ليس مبالغة توصيف هيئة الأمم المتحدة لحالة سورية بأنها تمثل أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ إنّها شهدت مقتل مئات الألوف من أبنائها، وهُدّمت العديد من مدنها، ويوجد حوالي مليونين من أبنائها خارج عملية التمدرس، وحوالي 150 ألف من مواطنيها مغيبين قسرياً في سجون نظام آل الأسد، ويعاني نصف شعبها من التهجير القسري، وما نتج عنه من بروز نزعات عنصرية ضد السوريين في العديد من دول اللجوء.
إنّ الكارثة السورية، بعد ثلاثة عشر عاماً على الحراك الشعبي، تطرح تساؤلات جوهرية: ما هي الأسباب العميقة لذاك الحراك؟ ولماذا استمر طوال هذه السنوات؟ وهل هناك من أفق لحل سياسي يقوم على أساس أنّ الصراع في سورية وليس عليها؟ وما هي مقوّمات هذا الحل؟ وما هي تحديات وفرص مرحلة ما بعد التغيير؟
إذ بعد انطلاق ثورات الربيع العربي، في تونس ومصر، لم يكن من الممكن أن تبقى سورية معزولة عن هذه السيرورة التاريخية التحررية، إذ إنّ منطق التاريخ وجدله لا يسمح لـ ” الموات ” السوري بالاستمرار. ولكنّ رأس نظام الاستبداد لم يستجيب لنداء العاقلين السوريين، الذين طالبوه بالاستجابة لنداء الثوار بضرورة الإصلاح والانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، وقد كنتُ واحداً من السوريين الذين خاطبوا بشار الأسد، قبيل الانفجار السوري الكبير في آذار/مارس 2011، في رسالة مفتوحة نشرتها في صحيفة ” القدس العربي “، حيث قلت له ” كي لا تبقى على الأطلال بعد أن تقع الواقعة، كما بكى المخلوعان زين العابدين بن علي وحسني مبارك، فإني أنصحك بضرورة إحداث تغييرات سريعة، بما يؤدي إلى انفتاح سياسي حقيقي، يتناسب مع التحوّل المؤسسي العالمي والعربي القائم على مجموعة القيم العالمية في الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والحكم الصالح “.
لقد اعتادت سلطة آل الأسد، منذ سنة 1970، على مصادرة المجتمع وإخضاعه كلياً، وأقامت في سبيل ذلك منظماتها الشعبية كامتداد لسلطتها، بحيث لم يعد من الممكن الحديث عن دولة ومجتمع بالمعنى الحديث. ومردُّ كل ذلك هو النظام السلطوي الذي حكم البلاد والعباد، والذي تميز بالتماهي بين الدولة والسلطة والمجتمع والحزب، واندمجت كلها في شخصية الحاكم، بعيداً عن أية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود مراتبية تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الأهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقرّب أهل الولاء وتنفّر أهل الكفاءة. وقد أدى كل ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية السليمة، وحدَّ من إمكانية الإدارة العقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية، كما أدى إلى تهميش قطاعات اجتماعية وثقافية عديدة.
لقد انطلق الحراك الشعبي السوري، في آذار/مارس 2011، نتيجة وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادراً على تحمّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ سنة 1970. وقد ظل الطابع العام له مدنياً وتحررياً وإنسانياً، وبقيت قاعدته الاجتماعية تحظى بدعم من مختلف الأطياف السورية، وأخذ وجهه العام يستعير مفرداته الحداثية، بفضل تراكم نضالات المعارضين الديمقراطيين السوريين طوال أربعة عقود. فقد تشكلت قيادات شابة قادرة على استيعاب معطيات التحوّل العالمي نحو الديمقراطية، وتمسك بزمام الأمور وتتحكم بحركتها حسب المتغيّرات، رغم وجود حالات تشويش فردية، طغت على الحراك بعد تغييب النشطاء قتلاً أو في المعتقلات أو اللجوء خارج البلاد، ساحة مفتوحة للصراع عليها. حيث وجدت نفسها ضحية عالم متغيّر، يتسم بتعدد القوى التي تتصارع، بعيداً عن حدودها. ولم يكن أحد يتوقع أنّ مسار الحراك سينحرف ويصل إلى ما وصل اليه من دمار وقتل ونزوح وتهجير، وأن يدخل هذا المسار في دوامة العنف والعنف المضاد وما تبعه من تدخل دولي، واحتلالات، ونفوذ دول، ومليشيات متعددة الجنسيات، وأجندات عملت على ديمومة الصراع وإدارته للتحكم بمآلاته.
