مستبقا لحدث مهم قام النظام السوري ببث إشاعة تناقلتها الألسن بكثرة؛ تفيد بأن موعد إعادة إدلب وباقي المناطق المحررة إلى سيطرته قد اقترب، وأن هذا الأمر سوف يحدث كنتيجة طبيعية للتقارب مع الحكومة التركية، وهو الحدث الذي اعتبره البعض قاب قوسين أو أدنى. ومؤخرا جاءت بعض التصريحات من القيادة التركية لتعزز الشكوك حول إمكانية إجراء المصالحة بين الطرفين، ولكن لماذا أطلقت كل هذه الإشاعات؟ وتحت أي بند سيتم تسليم إدلب وباقي المناطق المحررة؟
العقيدة النظامية الروسية ودورها في حماية النظام
منذ أن تدخلوا في سوريا كان لدى الروس عقيدة فكرية جديدة تسمى “العقيدة النظامية”؛ طرحت في مواجهة إيديولوجيا العولمة، والعقيدة الليبرالية التي يحاول الغرب تعميمها. وتقوم العقيدة النظامية على عدة مرتكزات فكرية، أهمها: أولوية الاستقرار على الديمقراطية، ومعاداة الانفتاح الفكري غير المحدود، والانحياز الإيديولوجي للقانون الدولي، فنظام العولمة يرى أن حل المشكلات العالمية في الوقت الراهن يجب أن يتم على أساس التضامن الدولي حول العقيدة الليبرالية السائدة وليس على أساس نصوص القانون الدولي، وهو ما يجعل تطبيق القانون الدولي مغلفا بالانحياز الإيديولوجي. وعلى هذا الأساس تعتقد روسيا أن حفاظها على النظام السوري سيكون بمنزلة تجذير لعقيدتها الجديدة في العلاقات الدولية الراهنة.
تفاهمات روسية تركية لا ترضي النظام
إذن؛ فإن ما تهتم به روسيا هو بقاء النظام بأي شكل من الأشكال، ومن أجل أن تصل إلى ما تريد بذلت الدبلوماسية الروسية ومازالت تبذل جهودا حثيثة لإعادة تعويم النظام، وهي في أثناء مساعيها تلك تضطر للتعهد للأطراف الأخرى بفرض بعض التنازلات على النظام السوري. من هنا يلاحظ أن النظام السوري يحاول إفشال كل المساعي الروسية؛ لأنه غير مستعد لتقديم أي تنازلات، وغالبا ما كان النظام يلجأ إلى تصريحات عدوانية تأتي على لسان رئيسه شخصيا بهدف عرقلة أي مسار يسوقه إليه الروس. وهو ما يدفع الروس إلى إعادته لنفس المسار تحت الضغط لإجباره على المضي قدما في تنفيذ ما اتفقوا عليه مع الأتراك في هذه الحالة. ولأن النظام لم يعد يستطيع رفض الإملاءات الروسية بدأ البحث عن حلول بديلة لإفشال هذا المسار.
إشاعات ما أنزل الله بها من سلطان
من أجل خلق جو معين؛ أوعز النظام السوري لكل أبواقه ولطابوره الخامس وللدجالين الذين يتنبؤون له بمستقبل زاهر بإطلاق وابل من الإشاعات التي تفيد بمعناها الأخير: إن المصالحة مع تركيا هي بمثابة قبول توبة الأخيرة وقبول اعتذارها، فحسب بعض الإشاعات: سلمت تركيا ألفا وسبعمئة إعلامي معارض للنظام، وتعهدت تركيا بمنع المعارضين المقيمين على أراضيها من السفر تمهيدا لتسليمهم للنظام، وفلان من المعارضين اعتقل وأجبر على التوقيع على تعهد بألا يتحدث بالشأن السوري البتة، كما تعهدت بسحب قواتها من سوريا وتسليم المناطق التي توجد فيها للنظام. وعلى هذا المنوال من الإشاعات التي تثير الذعر في قلوب المعارضين والموالين معا، فالمعارضون عليهم أن يشعروا بأن ساعة الحساب قد اقتربت، وعلى الموالين أن يحمدوا الله أنهم من الفئة الناجية. وفي الحقيقة نجحت الآلة الدعائية للنظام في إشاعة جو من الشك والتوجس والذعر.
تصريحات عززت الشكوك وحدث فجر الموقف
في هذه الأجواء المشحونة تم الإعلان عن افتتاح معبر بين المناطق المحررة والمناطق التي يسيطر عليها النظام. قوبل هذا الإجراء بمظاهرات رافضة؛ لكنها لم تكن كبيرة ولم تكن عنيفة، ولم تكن الرؤية المتشائمة محل إجماع الشارع. إلا أن التصريحات التي صدرت عن القيادة التركية الملمحة لإمكانية الانفتاح على نظام الأسد والتطبيع معه جعلت الأغلبية تنحاز لنظرة المتشائمين، وبالتزامن مع ذلك تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أخبارا وصورا لاعتداء بعض المواطنين الأتراك على ممتلكات السوريين في أحد أحياء مدينة قيصري (غالبا هو حدث مدبر). وهكذا أصبحت البيئة مناسبة لهيجان جماهيري غير واع وغير منضبط. وكان هذا بمنزلة محاولة لعرقلة مسار التطبيع أنجزه النظام السوري بأيدي أعدائه. وبالطبع ما كان لينجح لولا رفض الشارع الثوري لما يخطط له الروس أيضا.
الخلاف حول الديمومة
يعتقد الروس أنهم استطاعوا أن يوصلوا النظام السوري لنصر عسكري بعد أن كان قريبا من السقوط، ومن أجل أن تكتمل أركان النصر يبحثون عن إعادة تعويم الأسد لتكتمل صورة النصر بشقيه العسكري والسياسي، وهم يعتقدون بأن هذا لا يمكن أن يحصل دونما تنازلات. بمعنى آخر؛ هم لا يكترثون ببنية النظام وتركيبته وسلوكه الذي يضمن له الديمومة. ويعتقد أن هذه هي نقطة الخلاف مع الروس، فأركان النظام السوري لا يستطيعون التفكير خارج إطار “الأسد للأبد”، وخارج إطار الانتقام من كل من ثار عليهم أو ساند من ثار عليهم. ونظرة الحقد هذه تبدو شديدة الوضوح لا تحتاج لكثير عناء من الحكومة التركية كي تكتشفها. لذلك، يمكن القول: إنه في سياق هذه الظروف يستحيل أن تسحب تركيا قواتها من مناطق انتشارها.
أخير، لا يمكن تصور أن النظام جاد باستعادة المناطق الخارجة عن سطوته وهي مأهولة بالسكان، فتحت أي بند سيقبل النظام السوري العاجز عن تأمين أدنى متطلبات الحياة للسكان المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها أن يضيف إلى هذا العدد تلك الملايين التي تقيم في المناطق الخارجة عن سيطرته؟
لن يقبل النظام السوري أن يعوم على الطريقة الروسية المشفوعة ببعض الإصلاحات والتنازلات، ويفضل العوم بطريقته الخاصة؛ فهو يعتقد أن ملف اللاجئين كاف لجعل الجميع يتهافت لطلب وده. تماما كما يصور أبواقه المشهد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا