حَفِل الأسبوع الماضي بثلاثة استحقاقات انتخابية تجاوزت أصداؤها الحدودَ الوطنية، وحملت نتائجَ مفاجئةً وذات مغزى، فحواه أنّ الإصلاح يتقدَّم في إحدى الحالات، وأنّ اتّجاهاً أقلّ محافظة يتفوّق على “المحافظين التاريخيين” في حالة ثانية. وأنّ اليسار يَتصدَّر في حالة ثالثة، ما ينبئ بأنّ التاريخ لم ينتهِ، وأنّ الحرَاكات الاجتماعية والسياسية لم تتوقّف، بل تقطف ثماراً لمصلحة كتلٍ شعبيةٍ عريضة، ولغير مصلحة كبار المُتنفّذين هنا وهناك.
أولى هذه الانتخابات هي التي أُجرِيَت في إيران، وأدّت إلى فوز الإصلاحي مسعود بزشكيان على منافسه المحافظ سعيد جليلي. يصف الفائز نفسه، وهو طبيب وبرلماني ووزير سابق، بأنّه “محافظ إصلاحي”، ولعلّه أراد بهذا الوصف طمأنة المحافظين، الذين يستحوذون على مفاصل النظام ومؤسّساته الحيوية، بأنّه، وإنْ ينتسب إلى الإصلاحيين، فإنّه لا يبتعد كثيراً عن دائرة المحافظين، علماً أنّ مواقفه إزاء الشؤون الداخلية كثيراً ما تفترق عن مواقف المحافظين، فقد أعلن مناصرته حقوق الأقلّيات (وهو نفسه ذو أصل تركي أذري)، وحقوق النساء، وحرّية الوصول إلى الإنترنت، إلى جانب وعوده بمكافحة الفساد وتعميم التنمية في جميع المناطق والشرائح الاجتماعية. وحتّى في السياسة الخارجية، الرجل عازم على الانفتاح على العالم، ويضع مصلحة بلاده وشعبه قبل الاعتبارات الأيديولوجية. وبالنظر إلى صلاحياته المحدودة مقارنةً بصلاحيات المُرشد الأعلى علي خامنئي، فإنّ وجوده في رأس الحكم مُنتخباً بالاقتراع المباشر من الشعب يمنحه وزناً معنوياً كبيراً في أنظار الجمهور، ويُدلّل على أنّ الجمهورية الإسلامية تشتمل على تعدّدية فعلية، خلافاً لما يجرى تصويره أنّ هناك منظوراً سياسياً واحداً لكلّ شيء يتشارك فيه الشعب والسلطات العليا، بخاصّة أن بزشكيان ليس الإصلاحي الأول الذي يختاره الشعب، فقد سبقه إلى تمثيل الشعب كلّ من هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وحسن روحاني. ولو تمتّع الإصلاحيون بهامش حرّية أكبر على صعيد الاجتماعات والحضور الإعلامي، لكان حظّهم أكبر في تمثيل الشعب في المؤسّسات التمثيلية، وفي الأخصّ البرلمان، ومعلوم أنّ عدة إصلاحيين قُيّدت حركتهم وحُجبوا عن وسائل الإعلام، وحرموا الاجتماع بكتل اجتماعية، ومن دون أن تُوجّه لهم أيّ اتهامات ذات سند قانوني.
وبينما خسر المحافظون في إيران فرصةَ الاستحواذ على المؤسّسات كلّها، فقد خسر المحافظون في الأثناء، وفي بلد آخر ذي وزن، وهو بريطانيا، استحواذهم على المُؤسّستَين التشريعية والتنفيذية، ومُنيوا بأقسى هزيمة في تاريخهم، وذلك مع فوز حزب العمّال بأغلبية مُريحةٍ لتشكيل حكومة شكّلها بالفعل زعيم حزب العمّال كير ستارمر، الجديد نسبياً في عالم السياسة. يصف كثيرون حزب العمّال بأنّه نُسخةٌ ثانيةٌ عن حزب المحافظين، وهو وصفٌ لا يبتعد كثيراً عن الصواب، غير أنّ “العمّال” يبقى أقلّ مُحافظة من المحافظين. ومع التقديرات الصائبة بأنّ الحكومة العمّالية سوف تلتزم بالثوابت في السياسة الخارجية المتماشية مع التوجّهات الأميركية إزاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأوكرانيا والصين وروسيا، فإنّه، خلافاً لحزب المحافظين، يصعب توقّع مواقف حزب العمّال المستقبلية بصورة تفصيلية إزاء بعض القضايا مثل الموقف من الاحتلال الإسرائيلي، ومن إيران. ولئن كان حزب العمّال لا يبتعد كثيراً عن الاستراتيجية الأميركية، إلّا أنّه يسعى إلى اتّخاذ مواقفَ تعكس قدراً من الاستقلال النسبي. فزعيم الحزب، رئيس الحكومة الجديد كير ستارمر، سبق أن انزلق في مُستهلّ الحرب الإسرائيلية على غزّة إلى تأييد الموقف العدواني الإسرائيلي، لكنّه لم يلبث أن تراجع وأخذ يطالب بوقف لإطلاق النار. والأكثر أهمّية أنّ حزب العمّال يضمّ قاعدةً متنوّعةً في صفوفه، كما هو حال الحزب الديمقراطي في أميركا، ورغم أنّ موقفه بقي في المُحصّلة منحازاً لدولة الاحتلال، وهو ما عاقبه عليه ناخبون عرب ومسلمون بحجب الثقة عنه لمصلحة مُرشّحين مُستقلّين أو لمصلحة مُرشّحين ينتمون للحزب الليبرالي الديمقراطي، إلّا أنّ الحراك بقي مُستمراً داخل الحزب الذي سبق أن جمّد عضوية أعضاء حزبيين ندّدوا بالتوحّش الإسرائيلي، إلّا أنّه اضطرّ لإعادتهم إلى صفوفه، وليس من بينهم، في طبيعة الحال، الزعيم السابق للحزب جيرمي كوربين، الذي ترشّح مُستقلّاً وفاز بمقعد نيابي على حساب مُترشّح لـ”العمّال”. اتٌّهم كوربين زوراً وبهتاناً بمعاداة الساميّة، وهي التهمة الأوتوماتيكية الزائفة في حقّ كلّ من ينتقد السياسة الإسرائيلية.
