- تبدّدت آمال ما بعد الصهيونية في إسرائيل أكثر ليبرالية وأقل استعمارية، وتبيّن أنها تستند إلى تحليلٍ وهمي لكلٍّ من دور الولايات المتّحدة في المنطقة وتأثيرها الحقيقي على إسرائيل. من الواضح إذن أنه يجب التمييز بين مقولات السلام الأميركي وإنهاء الاستعمار من الناحية المفاهيمية وفكّ الارتباط بين العولمة والتحرّر السياسي. في الواقع، تميل هيمنة الولايات المتّحدة وأصولية السوق إلى تغذية الأصولية الدينية وليس تغذية القيم الليبرالية.
- كانت النخبة العربية تخشى الراديكالية العربية أكثر ممّا تخشى وجود إسرائيل: فقد تبيّن أن التناقض الظاهر بين مصالح الولايات المتّحدة النفطية ودعم إسرائيل لم يكن تناقضاً على الإطلاق. فقد تحالفا موضوعياً وعملتا على تحقيق الهدف نفسه: الاستقلال والديمقراطية المعادية للعرب، وسُلطوية العرب الموالية والمعتمدة على الولايات المتّحدة.
أغلب الظن أن قارئ العدد الأخير من مجلّة «الدراسات الإسرائيلية» المُخصَّص لـ «أَمْرَكة إسرائيل» سوف يستنتج أن التبادل الثقافي والديني يُشكِّل الجانب الأهمّ في العلاقات الأميركية الإسرائيلية.
ومهما تَكُنْ قيمة هذه الطريقة في استقصاء الروابط الهامة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل، إلا أنها تفتقر إلى الكفاءة اللازمة لمعالجة البعد الرئيسي للعلاقات الأميركية-الإسرائيلية: وهو دعم الدولة الأميركية للاستعمار الإسرائيلي. وتشتمل الأسئلة التي لم تُطرح قَطّ على ما يلي: ما الذي يعنيه الدعم الأميركي لإسرائيل حقّاً بالقياسِ إلى الدولة الإسرائيلية؟ ما الذي تعزّز من قدرات الدولة وما الذي تقلّص بفعل هذا الدعم، وبالأساس، هل هو القوّة أم السلام؟ وعلى أي نحو أثّر ذلك على المجتمع الإسرائيلي واقتصاده عموماً؟ تستلزم الإجابة على هذه الأسئلة تحديد طبيعة التدخّل الأميركي في الصراع بين إسرائيل وفلسطين، واستجلاء نوع السياسات والأهداف التي سمحت الدولة الأميركية للدولة الإسرائيلية باتباعها. وسوف يتضمّن ذلك إثارة شبح إسرائيل بوصفها قوة استعمارية واحتلالية، وهو ما يبدو أن مختلف المساهمين في مجلّة «الدراسات الإسرائيلية» غير راغبين في القيام به. إن الكولونيالية والاحتلالية بعيدان كل البعد عن الاهتمامات السائدة في الأكاديمية الإسرائيلية. قد يبدو هذا غريباً بالنظر إلى أن كلتا الممارستين حدّدَتا تاريخ إسرائيل منذ العام 1967 إن لم يكن قبل ذلك. ومع ذلك، فليس من المستغرب أن نأخذ بالاعتبار أن الأكاديمية الإسرائيلية تعكس في هذا السياق مواقف المجتمع الإسرائيلي الأوسع، أي أن التملّص الأكاديمي يعكس الإنكار واللامبالاة الشعبية.
أُطلق على مجموعة الأكاديميين الذين استطاعوا الانشقاق عن هذا الإجماع الوطني الخانق وصف ما بعد الصهيونية. وعلى الرغم من أنه لا يشير بأي حال من الأحوال إلى اتجاه موّحد أو متجانس من الناحية السياسية، فقد أصبح اتجاه ما بعد الصهيونية رمزاً على اشتباك نقدي معيّن مع التاريخ والمجتمع الإسرائيليين أدّى إلى إعادة النظر في «الأساطير المؤسّسة» لإسرائيل وأيديولوجيتها. وهو يُعرّف عموماً على النحو التالي: «بصورة عامّة، ينطبق مصطلح ما بعد الصهيونية على مجموعة حالية من المواقف النقدية التي تثير مسألة الخطاب الصهيوني فضلاً عن السرديات التاريخية والتمثيلات الاجتماعية والثقافية التي أنتجها»، وتميط اللثام بالتالي عن زيف الروايات الصهيونية الموروثة عن التاريخ والمجتمع الإسرائيلي.
وقد انصبّت مساهمتهم الرئيسية في مجال التاريخ على تحليل «أسباب وطبيعة ومسار الصراع العربي الإسرائيلي»، حيث قاموا بمقارعة التأريخ الصهيوني وإثبات بطلانه. وبالاستناد إلى الأبحاث المتكئة على الأرشيفات الإسرائيلية التي فُتِحتْ مؤخراً، يُبيّن هذا التاريخ النقدي بوضوح كيف طُرد الفلسطينيين فعلاً في العام 1948، وأن الجيوش العربية الغازية لم تطالبهم بالمغادرة على نحو ما تُشيع الدعاية الإسرائيلية؛ لم تهدف الجيوش العربية قَطّ إلى «تحرير» فلسطين، تواطأ الأردن مع الصهاينة لتقسيمها؛ تجنّبت إسرائيل السلام وتسوية «مشكلة اللاجئين» باستمرار في كل فرصة سنحت لها في خلال السنوات الأولى؛ وأخيراً، كانت إسرائيل دائماً الجانب الأقوى في الصراع والطرف المسؤول عن حرمان الفلسطينيين من حقوقهم واستعادة حقوقهم الوطنية. تعكس الصورة التي ترتسم هنا التصوُّر الثابت عن الضحايا والجناة، التي يُنظر بموجبها إلى إسرائيل على أنها المجرمة بحق الفلسطينيين. وقد لخَّص إدوارد سعيد المساهمة الجماعية لهذا الاتجاه النقدي بالعبارات التالية: «من المؤكّد أن الأهمية السياسية الكبرى للمؤرّخين الإسرائيليين الجدد اليوم تكمن في أنهم أكدوا ما ردّدته أجيال من الفلسطينيين، سواء المؤرّخين أو غيرهم، عن ماذا حدث لنا كشعب على يد إسرائيل». وينطبق هذا الحكم كذلك على علماء الاجتماع الناقدين الجدد في إسرائيل.
في مجال علم الاجتماع، خضع التاريخ والمجتمع اليهودي الإسرائيلي للفحص للمرّة الأولى من دون غمائم الخصوصية اليهودية والاستثنائية الإسرائيلية. وكان التقدّم الحاسم المتحقّق هنا هو تحليل إسرائيل كدولة ومجتمع استعماري استيطاني، سواء من جهة الأسس أو من جهة الممارسة المستمرّة. ويصوّر هذا الأدب الموسوم باسم «نموذج الاستعمار» إسرائيل «كمجتمع استعماري استيطاني مدفوع بالحاجة إلى الاستيلاء على الأراضي وضغوط سوق العمل، وينظر إلى الصراع الإسرائيلي العربي باعتباره العامل الحاسم في تشكيل المجتمع الإسرائيلي». وقد تركّز هذا البحث، بقيادة باروخ كيمرلينغ وغيِرشون شافير، على رسم السمات المحدّدة للاستعمارِ اليهودي في فلسطين ومقارنته بغيره كما في أميركا وجنوب أفريقيا. وبالتالي يتعيّن النظر إلى الاستعمار اليهودي على أنه «مثال متأخّر للتوسّع الأوروبي الخارجي». وهو يتّسم بالسمات المائزة التالية: الانتزاع اليهودي للأرض والعمل؛ الاستكشاف والاستيطان؛ الحقوق التاريخية التوراتية كسَنَدٍ؛ وتأسيس ما يسميه أفيخاي إرليخ «مجتمع الحرب الدائمة». فقد أظهر شافير، على سبيل المثال، كيف أعطى فشل الاستيطان الرأسمالي في فلسطين زخماً للأيديولوجية والممارسة الصهيونية العمّالية، حيث كان العمّال اليهود يقودون الاستعمار الوطني ويدعمه رأس المال اليهودي تحت قيادة النخب البيروقراطية الاستعمارية. وبالتالي فإن الأمة في الصهيونية تظهر من هذا البحث كعنصرٍ جوهري ومُحدِّد. وتعمل الأولوية القومية على خنقِ الصراع الطبقي، وإسكات المعارضة والديمقراطية الداخلية، وتهميش التضامن الاجتماعي والمساواة، بينما يغزو الصهاينة فلسطين ويستولون عليها. ومن ثم يُنظر إلى إسرائيل على أنها دولة استعمارية قومية: حيث يمثّل الاستعمار العنصر الأساسي في تشكيل الدولة وتأسيس الأمة، والمحدِّد لتوزيع السلطة والحقوق والامتيازات في إسرائيل حتى يومنا هذا.
إذن، للمرّة الأولى في تاريخ إسرائيل، أصبح الاستعمار موضوعاً جدّياً للبحث والفحص الأكاديمي. يمكن الآن تحليل ودراسة الاقتصاد والتاريخ والسياسة والمجتمع الإسرائيلي باستخدام نموذج الاستعمار. لكن من الأهمّية بمكان أن نلاحظ هنا أن الأكاديميا لم تكن رائدة على هذه الجبهة. فمثل هذا التحليل موجود خارج نطاق الأكاديميا منذ أوائل الستينيات على الأقل في إسرائيل. وكما لاحظ أوري رام: «إن أجندة مجموعة متسبين (المنظّمة الاشتراكية الإسرائيلية) تجسّد ظهور منظور استعماري واضح في المجتمع الإسرائيلي». تأسّست منظمة متسبين («البوصلة» بالعبرية) في العام 1962، وكانت منشقّة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان قريباً بصورة خاصة من النشطاء الفلسطينيين الراديكاليين والشيوعيين داخل إسرائيل، ومناهضة للستالينية والصهيونية. وفي المجمل أطلقت تحليل «إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية»، وواصلت تطويره في مجلّتها «خمسين: مجلّة الاشتراكيين الثوريين في الشرق الأوسط» التي تصدر من لندن، حيث استقر العديد من أعضائها نتيجة اضطهاد الدولة وقمعها. ويمكن الحصول على عيّنةٍ من أهم مساهماتهم ضمن مقال بعنوان «الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي»، وهو مقال نشروه في مجلّة New Left Review في العام 1971. وهنا تظهر بوضوح محاور الاهتمام نفسها التي أبداها علماء الاجتماع النقديون في الثمانينيات: الاستعمار العمّالي، التعاون الطبقي في الصهيونية والسيطرة البيروقراطية:
«إن المجتمع الإسرائيلي ليس مجرد مجتمع مهاجرين؛ بل هو مجتمع استيطاني. تَشكّل هذا المجتمع، بما في ذلك الطبقة العاملة، من خلال عملية الاستعمار. إن الصراع الدائم بين مجتمع المستوطنين والعرب الفلسطينيين الأصليين النازحين لم يتوقف قَطّ، بل وقد شكّل بنية علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد الإسرائيلي ذاته.
في إسرائيل، لم تكن الأيديولوجية السائدة رأسمالية قَطّ؛ لقد كانت مزيجاً من العناصر البرجوازية الممزوجة بالموضوعات والأفكار السائدة النموذجية للحركة العمّالية الصهيونية، وهي أفكار مستمدّة من الحركة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، بيد أنها تحوّرت للتعبير عن أهداف الصهيونية السياسية».
من الواضح أن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين علماء الاجتماع في الثمانينيات ومتسبين في الستينيات. وهذا اعتراف مهمّ بصرامتها النقدية. بيد أن هناك اختلاف حاسم بين الطرفين: ألا وهو تحليلهما للنفوذ الغربي في المنطقة بعد تأسيس إسرائيل في العام 1948. وبالنسبة لمتسبين، يتخذ النفوذ الغربي شكل الإمبريالية ويشكّل أساس صنع إسرائيل وصوْغ دورها في المنطقة. ولا يمكن فهم سياسة إسرائيل تجاه العرب والفلسطينيين في مجملها من دون الأخذ بالاعتبار دور ومصالح القوى الغربية، كما تؤكّد متسبين:
«من الواضح أنه لا يمكن استنتاج سياسات إسرائيل الخارجية والعسكرية من ديناميات الصراعات الاجتماعية الداخلية وحدها. إن الاقتصاد الإسرائيلي بالكامل يقوم على الدور السياسي والعسكري الخاص الذي تؤديه الصهيونية، ومجتمع المستوطنين، في الشرق الأوسط ككل. وإذا نظر إلى إسرائيل بمعزلٍ عن بقية الشرق الأوسط، فليس هناك ما يفسر حقيقة أن 70% من تدفقات رأس المال لا يستهدف تحقيق مكاسب اقتصادية ولا يخضع لاعتبارات الربحية».
نتيجة الدعم الإمبريالي إذن، وبالنظر إلى دور إسرائيل كرقيبٍ على المصالح الأميركية في المنطقة بعد العام 1967: تعد «إسرائيل حالة فريدة من نوعها في الشرق الأوسط؛ فهي مموّلة من الإمبريالية من دون أن تستغلها اقتصادياً. في حين كان هذا هو الحال دائماً في الماضي. لقد استخدمت الإمبريالية إسرائيل لأغراضها السياسية ودفعت ثمن ذلك دعماً اقتصادياً».
لا يوجد أي سبب على الإطلاق لنستنتج من هذا التحليل أن كل ما يبدر عن إسرائيل ناتج عن الضغوط الخارجية أو المصالح الأجنبية لكي نتمكّن من تقدير العلاقة الهامّة التي تقيمها متسبين بين الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. وهذا هو في الجديد في حجّتهم: فهي تجمع بين العوامل الخارجية والداخلية المحدّدة في تحليل أهداف الدولة الإسرائيلية والديناميات الاجتماعية. وبالتالي، يُنظر إلى إسرائيل على أنها مشروع استعماري صهيوني يتماشى جوهرياً مع المصالح الغربية في المنطقة: حيث تعمل القوى الغربية على الحفاظ على بنية الدولة الإسرائيلية ومشروعها الاستعماري بالتزامن مع تحقّق الأهداف الغربية. أتاح هذا التكوين الجيوسياسي المتسق لإسرائيل الفرص (لتجنّب التراجع عن التوسّع الاستعماري) والقيود (استعدادها ورغبتها في حماية المصالح الغربية الحيوية في المنطقة): تشكّل حرب 1956 وحرب 1967 معالم مهمّة لهذا النمط (كما سأبيّن أدناه).
بيد أنه في خلال الانتقال من الستينيات إلى الثمانينيات، أُسقِط الجزء المتعلّق بـ«الإمبريالية الغربية» من «نموذج الاستعمار». ومع تطوّر فكرة «إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية» أكاديمياً، فقد دعم الإمبريالية الأميركية ومؤازرتها لإسرائيل قيمته التأسيسية في تحليل السياسة الإسرائيلية. وفي الواقع، طُرِح تقييم إيجابي لدور الولايات المتّحدة في المنطقة بدلاً من ذلك.
ومن منظور ما بعد الصهيونية، لا يمكن للولايات المتّحدة أن ترتكب أي خطأ؛ إنها في الواقع نموذج يُحتذى ودولة ينبغي على إسرائيل أن تطمح لأن تصير إليها. وعلى الرغم من انتقادهم لأسس إسرائيل وممارساتها الدائمة، لم ينتقد اتجاه ما بعد الصهيونية الولايات المتّحدة بحد ذاتها. يمثل مقال «إلفيس في القدس: ما بعد الصهيونية وأمْرَكة إسرائيل» لتوم سيجيف مثالاً ممتازاً في هذا الصدد. إن سيجيف، وهو مؤرّخ مستقل لعب دوراً محورياً في تحطيم «أسطورة تأسيس إسرائيل» وتوثيق إساءة استخدامها للمحرقة، قد تغافل تماماً عن طرح مسألة ما إذا كان للعلاقات الأميركية-الإسرائيلية آثار سلبية خطيرة على إسرائيل أو أنها أدّت إلى ترسيخ الاستعمار الذي ترعاه الدولة في الأراضي المحتلّة. هناك علاقة قوية في عمله بين الأمْرَكة، وتآكل الأشكال القديمة للقيم الجماعية الصهيونية، وتحرير الفرد من الهياكل المقيّدة. ويقول إن إسرائيل أصبحت أشبه بالولايات المتّحدة في المعايير السياسية والاجتماعية والثقافية. لقد تأمركت وسائل الإعلام الإسرائيلية، وكذلك حركاتها الاحتجاجية (التي يقارنها بحركات الاحتجاج الأميركية في الستينيات)، والتعددية الثقافية، ونشاطها الحقوقي الجديد في مجال الحقوق المدنية، وثقافتها السياسية. ويبدو أن إحدى الروابط الحاسمة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل والتي يستمر أنصار ما بعد الصهيونية مثل سيجيف في تكرارها تبدو مركزية في نظرتهم للعالم: الولايات المتّحدة مفيدة لإسرائيل نظراً لأنها تدفع إسرائيل إلى التسوية والتكيّف مع المنطقة وصنع السلام. ويعبّر سيجيف عن الأمر على هذا النحو:
«هذه الروح الأميركية المحبّة للسلام، التي أنتجت اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، ستقود الناس فيما بعد إلى الشعور بأنهم قد ضاقوا ذرعاً باحتلال الضفّة الغربية وقطاع غزّة [الذي يستمر بمعجزة]، كما أدّت إلى انسحاب إسرائيل الأحادي الجانب من لبنان في العام 2000 [وليس بفعل مقاومة حزب الله]، وتوقيع اتفاقيات السلام مع مصر والأردن والاتفاقيات بين إسرائيل والفلسطينيين تحت رعاية الولايات المتّحدة وبسبب المشاركة الشخصية المكثّفة للرئيس الحالي [وليس نتيجة لحرب أكتوبر/يوم الغفران في العام 1973، أي الاستعداد العربي لاستخدام القوة]. لقد أصبحت كل هذه الاتفاقيات ممكنة، إلى حد كبير، بسبب رغبة الشعب الأميركي في تمويلها. كما أنها تعكس اعتماد إسرائيل على الولايات المّتحدة، وعمق التغلغل الأميركي في جميع مجالات الحياة الإسرائيلية».
الصورة التي يرسمها سيجيف هنا مثالية إلى أقصى الحدود: بعد الستينيات، طوّرت الولايات المّتحدة ثقافة السلام، وانشغلت بنشرها في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين: لا توجد مصالح استراتيجية أو اعتبارات جيوسياسية أو حروب ذات صلة. وفي عالم سيجيف، يبدو أن هذه العوامل المادية ليس لها دور تلعبه في الوجود الأميركي في الشرق الأوسط.
وبنظر رموز ما بعد الصهيونية، فإن العلاقة بين الولايات المتحدة والسلام قويّة وسائدة. يمثّل السلام مع مصر رمزاً للتدخّل الأميركي في المنطقة، ويولّد «وهماً سياسياً» معيّناً في إسرائيل (وكذلك بالنسبة للفلسطينيين، كما أبيّن أدناه) مفاده أن الولايات المتّحدة مهتمة بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي كما كانت مهتمة بمبادلة ردّ سيناء إلى مصر بالسلام المصري مع إسرائيل. وما لا يستحق التقدير هنا على الإطلاق هو أن كامب ديفيد (إرغام إسرائيل على التراجع عن احتلالها سيناء، أي إنهاء استعمارها في سيناء) يشكّل الاستثناء وليس القاعدة، (كما سأبيّن أدناه)، وقد تحقّق في الأساس بسبب استخدام مصر للقوة الهائلة في حرب العام 1973. وعلى هذا فإن أنصار ما بعد الصهيونية يهملون المظاهر الفريدة للتسوية السلمية المصرية الإسرائيلية. كما أنهم فشلوا فشلاً واضحاً في إدراك حجم التعدّي والإنكار التام للحقوق الفلسطينية. وفي أعقاب كامب ديفيد مباشرة، عبّر فايز صائغ عن ذلك بشكل جيّد: «يضفي إطار كامب ديفيد الشرعية الأميركية المصرية على استمرار الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية لسنوات مقبلة». فهو يسمح لإسرائيل بالحفاظ على المستوطنات وتوسيعها في الأراضي المحتلة، ويترك الفلسطينيين بلا أي حق في تقرير المصير أو السيادة: قد يحصل قِسمٌ من الشعب الفلسطيني (أقل من ثلث مجموع السكان) على جزءٍ بسيط من حقوقه (لا يشمل حقّه الأصيل في تقرير المصير وإقامة الدولة) على جزء صغير من وطنه (أقل من خمس المساحة الكلية)». ما من سلام هنا، لا يوجد سوى المزيد من المعاناة والتشتت والاحتلال.
ومع توقيع اتفاقية «أوسلو» بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، برز الربط نفسه بين الولايات المتّحدة والسلام، وتارة أخرى بين أنصار ما بعد الصهيونية، على الرغم من أن الجهات الفاعلة والقوى والظروف هنا مختلفة تماماً. يرى غيرشون شافير ويواف بيليد أن «أوسلو» هي فترة السلام الأميركي الدائم وإنهاء الاستعمار. وهذا يرسي الأساس لقراءتهما لفترة التسعينيات في إسرائيل: حيث يجادلان بأنه لا سبيل إلى فصل التحرير الاقتصادي عن التحرير السياسي وإنهاء الاحتلال (وهي كلمة لم تذكر قَطّ في اتفاقيات أوسلو). وفي تأييدٍ غير نقدي لرؤية بوش الأب عن النظام العالمي الجديد باعتباره عهداً للسلام والرخاء للجميع، يؤكّد شافير وبيِليد على ما يلي: «من ثم يمكن النظر إلى كل من العولمة وإنهاء الاستعمار على أنهما يشتركان في هدف استبدال الآليات والقوى السياسية، المرتبطة بالأمة والدولة القومية، بروابط مالية وتجارية تعبّر عن قوى عالمية».
وبالتالي فإن المجتمع الإقصائي والاستبعاديّ الذي أسسته الصهيونية في طريقه إلى الزوال، حيث يُستبدل ببطء بأمةٍ متحرّرة اقتصادياً وسياسياً. ويؤدّي مجتمع الأعمال الإسرائيلي دوراً قيادياً في «كتلة السلام والخصخصة النيوليبرالية الجديدة»: «إن القيم الاقتصادية الليبرالية لمجتمع الأعمال الإسرائيلي تتناسب مع مفهوم المواطنة الليبرالي مقارنة بالمفهوم العرقي الجمهوري للفضيلة المدنية الرائدة. وهكذا، كان روّاد الأعمال هؤلاء يروّجون للإصلاحات الليبرالية ليس في الاقتصاد فحسب، وإنما في مجال الحقوق المدنية، والنظام الانتخابي، والرعاية الصحية، والتعليم، والاتصال الجماهيري، وغيرها من مجالات الحياة الاجتماعية. ويضع ذلك روّاد الأعمال الإسرائيليين في موقف المساهمة في «تحرير الفلسطينيين غير المواطنين المقيمين في الأراضي المحتلّة».
وقد عبّر أوري رام عن رمز هذه العملية الثلاثية المتمثلة في الخصخصة الاقتصادية والتحرير السياسي والسلام: يكشف كتيب لحركة «السلام الآن» يعود إلى فترة اتفاقية «أوسلو» عن الصلة بين السلام والازدهار. تقول الكراسة: «من بذار السلام سيزدهر نموكم الاقتصادي». الكتيب مزيّن بشكل زهرة مُشكلّة من ورقة الدولار الأميركي. ترمز الزهرة إلى التموضع والحياة وعولمة الدولار والثروة. إن «زهرة الدولار» تجسّد بدقّة الموقف ما بعد الصهيوني، بينما تحجب حقيقة أن «أوسلو» لم تكن تهدف إلى إنهاء الاستعمار ولا إلى إنهاء الصراع، ولا إلى السيادة الفلسطينية، ولا إلى وقف الاستيطان.
إن ميرون بنفينيسيِتي، نائب رئيس بلدية القدس السابق والمساهم في صحيفة «هآرتس»، قد أدرك ذلك منذ البداية. وبدلاً من قراءة أوسلو من منظور ما بعد القومية والعولمة، قال بشكلٍ لا لبس فيه عند مراجعة الاتفاقية: «لا يمكن للمرء إلّا أن يدرك أن النصر الإسرائيلي كان مطلقاً وأن الفلسطينيين هُزِموا هزيمة نكراء». وهنا لا نستطيع أن نخفّف من حدّة القومية الإسرائيلية: النصر الكامل في مقابل الاستسلام الكامل. القومية الأولى تنهض، فيما تسقط الأخرى.
إن عالم الاجتماع السياسي الوحيد الذي عارَض الربط ما بعد الصهيوني بين الولايات المتّحدة والسلام والاستقرار الاقتصادي والتحرّر السياسي هو أفيخاي إيرليك. قام إيرليك بتحديث وتطوير علاقة متسبين بين الإمبريالية الأميركية والاستعمار الإسرائيلي، وجادل بأن ما بعد الصهيونية لا تزيد عن «نسخة محلّية من العولمة الأيديولوجية الأميركية». وهو يختلف بشدّة مع جميع المقدّمات الأساسية لهذا النهج: نهاية الصراع، وسلام طبقة رجال الأعمال، والمزيد من الديمقراطية والعلمانية وتقلُّص المركزية اليهودية، وتضاؤل دور الدولة القومية. يقرأ إيرليك الاختزالية والاقتصادوية الفجّة في سردية ما بعد الصهيونية في خلال التسعينيات. ويؤكّد أنه لا وجود لسلام أو استقرار أو تحرّر في ظل الهيمنة الأميركية. سوف يستعر الصراع بالفعل، وهذا ما سيدركه الجميع مع اندلاع انتفاضة الأقصى، التي ستشكّل نهاية ما بعد الصهيونية.
وإذا كان سيجيف يلقي باللائمة في ذلك على «الإرهاب الفلسطيني»، فإن شافير وبيليد يبدوان هنا أكثر حذراً وعلى درايةٍ بمسؤولية الاستعمار الإسرائيلي: «تتمثل العلامة الواضحة الدّالة على أن الدافع الاستعماري لم يستنفذ نفسه بعد في تضاعف عدد المستوطنين الإسرائيليين». وهو ما شكّل أحد الأسباب الرئيسة لاستئناف الانتفاضة في أيلول/سبتمبر 2000، والتي كان من المفترض أن تضع اتفاقية «أوسلو» حدّاً لها.
وهكذا فإن قراءة إيرليك المهمّة تقول إنه في ظل السلام الذي ترعاه الولايات المتّحدة، تتوطّد الصهيونية الاستعمارية وتترسّخ، وتضع حدّاً لعهديْ حزب العمّال والصهيونية النقدية، وتُحوّل الصهيونية إلى دين سياسي: «لقد تمّ استبدال كلتا [السردْيتين] بالدين كمصدر للشرعية السياسية لدولة إسرائيل واستمرار سيطرتها واستعمارها لفلسطين بأكملها». يشير الدين السياسي إلى استخدام الدين لشرح تماسك وخصوصية روح الشعب، تاريخه وأخلاقيّاته؛ إنه استخدام الدين كذريعةٍ للمطالبة بالأرض وتبرير الإجراءات السياسية للدفاع عن المشروع القومي». وهكذا تبدّدت آمال ما بعد الصهيونية في إسرائيل أكثر ليبرالية وأقل استعمارية. وتبيّن أنها تستند إلى تحليلٍ وهمي لكلٍّ من دور الولايات المتّحدة في المنطقة وتأثيرها الحقيقي على إسرائيل. من الواضح إذن أنه يجب التمييز بين مقولات السلام الأميركي وإنهاء الاستعمار من الناحية المفاهيمية وفكّ الارتباط بين العولمة والتحرّر السياسي. في الواقع، تميل هيمنة الولايات المتّحدة وأصولية السوق إلى تغذية الأصولية الدينية وليس تغذية القيم الليبرالية.
ينحصر هدفي مما يلي في توضيح السبب في كَوْن هذه المجموعة من التطوّرات لم تكن غير متوقّعة أو مفاجئة. منذ العام 1967، عملت الإمبريالية الأميركية والاستعمار الإسرائيلي، كما أعتقد، جنباً إلى جنب من أجل تحقيق أهداف قومية إسرائيلية وأميركية. وهذا هو الاستنتاج المعقول الوحيد الذي يمكن استخلاصه من النظرة الفاحصة على تاريخ الولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما سوف أتناوله لاحقاً. ومن خلال تحليل جذور وأسباب الدعم الأميركي لإسرائيل، وديناميّته، وقيوده، وعواقبه الرئيسة، أهدف إلى إظهار كيف أصبحت مصالح واشنطن في الشرق الأوسط تتسق مع دعم الدولة اليهودية والدفاع عن أهدافها الاستعمارية. تنطلق حجتي على النحو التالي: أقوم أولاً بتحديد ماهية المصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة تاريخياً، وعلى أي نحوٍ تطوّرت مع مرور الوقت. ثم أواصل بعد ذلك استخدام بنية المصالح الإمبريالية الأميركية الدائمة هذه من أجل شرح جوهر الإستراتيجية الأميركية أثناء وبعد الحرب الباردة، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، وتسليط الضوء على مدى أهمية إسرائيل بالنسبة لحضور الإمبراطورية الأميركية في العالم العربي. وقبل أن اختتم بوصفٍ موجز للتداعيات المعاصرة للإمبراطورية الأميركية في إسرائيل وفلسطين على وجه التحديد، أتتبع الآثار العميقة التي خلفها الاعتماد الإسرائيلي على دعم واشنطن على الأيديولوجية والمجتمع الإسرائيلي.
وآمل أن يُظهر هذا بوضوح سبب اعتقادي بضرورةِ توسيع المشاركة التحليلية النقدية المنصبّة على إسرائيل من جانب الأكاديميين الممارسين لـ«نموذج الاستعمار» في العلاقات الأميركية الإسرائيلية. نجح اتجاه ما بعد الصهيونية في إدخال الصراع العربي الإسرائيلي كعامل أساسي في تحليل الدولة والمجتمع الإسرائيليين، وكان ذلك أعظم إنجازاتها. لقد حان الوقت لتوسيع هذا الإطار النظري ليشمل العلاقات بين «الإمبريالية الأميركية القائمة فعلاً» و«الاستعمار الإسرائيلي القائم فعلاً» في فترة ما بعد العام 1967. وبالتالي، ينبغي النظر إلى الإمبريالية الأميركية على أنها عامل جوهري في تشكيل وتطوير الصراع العربي الإسرائيلي وبنية النظام السياسي الإسرائيلي. ويتعلّق الأمر هنا بتقليدٍ غني ومُتنامٍ من التحليل والنقد الراديكالي الذي جسّدته متسبين في إسرائيل وجسّده سعيد ورُودنسون وتشومسكي في الغرب. لن يؤدّي استخدام نموذج «الإمبريالية-الاستعمار» إلى التقدير الدقيق للعلاقات الأميركية الإسرائيلية والمصالح الأميركية في العالم العربي فحسب، بل من شأنه أن يساهم بشكلٍ فعّال في فتح مساحة عامّة للتفكير النقدي والنقاش عن الولايات المتحدة في إسرائيل، وهي الدولة التي تبدو وكأنها المعقل الأخير للنظرة المثالية غير النقدية إلى القوة العالمية للولايات المتحدة والتماثل معها. وكما يقول سيجيف: «إن القصة الكاملة لأمركة إسرائيل لم تُروَ بعد، على الرغم من كونها قصة محورية في تاريخ البلاد». وأملي أن يساعد ما يلي في هذه العملية.
الإمبريالية الأميركية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي
يجب أن يكون النفط نقطة الانطلاق لتحليل التدخّل الأميركي في المنطقة. لم يقُم أحد بتبيان هذه النقطة بشكل أفضل ولفترة أطول من نعوم تشومسكي: «لقد كان المبدأ الأساسي للشؤون الدولية منذ الحرب العالمية الثانية يتلخّص في أن احتياطيات الطاقة في الشرق الأوسط تشكّل العنصر الأساسي في النظام العالمي الذي تُهيمن عليه الولايات المتّحدة. ولا يمكن فهم السياسة الأميركية تجاه شؤون المنطقة بمعزل عن هذا المبدأ الأساسي». وفي الآونة الأخيرة: «في العام 1945، وصف مسؤولو وزارة الخارجية موارد الطاقة السعودية بأنها مصدر هائل للقوّة الاستراتيجية وواحدة من أثمن الجوائز المادية في تاريخ العالم. وعدّت منطقة الخليج عموماً بمثابة الجائزة الاقتصادية الأثمن في مجال الاستثمار الأجنبي. وقد وصفها آيزنهاور لاحقاً بأنَّها المنطقة الأكثر أهمّية من الناحية الاستراتيجية في العالم». وقد كان جيلبير أشقر على القدر نفسه من القوة في طرح هذه الفكرة، وفي تبيان الدور الحاسم الذي تلعبه سياسة الباب المفتوح بشأن النفط في الاستراتيجية الإمبريالية الأميركية الكبرى: «على غرار إدارة والده التي شنَّت الحرب الأميركية الأولى ضد العراق، ومثل أي إدارة أخرى، ترتبط إدارة جورج دبليو بوش بصناعة النفط. ومع المخاطرة بإزعاج أولئك الذين يَصفون بـ«الاختزالية» كل تفسير يعزو السياسة الخارجية للولايات إلى المصالح الاقتصادية، والمصالح النفطية على وجه الخصوص. لعب اللوبي النفطي دوراً رئيساً في صياغة السياسة الخارجية للولايات المتّحدة، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية». ولا سبيل إلى فهم الحرب الباردة والمواجهة التالية للحرب الباردة مع الأعداء (الاتحاد السوفياتي، والاستقلال العربي والحركات الأصولية، والعراق بعد العام 1991، وبن لادن)، وعلاقات الولايات المتّحدة مع حلفائها (أوروبا واليابان وإسرائيل)، بمعزلٍ عن السياسة الخارجية. والحقيقة أن السيطرة على النفط تشكّل أداة حاسمة للسياسة العالمية.
وبالتالي يشير «الاستقرار الإقليمي» إلى شرق أوسط خاضع لسيادة الولايات المتّحدة. أثناء الحرب الباردة، كان لا بد من إبعاد الأنظمة العربية عن الاتحاد السوفياتي للحدّ من وجوده الاستراتيجي في المنطقة، وكان لا بدّ من خنق مبادراته السياسية والاقتصادية المستقلة، إن لم يكن تقويضها. العرب «المعتدلون» هم العرب التابعون؛ والعرب «الراديكاليون» هم المستقلون الذي تتعارض ممارساتهم مع مصالح الولايات المتحدة. أصبح جمال عبد الناصر راديكالياً في نظر واشنطن: بعد العام 1956 أصبح رمزاً دولياً لاستقلال العالم الثالث والعروبة. وبالتالي كان لا بدّ من ردع مشروعه القومي العربي على اعتبار أنه يهدّد الهيمنة الأميركية في المنطقة. ولم تكن الولايات المتحدة، الغارقة في فيتنام، قادرة على القيام بتلك المهمة بنفسها، فقامت بجلبِ إسرائيل من العزلة لأداء هذه الوظيفة. وبعد أن أجبرها آيزنهاور على العودة إلى غزة وسيناء في العام 1956، مُنِحت إسرائيل الضوء الأخضر للهجوم؛ ولكن هذه المرّة لخدمة المصالح الأميركية وليس البريطانية والفرنسية. وكما قال سفير الولايات المتّحدة السابق لدى إسرائيل صامويل دبليو لويس، تحوّلت علاقة الولايات المتّحدة مع إسرائيل من علاقة «بعيدة وبارِدة للغاية»، نتيجة «التحسّس المُفرط حيال المصالح الاستراتيجية الأميركية المُحدّدة بوضوحٍ مع المملكة العربية السعودية واحتياطيّاتها النفطية»، إلى تحالفٍ استراتيجي في فترة ما بعد العام 1967. وقد أكّدت شيريل أ.روبنبرغ كذلك على هذا التحوّل السياسي، ووصفته بالعبارات التالية: «كانت النتيجة الأكثر أهمّية لحرب يونيو بالنسبة للغالبية من نخبةِ صانعي القرار، هي أن الأداء العسكري الإسرائيلي المذهل قد أثبت صحّة الفرضية القائلة بأنه يمكن لإسرائيل أن تمثل قيمة استراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقد تجلّى الاعتقاد بقيمة إسرائيل الاستراتيجية في سياسة الولايات المتحدة من خلال توفير كميات غير محدودة من المساعدات الاقتصادية والمعدات العسكرية، وعبر التحالف الفعلي بين واشنطن وإسرائيل، وفي الدعم الأميركي لكل أهداف السياسة الخارجية الإسرائيلية تقريباً.
وهكذا أصبحت إسرائيل أداة للاستقرار الإقليمي بالنسبة للولايات المتحدة: «في سياق مذهب نيكسون، تولت إسرائيل دور الحفاظ على توازن القوى الإقليمية لحساب المصالح الأميركية. وكان هذا يعني، في المقام الأول، لجم الراديكالية العربية وكبح جماح التوسع السوفياتي في الشرق الأوسط. إن مصلحة إسرائيل الإقليمية المتمثلة في لَجْم العرب قد تلاقت مع مصلحة إدارة نيكسون في طرد السوفيات من الشرق الأوسط. ولم يكن عبد الناصر والقومية العربية المصرية الضحية الوحيدة لتقارب المصالح بين الولايات المتّحدة وإسرائيل. فقد تزامنت الفترة التي تعزّز فيها هذا التحالف مع فترة صعود القومية الفلسطينية. إن معركة الكرامة، التي هَزمت فيها القوات الفلسطينية والأردنية العدوان الإسرائيلي في العام 1968، دفعت الفلسطينيين إلى المسرح التاريخي. وأصبح الفلسطينيون ورثة القومية الراديكالية: فقد حوّلت معركة الكرامة منظّمة التحرير الفلسطينية إلى منظمة جماهيرية. وفي الدعوة إلى تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني (المدعوم من الإمبريالية الأميركية)، كان لا بد من سحق منظمة التحرير الفلسطينية، مثل عبد الناصر. وهو ما بات يُعرف بـ «أيلول الأسود». ومرّة أخرى يبرهن التحالف بين الولايات المتّحدة وإسرائيل أهمّيته. فسّر نيكسون وكيسنجر الحرب الأهلية الأردنية مع الفدائيين الفلسطينيين على أنها مواجهة عالمية بين القوى العظمى وليس مجرد صراع محلي أو إقليمي، ووضعوا الأسطول الأميركي في البحر الأبيض المتوسط في حالة تأهب قصوى. ودعمت إسرائيل النظام الملكي الأردني ضد منظّمة التحرير الفلسطينية وحشدت جيشها لحمايته من غزو الدبّابات السورية (الذي مُني بالفشل لهذا السبب). وعجزت الوحدة العراقية في شرق الأردن عن تقديم المساعدة للفلسطينيين. وكان عبد الناصر مقيّداً بالقدر نفسه: فبعد أن قبل بخطّة روجرز، التي دعت إلى إعادة الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في العام 1967، كان مستعدّاً للتضحية بموقفه المناهض للإمبريالية من أجل استعادة الأراضي المصرية. كما اصطفّ السعوديون إلى جانب الملك حسين. وفي الواقع، لم تكن لدى الروس أنفسهم رغبة في زعزعة استقرار نظام الدولة في المنطقة. وحتى عرفات نفسه قد آثر سياسة عدم التدخّل في الأنظمة العربية وأراد التركيز على تحرير فلسطين بدلاً من ذلك. وخلافاً للجبهتينِ الشعبية والديمقراطية الأكثر تطرفاً، اعتقدت فتح دائماً أن فلسطين سوف تحقّق الوحدة العربية، وليس الوحدة العربية خارج فلسطين: أي أنه لا ينبغي للفلسطينيين أن يسعوا بنشاط لكي يصبحوا ثوريين اجتماعيين في العالم العربي.
أصبح من الصعب الحفاظ على موقف فتح عندما كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تختطف الطائرات وتفجّرها في المطارات الأردنية: حيث أصبحت السيادة الأردنية على المحك. ولذلك، كان على الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن رادِيكاليتهم: حيث اجتمعت كل القوى ضدهم. وإذن، مُنيت الثورة الفلسطينية بالهزيمة على يد أعدائها العرب وحلفائهم الإمبرياليين في لحظة انطلاقتها. ويصف أشقر الأمر بالعبارات التالية:
«على أية حال، شهد العام 1970 أفول القومية العربية سياسياً، بحيث حقّق هجوم 1967 أهدافه السياسية في غضون ثلاث سنوات. وقد تطلّب ذلك سحق رأس الحربة الأكثر تقدّماً والأكثر إثارة للراديكالية في الحركة الشعبية، والتي نجحت مؤقتاً في موازنة النصر العسكري الذي حقّقه التحالف الأميركي الإسرائيلي. في أيلول/سبتمبر 1970 («أيلول الأسود»)، أغرق الجيش الأردني في الدماء السلطة البديلة التي دشّنتها كتلة المنظّمات الفلسطينية المسلحة. وهكذا، كان العام 1970 هو عام الهزيمة النهائية للقومية العربية الراديكالية.
كان العام 1970 بمثابة النذير بتحوّل ثوري في الشرق الأوسط. لقد استوعب جان جينيه، الذي رافق الثوّار آنذاك في الأردن، المشهد بوضوح: «لقد قيل لي إنه يمكن تلخيص الثورة الفلسطينية في عبارة ملفقة: لقد كانت خطيرة لجزءٍ من ألف من الثانية».
وينبغي اعتبار أحداث العام 1970 في الأردن أهم الأحداث التي تسلّط الضوء على تاريخ فترة ما بعد العام 1967. أصبحت مصالح الجهات الفاعلة العالمية والمحلّية واضحة للعيان، وتجلّى هنا التحالف بين إمبريالية الولايات المتّحدة وإسرائيل، وردود الفعل العربية ضد القومية الثورية في المنطقة. ويبدو أن النخبة العربية كانت تخشى الراديكالية العربية أكثر ممّا تخشى وجود إسرائيل: فقد تبيّن أن التناقض الظاهر بين مصالح الولايات المتّحدة النفطية ودعم إسرائيل لم يكن تناقضاً على الإطلاق. فقد تحالفا موضوعياً (إن لم يكن ذاتياً) وعملتا على تحقيق الهدف نفسه: الاستقلال والديمقراطية المعادية للعرب، وسُلطوية العرب الموالية والمعتمدة على الولايات المتّحدة. ولقد وعت النخبة العربية هذا الدرس الأساسي تمام الوعي. وكانت سياسة الانفتاح (الانفتاح الاقتصادي والسياسي) والتحوّل باتجاه الغرب إشارة واضحة إلى ذلك. لقد تطلّب الأمر حرب 1973 لإقناع الولايات المتّحدة بأهداف السادات الواضحة: السلام في مقابل الأراضي المصرية، مع التخلّي عن الحقوق الفلسطينية والعربية والتحوّل إلى نظامٍ عميلٍ للولايات المتحدة. وكما خلص سمير أمين، بعد دراسة تلك التطورات في كتابه «الأمّة العربية»، إلى أن «البرجوازية العربية حصلت على ما كانت تسعى إليه: فقد اضطرت واشنطن إلى أخذ الأمر على محمل الجد».
كان نجاح السادات في استعادة الأراضي المصرية من خلال التحالف مع الولايات المتّحدة في المنطقة سبباً في توليد ما نستطيع أن نصفه بأنه «وهم سياسي» داخل المعسكر الفلسطيني، وهو الوهم الذي أدّى في نهاية المطاف إلى أوسلو. وكان الاعتقاد كالتالي: ليس بالإمكان استعادة الحقوق الوطنية إلا من خلال «الاعتدال» السياسي والفوز بالقبول الأميركي. إذا استطاع السادات أن يفعل ذلك فلماذا لم يستطع عرفات؟ ولقد جاء هذا المنطق ليبرّر استسلام الفلسطينيين في المستقبل، وهو الاستسلام الذي لم يتحقّق بالكامل إلّا في أوسلو (حيث كان في احتياج إلى سحق منظّمة التحرير الفلسطينية في بيروت في العام 1982، والانتفاضة، وتغريب وضعف منظّمة التحرير الفلسطينية بعد حرب الخليج من أجل خلق الظروف المادية اللازمة لتحقيقها). ولكن هذا الافتراض الخطير أهمل حقيقة مفادها أن هناك فارقاً بالغ الأهمية بين مصر والفلسطينيين: المغزى الاستراتيجي. وبوسعنا أن نقول إن مصر كانت الدولة الأكثر أهمية في العالم العربي (من حيث الحجم والمكانة والقدرة)، في حين كان الفلسطينيون المجموعة الأكثر ضعفاً وعجزاً في المنطقة: المجموعة المحرومة، عديمة الجنسية، والمجزأة. ولم يكن لدى عرفات إلّا أقل القليل مما عرضه على الولايات المتّحدة (باستثناء الاعتراف بإسرائيل)، في حين كان بوسع السادات أن يعرض عليهما السلام مع إسرائيل وإضفاء الشرعية على الوضع الراهن. الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يكون للفلسطينيين أهمّية استراتيجية كان من خلال التهديد النشط للهيمنة الأميركية الإسرائيلية. وهو الأمر الذي يتطلّب التنظيم والتعبئة وكسب التأييد الجماهيري العربي. وهذا يعني في الواقع إن الفلسطينيين الذين يفتقرون إلى القدرة الموضوعية على إنتزاع حقوقهم الوطنية بأنفسهم يحتاجون إلى دعم الجماهير العربية وقدراتها. ولكي يتمكّنوا من التحرّر، كان على الفلسطينيين تعبئة العرب وراء نضالهم واتخاذ موقف التقدّميين والقوميين الراديكاليين في العالم العربي. باختصار، كانوا في حاجة إلى أن يتحوّلوا إلى ما يزعمون أنهم عليه بالفعل: ثوريين. وعلى حد تعبير أمين: «لا يمكن أن ينجح الكفاح التحرّري ما لم يمثل ثورة اجتماعية كذلك».
إن كان العام 1970 قد أظهر أي شيء، فقد أظهر مدى الصعوبة التي قد يواجهها الفلسطينيون في الحصول على حقوقهم الوطنية بينما العالم أجمع ضدهم فعلياً. كانت كيفية التغلّب على هذا العائق موضوعاً موجزاً للنقاش داخل منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن نتيجة هذا التحوّل لم تؤد قَطّ إلى التغيرات البنيوية التنظيمية المرغوبة الكفيلة بتمكين الحركة الجماهيرية: حيث انتصرت البيروقراطية والانتهازية. لم يكن هناك «ثورة داخل الثورة» كما أراد الراديكاليون الفلسطينيون، مثل حسام الخطيب. في انتقاده القوي للقومية الفلسطينية، ألقى الفيلسوف الماركسي صادق جلال العظم باللائمة على هزيمة منظّمة التحرير الفلسطينية في العام 1970 بسبب افتقارها إلى الاستعداد الإيديولوجي للدور الذي كان الفلسطينيون في وضع يسمح لهم بالاضطلاعِ به في العالم العربي: ألا وهو دور الثوّار الاجتماعيين. ومن عجيب المفارقات برأي العظم أن الأمر انتهى إلى تكرار الأخطاء نفسها التي ارتكبها نظراؤهم من البرجوازيين العرب مثل جمال عبد الناصر. وكان الفلسطينيون يكرّرون الهزائم القومية العربية بدلاً من تغييرها: فقد كان العام 1970 أشبه بعام 1967. ومثل نظرائهم العرب، ينتهي الأمر بالنخبة الفلسطينية إلى الاعتماد على الولايات المتحدة للحصول على الأمن والدعم والرعاية.
