“أشعر بالملل، فأطلق النار”: الترخيص لجنود إسرائيل بممارسة العنف المجاني في غزة‏

أورين زيف* ترجمة: علاء الدين أبو زينة‏

أوضح (أ) الضابط الذي خدم في مديرية العمليات في الجيش الإسرائيلي خلال الحرب الجارية على غزة، أن إطلاق النار على “المستشفيات والعيادات والمدارس والمؤسسات الدينية ومباني المنظمات الدولية” يتطلب تفويضًا أعلى. ولكن في الممارسة، “يمكنني الاعتماد من ناحية على الحالات التي قيل لنا فيها أن لا نطلق النار. حتى مع الأماكن الحساسة مثل المدارس، تبدو (الموافقة) وكأنها مجرد إجراء شكلي”.‏

‏بشكل عام، كما قال (أ)، “كانت الروحية في غرفة العمليات هي: ’أطلق النار أولاً، واطرح الأسئلة لاحقًا‘. كان هذا هو الإجماع … لن يذرف أحد دمعة إذا سوينا منزلاً بالأرض عندما لم تكن هناك حاجة لذلك، أو إذا أطلقنا النار على شخص لم نكن مضطرين إلى إطلاق النار عليه”.

وقال (أ) إنه على علم بحالات أطلق فيها الجنود الإسرائيليون النار على مدنيين فلسطينيين دخلوا منطقة عملياتهم، وهو ما يتفق مع ‏‏تحقيق أجرته صحيفة “هآرتس”‏‏ في “مناطق القتل” في مناطق غزة الخاضعة لاحتلال الجيش. وأضاف: “هذا هو الوضع الافتراضي. ليس من المفترض أن يكون هناك مدنيون في المنطقة، هذا هو المنظور. إذا رصدنا شخصًا في نافذة، يطلقون النار عليه ويقتلونه”. وأضاف أنه في كثير من الأحيان لم يكن واضحًا من التقارير ما إذا كان الجنود قد أطلقوا النار على المسلحين أو المدنيين العزل -و”في كثير من الأحيان، بدا الأمر وكأن شخصًا ما علِق في موقف، وفتحنا النار”.‏

لكن هذا الغموض حول هوية الضحايا يعني أنه بالنسبة لـ(أ)، لا يمكن الوثوق بالتقارير العسكرية حول أعداد أعضاء “حماس” الذين قتلوا. “الشعور في غرفة الحرب، وهذا تعبير ملطف، هو أن كل شخص قتلناه، كنا نعتبره إرهابيا”، كما قال في شهادته.‏

‏وتابع (أ): “كان الهدف هو إحصاء عدد (الإرهابيين) الذين قتلناهم اليوم. كل (جندي) يريد أن يظهر أنه الرجل الكبير. كان التصور هو أن جميع الرجال كانوا إرهابيين. في بعض الأحيان كان القائد يطلب فجأة أرقاما، وعندئذٍ يركض ضابط الوحدة من كتيبة إلى كتيبة، ويتصفح القائمة في نظام الكمبيوتر العسكري ويقوم بالعد”.‏

وتتفق شهادة (أ) مع ‏‏تقرير صدر مؤخرًا‏‏ عن منفذ “ماكو” الإسرائيلي، حول غارة بطائرة من دون طيار شنتها إحدى الكتائب، وأسفرت عن مقتل فلسطينيين في منطقة عمليات لواء آخر. وقد تشاور ضباط من كلتا الكتيبتين حول أي واحد يجب أن يسجل الاغتيالات لكتيبته. وقال أحدهم للآخر: “ما الفرق الذي يحدثه ذلك؟ فلنسجلها لكلينا”، وفقًا للمنفذ الإعلامي.‏

‏خلال الأسابيع الأولى بعد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي قادته “حماس”، يتذكر (أ): “كان الناس يشعرون بالذنب الشديد لأن هذا حدث في عهدتنا”، وهو شعور كان مشتركًا بين الجمهور الإسرائيلي بشكل كبير -والذي سرعان ما تحول إلى رغبة في الانتقام. وقال (أ): “لم يكن هناك أمر مباشر بالانتقام، لكنك عندما تصل إلى منعطفات القرار، فإن التعليمات والأوامر والبروتوكولات (المتعلقة بالحالات ‘الحساسة’) هي التي يكون لها تأثير كبير فقط”.‏

عندما كانت الطائرات من دون طيار تبث لقطات حية للهجمات في غزة، “كانت هناك هتافات فرح في غرفة الحرب”، على حد قول (أ). وقال: “من حين لآخر، ينهار مبنى … والشعور هو، واو، كم هذا مجنون، يا لها من متعة”.‏

