شجعت الأحداث العنصرية ضد اللاجئين السوريين في قيصري نهاية حزيران (يونيو) وما تلاها من انتفاضة في الشمال السوري الكثير من السوريين المرحلين قسرا من تركيا على التحدث لوسائل الإعلام بشكل ملفت بعد أن فضل اللاجئون لسنوات طويلة الصمت أما خوفا أو محاولة البحث عن طريق للعودة لتركيا أو جعلها طريق عبور نحو أوروبا. لكن الاعتداءات الواسعة على المحلات التجارية والمنازل كسرت حاجز الخوف لدى فئة غير قليلة، وجعلت خيار العودة إلى سوريا وجهتها.
في تلك الأجواء يروي (ط. أحمد) تفاصيل اعتقاله وترحيله من اسطنبول إلى تل أبيض السورية قبل انفجار أحداث قيصري نهاية حزيران (يونيو) الماضي، ويقول في شهادة لـ«القدس العربي» أنه يملك بطاقة تاجر صادرة من غرفة التجارة في اعزاز ويدخل من معبر باب السلامة ويخرج باستمرار، قال: «أوقفتني دورية شرطة مدنية وبعد ابراز بطاقاتهم الأمنية، طلبوا مني الكمليك فأعطيتهم بطاقتي التجارية وأخبرتهم أني غير مقيم في تركيا ولا أملك بطاقة الحماية ورفضوا التعرف على بطاقة التجارة كوثيقة مع انهم قادرون على ذلك باعتبار سيستم وزارة الداخلية موحد» حسب تعبيره، ومن السهولة بمكان التحقق من البطاقة.
جرى اعتقال (ط. أحمد) وسجنه في أحد مخافر منطقة باشاك شهير التي تعتبر تجمعا رئيسيا للعرب من أبناء الطبقة الوسطى، ففيها أكثرية سورية إضافة إلى المصريين والليبيين واليمنيين وباقي الجنسيات العربية التي غادرت بلدانها بحثا عن الأمان بسبب تصدع دولها.
في صباح اليوم التالي نقل (ط. أحمد) وعدد من الموقوفين السوريين إلى مركز الترحيل الشهير في توزلا شرق اسطنبول، وهو في الأساس عدة ملاعب رياضية وغير مجهز ليكون سجنا، يضيف (ط. أحمد) «نقلنا في باص كبير يضم أكثر من 40 سجينا من جنسيات مختلفة أغلبهم من السوريين، وضعونا في ملعب لكرة السلة، مسيج بشبك ولا يوجد سقف يحول بين رؤوسنا والشمس الحارقة، وسواقي مياه الصرف الصحي تحيط بالملعب، يدير السجن الجندرما ويقوم عناصرها بضرب السجناء بطريقة وحشية بالهراوات البلاستيكية بدون أسباب مبررة».
ويصف رحلته الطويلة إلى ولاية اورفا جنوبا بواسطة باص كبير وهم مقيدو الأيدي في رحلة استمرت 18 ساعة «سمح لنا بدخول الحمام مرة واحدة وكل شخصين مكبلين مع بعضهما» وأفاد أنهم «أبطلوا كماليك تعود لثمانية عمال سوريين كانوا يعملون في ورشة خياطة، وأوراقهم صادرة من اسطنبول» وعن مرحلين آخرين قال، «معنا صناعي لديه معمل ألبان واجبان ويحمل إقامة عمل، وآخر لديه شركة في اسطنبول وإقامة عمل أيضا».
وينوه إلى أن المرحلين «أجبروا على البصم على أوراق العودة الطوعية بالقوة، ورغم موافقة البعض على الاستسلام والقبول بالترحيل وأنا منهم، فقد طلبت ترحيلي من معبر باب السلامة الذي دخلت منه إلى تركيا، وكذلك طلب شاب ترحيله إلى محافظة إدلب التي ينحدر منها ويعيش أهله فيها عبر معبر باب الهوى، إلا أنهم رفضوا وجرى ترحيلنا إلى تل أبيض شمال محافظة الرقة التي تسيطر عليها القوات التركية، وهي غير متصلة بباقي مناطق السيطرة التركية». وهنا يبدأ فصل جديد أمام المرحلين، حيث يدفعون مبالغ مالية تصل إلى 800 دولار إلى المهربين ليتمكنوا من عبور مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» والوصول إلى منطقة عمليات «درع الفرات» شمال حلب. ويتعرض بعض الشباب إلى الاعتقال والخضوع للتحقيق في حال ألقت «قسد» القبض عليهم أو يقوم المهربون بابتزاز البعض وعدم إيصالهم إلى مقاصدهم حتى يدفعوا مبالغ إضافية غالبا لا تتوفر مع الشبان، فيستعينون بأصدقائهم وذويهم الذين يقومون بتحويل الأموال إلى مكاتب صرافة وتحويل محددة.