وبالتالي، فإن ما ينبئنا به هذا الأمر عن الدور الإسرائيلي في المنطقة واضحٌ تماماً. لقد انتهت التدخلات الإسرائيلية إلى دفع الاصطفاف الجيوسياسي للنخبة العربية بالكامل إلى المجال الأميركي. وقد كان ذلك جهداً هائلاً ومستداماً. إن السيطرة على النفط في حد ذاتها لا تستطيع إنجاز هذا: فقد كانت الولايات المتحدة في حاجة إلى دولة ناشطة مقاتلة لمساعدتها في أداء هذه المهمة. وقد كوفئت إسرائيل مكافأة كبيرة على هذه الخدمة. منذ العام 1967، كانت الولايات المتّحدة الحليف الاستراتيجي الأكثر أهمّية لإسرائيل. وتدعم الولايات المتّحدة إسرائيل دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً، وتُمكّنها من مواصلة توسيع واستعمار الضفة الغربية وقطاع غزة، والمضي من دون عقاب على انتهاكاتها التي لا تحصى للقانون الدولي، بما في ذلك غزوها للبنان في العام 1982، الذي أودى بحياة 20 ألف شخص معظمهم من المدنيين، واحتلالها حتى العام 2000 لحيّزٍ طويل من الأراضي اللبنانية أسمته «المنطقة الأمنية»، واحتلالها وضمّها القدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية. ولولا دعم الولايات المتحدة لما كان أي من ذلك ممكناً. وكان التوسّع الإسرائيلي ليتراجع، كما حدث في العام 1956.
إن العمل في إطار معايير وضرورات إمبراطورية الولايات المتحدة يحرّر إسرائيل من الامتثال للإجماع الدولي الذي يتشاطره كل العالم، ويمنع الولايات المّتحدة (مع استثناء مؤقّت يتمثل في خطة روجرز في العام 1970 التي قوّضها نيكسون وكيسنجر): حلّ الدولتين القائم على الانسحاب الكامل إلى حدود العام 1967، وتفكيك المستوطنات، وإنشاء دولة فلسطينية. ولكي تكمل الصهيونية مهمتها المتمثلة في استعمار فلسطين، كان عليها أن تحقّق نبوءة ثيودور هرتزل العنصرية في الدولة اليهودية التي «تشكل جزءاً من متاريس أوروبا ضد آسيا، وهي بؤرة للحضارة في مقابل الهمجية». ولكي تتوسّع إسرائيل، اضطرت إلى إخضاع نفسها لمتطلبات الإمبريالية الأميركية وأصبحت تعتمد على الولايات المتّحدة (الأمر الذي يولّد في بعض الأحيان الاستياء الشعبي الإسرائيلي من حين لآخر إزاء مدى سيطرة الولايات المتحدة عليها). وقد وصف صموئيل و. لويس هذه العملية بشكل جيّد:
«عزّزت الخمسينيات وأوائل الستينيات الوهم القائل بأن إسرائيل يمكن أن تكون مستقلة اقتصادياً وسياسياً حقاً، حتى وإن كانت محاطة ببحر من الدول العربية المعادية. لقد أدّت حرب 1973 إلى تآكل هذه الثقة بشدّة. ومنذ ذلك الوقت أدرك الإسرائيليون أن الحصول على الأسلحة الحديثة الكافية أمر باهظ التكاليف بالنسبة لدولة صغيرة من دون وجود حلفاء يمكن الوثوق بهم ومن دون دعم اقتصادي من الخارج. كما تعاظم الإحباط نتيجة إدراكهم للاعتماد الحتمي على واشنطن. والواقع أن هذا الإحباط يؤدّي بشكل دوري إلى توليد الميل إلى الهجوم العنيف ضد الزعماء الأميركيين نفسهم الذين هم في أشد الحاجة إلى دعمهم المستمر».
وبعيداً من هذه اللحظات (كان آخرها اتهام شارون للولايات المتحدة في أعقاب 11 أيلول/سبتمبر بالتخلي عن إسرائيل بالطريقة نفسها التي تخلى بها الحلفاء عن تشيكوسلوفاكيا في العام 1938)، فقد أدركت إسرائيل حقاً أنه لا يوجد احتلال، ولا توسع، ولا رفض للحقوق الوطنية الفلسطينية من دون دعم من الولايات المتّحدة. وما دامت هذه الأجندة هي المهيمنة على إسرائيل، فإن اعتمادها على الولايات المتّحدة سوف يستمر. يصف تشومسكي هذا الارتباط على النحو التالي:
«ومما لا شك فيه أن إسرائيل بعد فترة قصيرة من احتلال العام 1967، كانت تتحرّك في الاتجاهات المشار إليها سابقاً: العزلة الدولية بعيداً من الدول المنبوذة، والاعتماد على الولايات المتّحدة مع ما يصاحب ذلك من ضغوط لخدمة المصالح الأميركية، وعسكرة المجتمع، وصعود التعصّب الديني الشوفيني، والرجعية الداخلية المتمثلة في سياسات القمع والهيمنة، والشعور المتزايد بحتمية الصراع الدائم وفي معيته الحاجة المتخيّلة إلى تمزيق المنطقة وإقامة شكل من أشكال الهيمنة الإسرائيلية برعاية أميركا».
وبالتالي فإن الولايات المتحدة سمحت وشجّعت وساعدت على استمرار الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين. إن توسّع العام 1967 هو في الواقع استمرار لمنطق العام 1948 المتمثل في الاحتلال ونزع الملكية، الذي حدّد هوية الحركة الصهيونية في فلسطين منذ البداية. وما كان جديداً في العام 1967 هو أنه كان يتعارض مع الإجماع الدولي: إذ كان يُنظر إلى إسرائيل على أنها قائمة بالاحتلال بينما كان يُنظر إليها من قبل على أنها ضحية. ولإضفاءِ الشرعية على هذه الحالة، أصبحت التوسعية المذهب المهيمن على النخبة الإسرائيلية. وتعزّز الاستعمار وترسّخه في السياسة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، مما أدّى إلى ولادة إيديولوجيات وممارسات سياسية جديدة للاحتلال والاستيطان. وصف نور مصالحة هذه العملية ببراعة في كتابه الإمبراطورية الإسرائيلية والفلسطينيين: سياسة التوسع:
«أسفرت الحرب عن توسّع إقليمي مذهل. جعل هذا التوسّع الإقليمي التفكير الديني المسيحاني والأرثوذكسي المتطرف يبدو جديراً بالثقة. كما أن احتلالات العام 1967 جعلت الرؤية التاريخية التصحيحية الراديكالية ذات أهمية كبيرة. جميع مكوّنات الراديكالية اليمينية الجديدة في إسرائيل – النزعة العسكرية، والقومية المتطرّفة، والتوسّع الإقليمي، والتديّن الجديد – أنتجت حركات سياسية، بما في ذلك التطرّف الإقليمي الجديد لحركة أرض إسرائيل بأكملها وحركة المستوطنات الأصولية غوش إيمونيم».
وبالتالي، يزيد الاحتلال من قوة الرفض الإسرائيلي لحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وقد تم رفض التقسيم بقوة (وإن كان غير عادل، حيث ترك للفلسطينيين 22% من وطنهم)، مدعوماً برفض الولايات المتّحدة.
ومن المهم أيضاً التشديد على أن العام 1967 عزّز وغيّر من أنماط عسكرة «الأمن القومي» الإسرائيلي القائمة. وقد أظهر باروك كيمرلينغ أن «النزعة العسكرية المدنية» الإسرائيلية كانت دائماً مهيمنة في إسرائيل: «ينشأ ذلك الوضع عندما ينظر القادة المدنيون والمحكومون إلى الاعتبارات العسكرية والاستراتيجية الأساسية صراحةً على أنها الاعتبارات الوحيدة أو السائدة في معظم القرارات المجتمعية والسياسية أو ترتيب الأولويات». إن العلاقة العسكرية السياسية تحكم الفلسطينيين، وتحدّد الأهداف المحلية (بما في ذلك الاقتصادية) للإسرائيليين.
بعد العام 1967، تم تعديل أولوية الأمن القومي من خلال «توسيع المجال الأيديولوجي-السياسي» للصهيونية الدينية. وأصبحت أيديولوجية إسرائيل الكبرى مقترنة باعتبارات الدولة الاستراتيجية، وقد تمّ تعزيز الأولى ودعمها بواسطة الأخيرة: «وبالتالي، فإن التوجّه الجديد أنتج بدائل حديّة فضلت طرد جميع السكّان غير اليهود من الأراضي إما فوراً أو وفقاً لبرنامج مخطّط من شأنه أن يخلق ظروفاً مواتية لهذا الإجلاء (على سبيل المثال، الحرب على نطاق محلي إقليمي). وقد أقيمت مستوطنات يهودية بشكل محموم في مناطق من الأراضي المحتلة التي يقطنها الفلسطينيون بكثافة لضمان السيطرة على المنطقة المحتلة بأكملها وخلق أمر واقع «لا رجعة فيه».