‏وأشار (أ) إلى المفارقة في أن جزءًا مما دفع الإسرائيليين إلى الانتقام كان الاعتقاد بأن الفلسطينيين في غزة ابتهجوا بالموت والدمار اللذين حدثا في 7 تشرين الأول (أكتوبر). ولتبرير التخلي عن التمييز بين المدنيين والمقاتلين، يلجأ الناس إلى عبارات مثل ’لقد وزعوا الحلوى‘، أو ’لقد رقصوا بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)‘، أو ’لقد انتخبوا حماس‘… لم يعتقد الجميع، ولو أن عددًا غير قليل اعتقدوا بأن طفل اليوم هو إرهابي الغد”.‏

‏وقال (أ) عن تجربته في غرفة العمليات: “أنا أيضًا، جندي يساري إلى حد ما، أنسى بسرعة كبيرة أن هذه منازل حقيقية (في غزة). لقد شعرت وكأنها لعبة كمبيوتر. بعد أسبوعين فقط أدركت أن هذه مبان (فعلية) تسقط: إذا كان هناك سكان (في الداخل)، فإن (المباني تنهار) على رؤوسهم، وحتى لو لم يكن فيها أحد، فمع كل شيء بداخلها”.‏

‏”رائحة موت مروعة”‏

‏شهد العديد من الجنود الذين تحدثوا إليها بأن سياسة إطلاق النار المتساهلة مكنت الوحدات الإسرائيلية من قتل المدنيين الفلسطينيين حتى عندما يكون قد تم التعرف عليهم مسبقًا أنهم كذلك. وقال (د)، وهو جندي احتياط، إن لواءه كان متمركزًا بالقرب مما سُميا ممرين “إنسانيين”، أحدهما لمنظمات الإغاثة والآخر للمدنيين الفارين من شمال القطاع إلى جنوبه. وفي داخل منطقة عمليات لوائه، وضعوا سياسة “خط أحمر، خط أخضر”، وتحديد المناطق التي يُحظر على المدنيين دخولها.‏

وفقًا لـ(د)، سمح لمنظمات الإغاثة بالذهاب إلى هذه المناطق بتنسيق مسبق (أجريت مقابلتنا قبل ‏‏أن تقتل‏‏ سلسلة من الضربات الإسرائيلية الدقيقة ‏‏سبعة من موظفي “المطبخ المركزي العالمي”)، لكن الأمر كان مختلفًا بالنسبة للفلسطينيين. وقال (د)، مدعيًا أن هذه المناطق كانت مشار إليها بعلامات للمدنيين: “أي شخص يعبر إلى المنطقة الخضراء سيصبح هدفًا محتملا. إذا تجاوزوا الخط الأحمر، فأنت تبلغ عن ذلك في الراديو ولا تحتاج إلى انتظار الإذن، يمكنك أن تطلق النار”.‏

‏ومع ذلك، قال (د) إن المدنيين كانوا يأتون في كثير من الأحيان إلى المناطق التي تمر بها قوافل المساعدات من أجل البحث عن بقايا قد تسقط من الشاحنات؛ ومع ذلك، كانت السياسة هي ‏‏إطلاق النار على أي شخص يحاول الدخول‏‏. وقال: “من الواضح أن المدنيين لاجئون، وهم يائسون، وليس لديهم أي شيء”. ولكن في الأشهر الأولى من الحرب، “كان هناك كل يوم حادثان أو ثلاثة مع أناس أبرياء أو (أشخاص) يشتبه في أن ’حماس‘ تقوم بإرسالهم كمراقبين”، والذين أطلق الجنود في كتيبته النار عليهم.‏

‏وشهد الجنود بأن جثث فلسطينيين يرتدون ملابس مدنية ظلت متناثرة في جميع أنحاء غزة على طول الطرق والأراضي المفتوحة. وقال (س)، جندي الاحتياط: “كانت المنطقة كلها مليئة بالجثث. وهناك أيضًا كلاب، وأبقار وخيول نجت من التفجيرات، وليس لم يكن لديها مكان تذهب إليه. لا يمكننا إطعامها، ولا نريدها أن تقترب كثيرًا أيضًا. لذلك، كثيرًا ما ترى كلابًا تتجول بأجزاء متعفنة من أجسامها. هناك رائحة موت مروعة”.‏

‏ولكن قبل وصول القوافل الإنسانية، كما أشار (س)، يتم نقل الجثث. “تذهب D-9 (جرافة كاتربيلر)، مع دبابة، وتقوم بتنظيف المنطقة من الجثث، تدفنها تحت الأنقاض، وتقلبها على جانب حتى لا تراها القوافل -(بحيث) لا تظهر صور الأشخاص في مراحل متقدمة من التحلل”، كما وصف. ‏