ومن المؤكد أنّ الحراك الشعبي ليس غاية بذاته وإنما وسيلة للنهضة والتقدم، فلا ثورة في ظل مجموعات تعيش حالة من التناحر والاقتتال، وتفضي الى الكوارث والمآسي، وتتحول إلى الفوضى العسكرية والمجتمعية. ليجد المجتمع السوري نفسه أمام قادة أو مجموعات لا يختلفون بتركيبتهم العقلية والسلوكية عن النظام القائم، ويقودون عملية استنساخ للسلطة من فوق أنقاض جثث الناس ودمائهم.
ولا شك أنّ خصوصية الحراك الشعبي السوري، من حيث العلاقة بين امتداده الزمني والتأثيرات الإقليمية والدولية وعطب بنيته الداخلية، جعله موضع اختلاف حول توصيفه: هل هو ثورة كلاسيكية شبيه بثورات القرن العشرين؟ أم هو مجرد حراك شبابي عفوي سخّر وسائل التواصل الاجتماعي للتجمع في ساحات المدن؟
وعلى ضوء التوصيف الأولي لبعض سردياته وتساؤلاته، يبدو أننا أحوج ما نكون إلى سردية واضحة لمسيرته ولمضامين التغيير المنشود، انطلاقاً من أنّ ثمة تحديات كثيرة ستواجه السوريين في مرحلة ما بعد التغيير، من أخطرها بنية التسلط والاستبداد، التي عمّمها النظام طوال ستة عقود من الزمن، مما يفرض أن تُضمَن في المرحلة الانتقالية الحريات الفردية والعامة.
ولكن، بالرغم من الكارثة السورية، فقد دخل الحراك الشعبي السوري في طور نوعي جديد، في الموجة الثانية من الحراك الشعبي في السويداء ومناطق الشمال، حيث أضحت شعارات الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان والدولة المدنية متداولة، مما يساعد على إرساء أرضية جديدة لنهوض شامل ركيزته إرادة الشعب الحر، الذي قرر أن لا يقبل من جديد بالمهانة والذل. ويعمل حاملو راية التغيير على صياغة معادلة جديدة في الحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفّر الشفافية والمؤسسية والقانون.
خاصة أنّ ثمة عدة متغيِّرات حصلت في المشهد السوري وجعلته أكثر استعداداً للتسويات السياسية عما كان عليه طوال ثلاثة عشر عاماً، من أهمها: أولاً، روسيا وتركيا اللتان تتحملان المسؤولية الأكبر في إدارة الملف السوري، تبدوان أقل قدرة على تحمُّل مزيد من أعباء استمرار الصراع وأكثر ميلاً لمعالجته سياسياً. في حين تزداد الضغوط على إيران بعد تفاعلات حرب غزة، ومحاولة منعها من استثمارها لتمدد نفوذها. وثانياً، تزايد الضغط الإقليمي لإطفاء بؤرة التوتر السورية، بعد أن أضحى التخوُّف على أشده مما تخلِّفه هذه البؤرة من استقطابات حادة واحتقانات مذهبية وطائفية، ومن أخطار اجتماعية واقتصادية على بلدان الجوار نتيجة الازدياد المتواتر لأعداد اللاجئين السوريين على أراضيها، والأهم تراجع العرب عن تعويم بشار الأسد، بل مطالبته بالانخراط في تطبيق متطلبات القرار 2254. وثالثاً، تزايد موجة اللجوء السوري نحو أوروبا. ورابعاً، تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية في مناطق نفوذ النظام، وشيوع رغبة عارمة وضاغطة لدى السوريين بضرورة الخلاص من هذا التردي المريع في شروط حياتهم وعيشهم وأمنهم، ربطاً بتنامي استعدادهم للتوصل إلى حلول تخفف من دوامة العنف وتحفظ وحدة البلاد. ولعلَّ استمرار الحراك الشعبي في السويداء، وتوسّع دائرة العمل السوري انطلاقاً من المطالب الخمسة لبيان المناطق الثلاث التي وصل عددها إلى تسعٍ، والحراك الشعبي في الشمال السوري، تساعد على الضغط من أجل الانخراط في عملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون، دولة كل مواطنيها الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.