ويُحسب على ستارمر موقفه البغيض إزاء المسيرات الاحتجاجية على المجازر في غزّة، إذ شكّك فيها. وإلى جانب ذلك، قيادة الحزب أقلّ عداء للمهاجرين، وبالذات الشرق أوسطيّين منهم، وكان لافتاً أنّ أول قرار اتخذه ستارمر كان إلغاء مشروع ترحيل المهاجرين إلى رواندا، الذي أساء لبريطانيا، كما أساء لذلك البلد الأفريقي. وبينما نشطت الصحافة الإسرائيلية في التركيز على زوجة ستارمر اليهودية، وعلى أنّ جزءاً من عائلتها يقيم في أرض فلسطين التاريخية، فإنّ هذه المبادرة من دولة الاحتلال تدلّل على طريقتهم في استغلال الفرص والمسارعة في اقتناصها، والعمل على النفخ فيها، خلافاً لطريقة فلسطينية وعربية ساكنة لا تلتقط الفوارق بين حكومة وأخرى، وتركّز بدلاً من ذلك على المشترك السالب بين الحكومات المتعاقبة إزاء قضايانا بما يُسوّغ العزوف عن بذل أيّ جهد لاستثمار الفوارق والفرص، والسعي لتنميتها.
في بلد أوروبي آخر هو فرنسا، كان تراجع “التجمّع الوطني” إلى المركز الثالث مفاجئاً، بينما كان رموزه يُمنّون النفس بحكم بلاد موليير (1673)، ابتداءً من البرلمان والحكومة، وصولاً إلى رئاسة الجمهورية. غير أنّ المفاجأة الأكبر تمثّلت بتصدّر اليسار هذه الانتخابات، الذي نجح قبيل هذا الاستحقاق في توحيد صفوفه، فيما نجح عشية الانتخابات في تبادل مواقع الترشيح مع كتلة الرئيس إيمانويل ماكرون لضمان هزيمة اليمين المُتطرّف، غير أنّ هذا اليمين نجح في اكتساب مقاعد أكثر رغم خسارته التصدّر. وقد سارع ممثلوه وشركاؤهم إلى وصف كتلة اليسار الفائزة بأنّها تضمّ اليسار المُتطرّف، في محاولة لقذف كرة التطرّف إلى اليسار، مع أنّ الأدبيات السياسية والإعلامية في غالبية أرجاء العالم تحصر التطرّف الفرنسي في اليمين الشعبوي. وبما أنّ السياسة في أحد وجوهها هي اللعب على المُمكنات، فإنّ كتلة ماكرون تسعى إلى شقّ تحالف اليسار بالتصريح بأنّ التفاهم ممكن مع الاشتراكيين والخضر (باستبعاد الشيوعيين وحزب فرنسا الأبية)، ويستغلّ ماكرون، وحزبه النهضة، عدم وجود اتفاق مسبق بين مكوّنات اليسار على شخصية مُحدَّدة لترأّس الحكومة. والتحدّي يكمن في أن يُحافظ اليسار على وحدته ويتمسّك بسياسات مُستقلّة منحازة إلى الجمهور العريض، وغير معادية للمهاجرين وللفرنسيّين من أصول مُسلمة ومُختلفة، وذلك في وجه سياسات مُتقاربة في أوساط اليمين إزاء هذه المسألة، أدّت إلى توسيع القاعدة الاجتماعية لأقصى اليمين.
المصدر: العربي الجديد
ثلاث إنتخابات بنتائج بارزة الأول بإيران :فوز الإصلاحي مسعود بزشكيان وهو طبيب وبرلماني ووزير سابق ذو أصل تركي أذري ، يؤمن بحقوق الأقليات فهل يغير شيئ؟ والثاني ببريطانيا: فوز حزب العمال الكاسح بالإنتخابات على حساب المحافظين، والثالث بفرنسا: فوز لليسار على اليمين المتطرف، نتائح توحي بتغيير للرأي العام بعد الصدمات الأخيرة من حرب غزة وأوكرانيا.