ومن قصص المعاناة الطويلة وانفصال الأسر عن معيلها، قابلت «القدس العربي» عصام (اسم مستعار) وهو صناعي سوري ينحدر من مدينة حلب شمال سوريا، مقيم في تركيا منذ 2016 استقر في مدينة أضنة وأسس مشغلا لصناعة الحلويات، حصل على بطاقة الحماية المؤقتة. جرى ترحيله إلى سوريا بعد سجنه بتهمة الإرهاب مدة 5 شهور لأنه أقل جيرانه إلى منطقة قريبة يقطن بها أقاربهم، على الطريق أوقفت دورية استخبارات السيارة وطلبت «الكماليك» من الركاب، لم يكن يعرف عصام أن جيرانه لا يملكون بطاقات الحماية، وهذا ما تسبب بسجنه ووضع «كود إرهاب» على سجله لدى السلطات الأمنية وفي دائرة الهجرة، وسجن نحو ثلاثة شهور في أحد معسكرات الترحيل، الذي يضم 2900 سجين قبل أن يتم ترحيله إلى سوريا، يقول والدمعة في عينه «سمعت قصصا لسجينات وسجناء يشيب لها شعر الرأس».
بعد وصوله إلى سوريا، حاول عصام العودة بطريقة غير شرعية لتركيا التي ترك فيها زوجته وأطفاله ورزقه «اعتقلتني الجندرما التركية وسُلمت لفرع الشرطة العسكرية في راجو وبقيت فيه سجين إيداع لصالح المخابرات التركية مدة أربعة شهور ونصف بدون محاكمة». بعد خروجه من السجن وجد أمه مسجونة في معسكر للترحيل، ويعزو السبب أن «شخصا مجهولا قد استخرج خطوط هاتف خليوي مستخدما صورة الكمليك العائد لها ويبدو انه قام بأعمال نصب وسرقة واستخدم خطوط الهاتف المسجلة باسمها، وهي امرأة كبيرة في السن لم يشفع لها عمرها من أسقاط التهمة». ترحيل السيدة دفع أولادها وأحفادها إلى الالتحاق بها ومغادرة تركيا ومنهم عائلة عصام نفسه الذي يشكو من عدم مقدرته على إخراج سيارته من الحجز وعدم تمكنه من نقل معدات معمله الصغير إلى داخل سوريا أو بيعها في تركيا.
في سياق منفصل، يرجح ارتفاع أعداد العائدين إلى سوريا بعد ارتفاع وتيرة العنصرية ضدهم في ولاية قيصري وباقي الولايات التركية، وينقسم العائدون إلى فئتين، فئة العائدين بسبب التضييق الأمني وارتفاع إجار المنازل والتضخم في تركيا، حيث أضحت الحياة في غاية الصعوبة خصوصا بالنسبة للأسر التي يعمل أبناؤها عمالا مياومين في البناء والإنشاءات أو في القطاع الخدمي، حيث لا تكفي أجورهم اليومية لسداد أجور منازلهم وإطعام عوائلهم، عدا أن حملات التضييق الأمنية منعت أغلبهم من مزاولة أعماله، باعتبار انهم يخضعون لاستغلال أرباب أعمالهم فلا يستخرجون لهم أذونات العمل القانونية بهدف التهرب من الضرائب الحكومية وعدم الدفع لوزارة المالية والضمان الاجتماعي. والفئة الأخرى هي فئة المرحلين لأسباب مختلفة، غير مقنعة في غالب الأحيان. وتشير الإحصائيات الرسمية في معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا إلى أن عدد العائدين إلى سوريا خلال شهري أيار (مايو) وحزيران (يونيو) بلغ نحو 7700 سوري، بينهم 4129 مرحلا قسريا، ويرجح أن تكون إحصائية المعبر أكثر دقة كونها تعتمد على شهادات العائدين في بياناتها.
وفي عام 2023 بلغ عدد العائدين إلى سوريا من معبر باب الهوى وحده 20319 مواطنا موزعين: 11097 عودة طوعية و9222 ترحيلا قسريا، حسب تصريح مدير المكتب الإعلامي في باب الهوى مازن علوش لـ «القدس العربي» الذي أشار إلى أن عدد العائدين خلال النصف الأول من العام الجاري 24334 مواطنا موزعين على: 11973 عودة طوعية و12361 ترحيلا قسريا، ما يشير إلى تضاعف أعداد السوريين العائدين سواء المرحلين أو العائدين طوعيا.
وحول آخر التحديثات لأرقام العائدين من باب الهوى قال علوش، منذ بداية شهر تموز (يوليو) وحتى ظهر الثلاثاء، بلغ عدد المرحلين من باب الهوى 1144 مواطنا موزعين على: 606 عودة طوعية و538 ترحيلا قسريا.
وحول دقة بيانات إدارة المعبر، لفت إلى وجود «آلية خاصة لا علاقة» لها بالبيانات التركية التي تعتبر كل العائدين هم عائدون عودة طوعية، مضيفاً «لدينا قسم في المعبر اسمه قسم المرحلين، يأخذ إفادة ومعلومات كل شخص مرحل» وأكد أن عمليات الترحيل إلى سوريا تطال جنسيات مختلفة رغم قلتهم. والجدير بالذكر أن السلطات التركية رحلت الفلسطيني الغزاوي بسام كيلاني إلى سوريا مرتين، مرة إلى تل أبيض وأخرى إلى إدلب، وقال كيلاني في مناشدات سابقة انه جرى تغيير جنسيته من فلسطينية إلى سورية.
من جهة أخرى، تتجنب إدارة معبر باب السلامة تفصيل حالات السوريين الذين يدخلون الأراضي السورية، وتصف الجميع بـ «العائدين» دون تمييز بين العائد طوعا أو المرحل قسرياً. وفي حين أحصى المعبر عودة 3238 سوريا خلال شهر أيار (مايو) تجنب إصدار أي معلومات جديدة في شهر حزيران (يونيو) حتى وقت نشر هذا التقرير.
تزايد أعداد المرحلين وعدم استجابة المنظمات الإنسانية لحالتهم دفعت الأهالي في الشمال إلى مبادرات صغيرة ومتنوعة، منها مبادرة أحد مالكي الفنادق المحلية في بلدة سرمدا الذي أعلن عن استقبال المرحلين من تركيا لمدة يومين مجانا، وفي اتصال مع «القدس العربي» قال مالك الفندق محمد طويلو، إن سبب إطلاق دعوته هو كثرة المرحلين والذين لا يجد بعضهم مأوى ولا يملكون أقارب في الشمال السوري، «شاهدت بعضهم يفترشون الطرقات أو الحدائق وهذا ما دفعنا إلى إعلان الاستضافة».
ورغم أن دعوة استضافة المرحلين هي ليومين حسب الإعلان على وسائط التواصل الاجتماعي إلا ان المالك أشار إلى أن بعض العوائل تحتاج وقتا أكثر لترتيب وضعها، خصوصا التي لا تملك معيلا.
نهاية، تتزاحم مجموعات السوريين على «فيسبوك» بعرض أثاث المنازل للبيع خصوصا في اسطنبول والجنوب التركي، ولم يقتصر عرض البيع على أثاث المنازل فبعضهم عرض منزله للبيع بداعي السفر وهؤلاء فئة من حاملي الجنسية التركية، حسب ما رصدت «القدس العربي» وتسعى فئة التجار إلى نقل أسرها وعوائلها إلى بلدات متاحة مثل الإمارات وعمان ومصر. كما تراجع مبيع السيارات المستعملة للسوريين المقيمين في تركيا بشكل واضح وسط توقعات بنقل شرائح واسعة من المستثمرين السوريين استثماراتها لدول أكثر استقرارا غالبها من الدول العربية.
المصدر: القدس العربي