوانين والنصوص التي تستند إليها المنظمّة في وصف الأحداث، وإدانة المقاومة الفلسطينية، وتسعى إلى إظهار “حيادية” تجنّباً للانتقادات الأميركية والصهيونية. وفي نهاية التقرير، توصي بأنّ على إسرائيل والأطراف الأخرى تطبيق اتفاقيات جنيف: “يجب أن تلتزم إسرائيل أيضاً بتطبيق اتفاقيات جنيف الأربع، بما في ذلك حماية المدنيين الفلسطينيين ووقف الهجمات غير القانونية”.
مع وصول المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني إلى قناعة بأنّ ما من وسيلة لردع الفلسطينيين عن المقاومة، ولا حتّى من خلال وكلائه، فإنّ حلّه المطروح هو الاستئصال الكلّي للفلسطيني، وللكينونة الفلسطينية، من خلال شيطنة المقاومة الفلسطينية، ووسمها بكيانات غير قانونية وإدانتها بالوحشية والإرهاب، وما قامت به “رايتس ووتش” ما هو إلا أحد التجلّيات لتوحشّ الاستعمار وشرعنة ما يقوم به في مواجهة الفلسطينيين، شارعة الأبواب الدولية على مصراعيها لإنهاء الحقّ الفلسطيني، وإنّهاء حقبة ما يسمى “حقوق الإنسان” والاتفاقيات الدولية. من المهم أن نكون قادرين على إدراك أنّ هذا المسار هو مسار نهاية الاستعمار الصهيوني الاستيطاني ونهاية دولة الاحتلال.
المصدر: العربي الجديد