‏وتابع (س): “رأيت الكثير من المدنيين (الفلسطينيين) -عائلات ونساء وأطفال. هناك وفيات أكثر مما تم الإبلاغ عنه. كنا في منطقة صغيرة. وكل يوم، يُقتل واحد أو اثنان على الأقل (من المدنيين)، (لأنهم) ساروا في منطقة محظورة. لا أعرف من هو الإرهابي ومن ليس كذلك، لكن معظمهم لم يكونوا يحملون أسلحة”.‏

وقال غرين إنه عندما وصل إلى خان يونس في نهاية كانون الأول (ديسمبر)، “رأينا كتلة غير واضحة خارج منزل. أدركنا أنها كانت جثة. رأينا ساقًا. في الليل، أكلتها القطط. ثم جاء أحد ما ونقلها”. ‏

‏كما أفاد مصدر غير عسكري تحدث إلى “مجلة 972+” و”لوكال كول” بعد زيارة شمال غزة بأنه رأى جثثًا متناثرة في جميع أنحاء المنطقة. وقال: “بالقرب من مجمع الجيش بين شمال وجنوب قطاع غزة، رأينا نحو 10 جثث مصابة بطلق ناري في الرأس، على ما يبدو من قناص، أثناء محاولتها العودة إلى الشمال كما يبدو. كانت الجثث تتحلل. وكانت هناك كلاب وقطط من حولها”.‏

وقال (ب) عن الجنود الإسرائيليين في غزة: ‏”إنهم لا يتعاملون مع الجثث. إذا كانت في الطريق، يتم نقلها إلى الجانب. لا يوجد دفن للموتى. كان الجنود على الجثث عن طريق الخطأ”.‏

‏في الشهر الماضي، شهد غاي زاكن، وهو جندي كان يقوم بتشغيل جرافات D-9 في غزة، أمام لجنة الكنيست، بأنه وطاقمه “دهسوا مئات الإرهابيين، أحياء وأمواتا”. وقد انتحر جندي آخر خدم معه في وقت لاحق.‏

‏”قبل أن تغادر، تقوم بحرق المنزل”‏

وصف اثنان من الجنود الذين تمت مقابلتهم أثناء إعداد هذا التقرير كيف أصبح حرق منازل الفلسطينيين ممارسة شائعة بين الجنود الإسرائيليين، كما ورد في تقرير معمق نشرته صحيفة ‏”‏هآرتس”‏‏ أول الأمر في كانون الثاني (يناير). وقد شهد غرين شخصيًا حالتين من هذا القبيل -الأولى مبادرة مستقلة من جندي، والثانية بأوامر من القادة -وكان إحباطه من هذه السياسة هو جزء مما دفعه في النهاية إلى رفض المزيد من الخدمة العسكرية. ‏

‏عندما احتل الجنود المنازل، كما شهد، كانت السياسة هي “إذا غادرت، عليك أن تحرق المنزل”. ولكن بالنسبة لغرين، لم يكن هذا منطقيا: لا يمكن في أي “سيناريو” أن يكون وسط مخيم اللاجئين جزءًا من أي منطقة أمنية إسرائيلية قد تبرر مثل هذا التدمير. وقال: “نحن في هذه المنازل ليس لأنها تابعة لنشطاء حماس، ولكن لأنها تخدمنا عملياتيًا. إنه منزل لعائلتين أو ثلاث عائلات -تدميره يعني أنهم سيكونون بلا مأوى”.‏

‏وتابع غرين: “سألت قائد السرية، الذي قال إنه لا يمكن ترك أي معدات عسكرية في الخلف لدى المغادرة، وأننا لا نريد أن يرى العدو أساليبنا القتالية. قلت أنني يمكن أن أقوم بعملية تفتيش (للتأكد) من عدم ترك (دليل) على الأساليب القتالية في الخلف. وأعطاني (قائد السرية) تفسيرات من عالم الانتقام. قال إنهم كانوا يحرقونها لأنهل لم تكن هناك جرافات D-9 أو عبوات ناسفة من وحدة هندسية (يمكنها تدمير المنزل بوسائل أخرى). لقد تلقى أمرًا ولم يزعجه ذلك”.

