أوجدت الرسائل السياسية المتبادلة أخيراً بين أنقرة ودمشق، بشأن رغبتهما في إصلاح العلاقات، انطباعاً بوجود إرادة مشتركة لتحريك المياه الراكدة في مسار الحوار الثنائي منذ انطلاقه برعاية روسيّة قبل أكثر من عام ونصف العام. ويستمدّ هذا الانطباع قوّته من ثلاثة ظروف مُستجدّة في الصراع السوري، والديناميكيات الإقليمية والدولية المؤثّرة فيه. الأول، يتمثّل في الهاجس المُشترك من انتخابات المجالس المحلّية، التي تعتزم وحدات حماية الشعب الكردية إجراءها في “الإدارة الذاتية” التابعة لها في الشهر المقبل (أغسطس/ آب)، الذي يضغط بشكل متزايد على خيارات تركيا. والثاني، دخول بغداد في خط رعاية الحوار بعد التقارب العراقي التركي، الذي يهدف إلى التعاون بين البلدَين في مكافحة حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق. ويتمثّل الظرف الثالث باقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية وتزايد احتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وآثارها الكبيرة المتوقّعة في مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سورية.
وتعمل هذه الظروف الثلاثة حافزاً قويّاً لأنقرة ودمشق، في الوقت الراهن، لإيلاء أهمّيةٍ للمزايا والمكاسب التي يُمكن أن يحصلا عليها من الشروع في عملية التطبيع. بينما تسعى تركيا إلى توسيع هامش استراتيجيتها الجديدة في مكافحة الحالة الكردية المُسلّحة في سورية والعراق من خلال إشراك بغداد ودمشق في هذه الاستراتيجية. يتطلّع النظام السوري إلى استثمار الهاجس التركي من مشروع الوحدات الكردية من أجل دفع أنقرة إلى إظهار التزام صريح بسحب قواتها من شمال سورية، وممارسة نفوذها على المعارضة السورية لإجبارها على الانخراط في “مصالحة” معه بديلاً من مشروع التسوية السياسية للصراع، فضلاً عن الحصول على مكاسب فورية، على غرار عودة سيطرة الدولة السورية في المعابر الحدودية وفتح الطريق الدولي “M4″، الذي يربط بين مُحافظتي حلب واللاذقية.
ورغم أنّ الرسائل المتبادلة بين أنقرة ودمشق تتمحور حول رغبتهما في إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية، إلّا أنّ هناك قناعةً مشتركةً باستحالة الوصول إلى مثل هذه النتيجة في المستقبل المنظور، لاعتبارات عديدة أهمّها أنّ فكرة التطبيع لا يُمكن أن تتحقّق بأيّ حال طالما أنّ الوجود العسكري التركي في سورية لا يزال قائماً، كما أنّ تخلّي النظام عن شرط قبول تركيا وضعَ جدولٍ زمني لهذا الانسحاب، والاستعاضة عنه بإبداء التزام صريح بالانسحاب، يُشير إلى إدراكه استحالة انسحاب تركي في المستقبل المنظور. في غضون ذلك، لا يمتلك النظام في الوقت الراهن القدرة ولا الرغبة في استعادة السيطرة على المناطق التي تُديرها تركيا في الشمال السوري، وتحمّل التكاليف العسكرية والاقتصادية لإدارتها، خصوصاً أنّ البيئة الرافضة لعودته ستبقى قائمة، وستجلب له مخاطر التورّط في مواجهة حالة تمرّد طويلة الأمد.
علاوة على ذلك، ينظر النظام إلى التطبيع السياسي مع تركيا على أنّه يجلب له ميزة تعزيز شرعيته، ويمنحه دفعةً قويةً في عملية إعادة تأهيله جزءاً من المنظومة الإقليمية، لا سيّما أنّ الدولة التي تسعى للتطبيع معه هي الوحيدة التي لا تزال تدعم المعارضة. في ضوء ذلك، فإنّ المكاسب المتبادلة المُتصوّرة لعملية التطبيع الجزئي تُعزّز فرص إحداث تحوّل كبير في العلاقات التركية السورية، حتّى لو لم يرتقِ على الفور، أو في المستقبل المنظور، إلى مستوى التطبيع الشامل. وبالنسبة لأنقرة، فإنّ مثل هذا التطبيع، ورغم أنّه يوسّع الهامش لديها في هدف تقويض الحالة الكردية المُسلّحة، ويُساعدها في تعزيز موقفها من الولايات المتّحدة حول ملفّ “الوحدات”، إلّا أنّه يفرض عليها تبنّي مقاربةٍ جديدةٍ للصراع توازن بين متطلّباته من تنازلات والحفاظ على عناصر القوّة الرئيسة لدورها، والمتمثّلة في حضورها العسكري وعلاقتها بالبيئة السورية الحاضنة لها. وتُعطي الصدامات الأخيرة بين الجيش التركي ومُسلّحين في مناطق المعارضة لمحةً عن المخاطر الكبيرة المُحيطة بنفوذ تركيا في الشمال السوري نتيجةً لانعطافتها نحو دمشق.
مع ذلك، تُظهر المبادئ العريضة، التي تضعها تركيا لسياستها الجديدة في سورية، أنّها ليست بوارد التفاوض على هذه العناصر قبل تحقيق أهدافها العريضة الثلاثة، المتمثّلة في معالجة هواجسها من مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية، وإعادة اللاجئين السوريين، وتحقيق الحلّ السياسي للصراع. لا ينبغي الإفراط في الرهان على الفرص الجديدة الناشئة في الحوار التركي السوري، كما لا ينبغي التقليل من أهمية الحوافز والمزايا التي يتطلّع إليها كلٌّ من أردوغان والأسد من التوصّل إلى تفاهمات في بعض القضايا المُهمّة لكليهما. وسيُهيمن مبدأ المساومات على العملية التفاوضية، وتتوقّف فرص نجاحها على مدى استعداد كلّ طرف لتقديم ما يحتاجه الآخر منه. لن تتخلّى تركيا عن حضورها العسكري والإداري ولا عن علاقتها بالبيئة السورية الحاضنة لها في الأفق المنظور، لأنّ هذا الحضور وتلك العلاقة يشكّلان ركيزةً أساسيةً في سياستها السورية. وحتّى في الوقت الذي تتركّز فيه أولوياتها على تقويض مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية، لا تزال أنقرة تتعاطى مع حلّ الصراع السوري على أنّه حاجةٌ وليس خياراً.
المصدر: العربي الجديد
هل هناك تطبيع بين أنقرة ودمشق؟ لماذا كل فترة تظهر هذه الدعاية والتحليلات والتصريحات للتقارب وتختفي بدون أي نتائج، البعض يريد هذا التقارب والإنفتاح وخاصة روسيا والبعض ضده وخاصة ايران وأمريكا، لذلك شروط ومتطلبات الطرفين ترتفع وتنخفض وفق الجيوسياسي الإقليمي.