‏وكرر (ب) هذه الرواية: “قبل أن تغادر، تقوم بحرق المنزل -كل منزل. وتقوم بالتغذية الراجعة على مستوى قائد الكتيبة. حتى لا يتمكن (الفلسطينيون) من العودة، وإذا تركنا وراءنا أي ذخيرة أو طعام، أن لن يتمكن الإرهابيون من استخدامها”.‏

قبل المغادرة، كان الجنود يكدسون الفرش والأثاث والبطانيات، و”مع بعض الوقود أو اسطوانات الغاز”، كما أشار (ب)، “يحترق المنزل بسهولة، إنه مثل الفرن”. في بداية الغزو البري، كانت سريته تحتل المنازل لبضعة أيام ثم تمضي قدمًا؛ ووفقًا لـ(ب)، فإنهم “أحرقوا مئات المنازل. كانت هناك حالات أشعل فيها الجنود النار في الأرضية، وكان جنود آخرون في طابق أعلى واضطروا إلى الفرار من خلال ألسنة اللهب على الدرج أو اختنقوا بالدخان”.‏

‏وقال غرين إن الدمار الذي خلفه الجيش في غزة “لا يمكن تصوره”. في بداية القتال، على حد قوله، كانوا يتقدمون بين المنازل على بعد 50 مترًا من بعضهم بعضا، والعديد من الجنود “عاملوا المنازل ‏‏(وكأنها) متجر للهدايا‏‏ التذكارية‏‏”، وقاموا بنهب كل ما لم يتمكن سكانها من أخذه معهم.‏

‏وأضاف غرين: “في النهاية أنت تموت من الملل، (بعد) أيام من الانتظار هناك. أنت ترسم على الجدران، أشياء وقحة. تلعب بالملابس، وتعثر على صور جواز السفر التي تركوها، وتقوم بتعليق صورة لشخص ما لأنها مضحكة. استخدمنا كل ما وجدناه: الفرش والطعام، ووجد أحدهم ورقة نقدية من فئة 100 شيكل (حوالي 27 دولارًا) وأخذها”.‏

‏وشهد غرين: “لقد دمرنا كل ما أردنا تدميره. ولم يكن هذا بدافع الرغبة في التدمير، ولكن من مبعث اللامبالاة الكاملة بكل ما يخص (الفلسطينيين). كل يوم، تهدم D-9 المنازل. لم ألتقط صورًا لقبل وبعد، لكنني لن أنسى أبدًا كيف يتم تحويل حي كان جميلاً حقًا… إلى رمال”.‏

‏ولم يرد الجيش الإسرائيلي على طلب للتعليق حتى وقت نشر هذا التقرير.

‏*أورين زيف‏‏ Oren Ziv: صحفي ومعلق سياسي ومصور إسرائيلي. يعمل في ‏‏مجلة “لوكال كول”‏‏ ‏‏و”مجلة 972+”.‏‏ وهو مصور مستقل ‏‏لصحيفة “هآرتس”‏‏ ‏‏و”وكالة الأنباء الفرنسية”‏‏ ‏‏و”غيتي إيماجز”‏‏. ‏

‏زيف هو مؤسس مجموعة المصور الصحفي، Activestills، المعروفة بتصميم اللغة المرئية لـ”لوكال كول”‏‏ على مر السنين. منذ العام 2003، شارك في توثيق القضايا الاجتماعية والسياسية في إسرائيل وفلسطين. انضم إلى ‏‏”لوكال كول”‏‏ كمراسل صحفي في العام 2018، حيث غطى قضايا حقوق الإنسان والحقوق المدنية على نطاق واسع، بما في ذلك موضوعات مثل الاحتلال، والإسكان ميسور التكلفة، والصراعات الاجتماعية والاقتصادية، والاحتجاجات ضد التمييز. تم نشر أعمال زيف في مدونة “Lens” ‏‏في نيويورك تايمز‏‏، ‏‏والجزيرة‏‏، ‏‏وVice (مجلة)‏‏، و‏‏Tablet (مجلة)‏‏، وغيرها.‏‏‏ هاجم المستوطنون الإسرائيليون في ‏‏الخليل‏‏ المحتلة في ‏‏الضفة الغربية‏‏ ‏‏الفلسطينية‏‏ زيف وناشط “كسر الصمت” ‏‏يهودا شاؤول‏‏ والكاتب ‏‏الأيرلندي كولم تويبين‏‏ في العام 2016. يحمل زيف درجة الماجستير في الآداب في البحث/ المعمار الجنائي من ‏‏جامعة جولدسميث‏‏ في ‏‏لندن‏‏.

*نشر هذا التحقيق تحت عنوان: ‘I’m bored, so I shoot’: The Israeli army’s approval of free-for-all violence in Gaza

المصدر: – (مجلة 972+) / الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هذه هي سياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها قوات الإحتلال الصهي.وني [أطلق النار أولاً، واطرح الأسئلة لاحقًا‘. كان هذا هو الإجماع … لن يذرف أحد دمعة إذا سوينا منزلاً بالأرض عندما لم تكن هناك حاجة لذلك، أو إذا أطلقنا النار على شخص لم نكن مضطرين إلى إطلاق النار عليه] كتبها ونطق بها أحد عناصرهم، فهل هناك سلطة لمحاسبتهم؟.

زر الذهاب إلى الأعلى