وقد طوَّر كيمرلينغ هذا الخط التحليلي بشكل أكبر في كتابه الأخير «القتل السياسي: حرب آرييل شارون ضد الفلسطينيين». هنا يجادل بأن الاحتلال أفسد الديمقراطية الإسرائيلية بالفعل إلى حد أنه لم يعد من الممكن اعتبار إسرائيل ديمقراطية ليبرالية: إنها الآن ديمقراطية «هيِرينفولك»: صِيغ هذا المصطلح لوصف جنوب أفريقيا في ظل الفصل العنصري [يعود تاريخه إلى النازيون]، وهو يصف نظاماً تتمتّع فيه مجموعة من الرعايا (المواطنون) بحقوق كاملة بينما لا تحصل المجموعة الأخرى (غير المواطنين) على أي شيء. لقد أصبحت القوانين الإسرائيلية قوانين سادة الشعب، وأخلاق بارونات الأرض».
وفي حين أن هذا المنطق مهم لفهم السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، فإنه يتجاهل حقيقة أن إسرائيل نفسها كانت دائماً محددة بعناصرها الخاصة. وما بعد العام 1967 هو مجرّد استمرار لما بعد العام 1948، ولكنّه الآن في بيئة جديدة حيث أصبح إنهاء الاستعمار يشكّل قوة إيديولوجية عالمية قوية (ومن هنا جاءت استجابة الأمم المتحدة). والتساؤلات التي لا يثيرها كيمرلينغ إطلاقاً هي: متى لم يفسد الاستعمار الديمقراطية الإسرائيلية؟ منذ متى عاملت إسرائيل مواطنيها على قدم المساواة؟ إن الحكومة العسكرية في الفترة من 1948 إلى 1966، والتي طُبقت فقط على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، تشكّل دليلاً واضحاً على أن إسرائيل لم تكن قط في الواقع ديمقراطية ليبرالية: إن تعريفها الإقصائي المستمر بأنها «يهودية وديمقراطية» هو دليل آخر على ذلك. إذن، في فترة ما بعد العام 1967، لم يكن هناك سوى التوسع في الإقصاء والعنصرية الصهيونية، وتنشيطها، وتطبيقها على الضفة الغربية وقطاع غزة. بالنسبة للنخبة الإسرائيلية، يتماثل العام 1967 مع العام 1948: حيث أوجه التشابه أكثر أهمية من الاختلافات.
وبالتالي فإن ديناميكية الإمبراطورية الأميركية/الاستعمار الإسرائيلي هي ديناميكية دائرية: الدعم الأميركي يعزز الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، ممّا يعزّز العسكرة الإسرائيلية للدولة والمجتمع، وهو ما يولّد مبررات أيديولوجية وسياسية جديدة ويولّد التعصب الديني الجديد، وبالتالي يقود إلى المزيد من المقاومة المحلية والمزيد من تدخلات الولايات المتحدة في المنطقة. دورة من العنف تحدّدها في النهاية الإمبريالية الأميركية. وهكذا تصبح الولايات المتّحدة شرطاً ضرورياً وكافياً للتوسّع الاستعماري الإسرائيلي، من دونه ستغدو إسرائيل دولة منبوذة. ومن دونه، فإن ظروف التعايش السلمي في المنطقة ستكون أكثر احتمالاً. ومن دونه، ستكون النزعة العسكرية الإسرائيلية والأصولية اليهودية في إسرائيل في موقف دفاعي؛ وسوف يكون لحشد القوى الداخلية التي تدعو إلى التخلي عن أخلاقيات «الأمن القومي» ورفض العيش بالسيف، فرصة حقيقية للسيطرة السياسية في إسرائيل. إن الانحياز إلى جانب الإمبراطورية الأميركية في المنطقة وخدمتها والاعتماد عليها بل والخضوع لها لا يمكن إلا أن يعزّز تصور الغالبية العربية بأن إسرائيل تمثل وجوداً عدائياً. ولا يمكن أن يكون الأمن المسلّح أساساً للسلام والمصالحة. ولا يمكن تحقيق الأمن الحقيقي إلّا إذا أصبح يُنظر إلى الإسرائيليين على أنهم جزء من المنطقة وليس على أنهم مفرُوضون عليها: ولكي يتحقّق ذلك التعايش، لا بد من رفض منطق الاستعمار اليهودي برمّته.
وهذا بالضبط ما لم يحدث في «أوسلو». وعلى العكس من ذلك، كانت «أوسلو» تدور حول المزيد من الاستعمار، والمزيد من التوسّع، والمزيد من الهيمنة والسيطرة. وقد ثبت أن منتقدي «أوسلو» الأوائل (وأبرزهم إدوارد سعيد، ونعوم تشومسكي، ومِيرون بنفنستي) كانوا على حق: فقد كانت أوسلو انتصاراً للصهيونية وهزيمة مذلّة للقومية الفلسطينية. لقد أجهضت منظمة التحرير الفلسطينية الانتفاضة، التي تعد السبب الرئيسي وراء استعداد إسرائيل للتفاوض، وأضفتْ الشرعية على الاحتلال، وأصبحت المنفذ الاستعماري لإسرائيل. وكما قال سميح ك. فرسون: «حقّقت إسرائيل ما تعهّدت به منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد مع مصر على الأقل في العام 1978: لقد ظفرت بالحكم الذاتي المدني الوظيفي المحدود للفلسطينيين في الأراضي المحتلّة وأطبقت بقبضةٍ قانونية محكمة على الأرض والموارد والاقتصاد والأمن. لا سيادة ولا حقوق وطنية ولا نهاية للاحتلال: كانت عملية السلام التي رعتها الولايات المّتحدة بمثابة رفض لحق الفلسطينيين في الاستقلال وتقرير المصير كما كان إجماع السياسة الخارجية بعد كيسنجر.
وإذا ما كانت إسرائيل قد عمدت إلى ترسيخ احتلالها في «أوسلو»، فإن الولايات المتّحدة قد جنت ثمار انتصارها على الاتحاد السوفياتي وأحكمت قبضتها على الشرق الأوسط. وكان النظام العالمي الجديد الذي أعلنه بوش الأب في العام 1991 سبباً في تحريك هذه العملية. فقد كان من الضروري ترويض العراق وتقليص نفوذه، وكان غزوه للكويت عذراً ممتازاً لذلك. ومع نهاية الحرب ضدّ إيران كان يمتلك جيشاً هائلاً، ويعاني من ديونِ حربٍ هائلة، ومن سخط أنظمة النفط العربية، ومن التعاملات المزدوجة الأميركية. كان يُنظر إلى صدّام حسين على أنه تهديد لاستراتيجية الولايات المتّحدة العالمية: كان لا بدّ من حماية النفط وإعادة تأكيد الاستقرار الإقليمي (أي الوضع الراهن الموائم للولايات المتّحدة). وقد تحقّق «مشهد» حرب الخليج ذلك عندما قُصف العراق وأُعيد إلى عصر ما قبل الصناعة (على حد تعبير أحد تقارير الأمم المتّحدة). ومن المشكوك فيه أن مثل هذا التقليص لقدرات الدولة، والاستقلال الاقتصادي والسياسي، والقوة العسكرية كان من الممكن أن يتحقّق لولا اللجوء إلى استخدام القوة. على الرغم من وجود عنصر «الأثر الاستعراضي» لابراز القوة العسكرية الأميركية الموجَّه للاستهلاك العالمي والأميركي المحلي، إلا أن الحرب وحدها هي التي يمكن أن تحد بشكل كبير من قوة الدولة العراقية، وتعزّز الوجود العسكري الأميركي، وتحافظ على تفوّق المصالح السياسية والاقتصادية الأميركية في المنطقة. فقد تم حماية أنظمة النفط العربية، وتأكيد التفوّق العسكري الإسرائيلي: فالعراق ما كان ليتمكّن أبداً من فرض أي شكل من أشكال التهديد على المملكة العربية السعودية أو إسرائيل (ولو حصل بوش الأب على القدر الكافي من الدعم لتغيير النظام آنذاك، فما كانت الولايات المتّحدة لتضطّر إلى انتظار ما وصفته رايس بـ«الفرصة» لاحتلال العراق في مرحلة ما بعد 11 أيلول/سبتمبر). وبالتالي فإن الحرب وحدها هي التي يمكن أن تلبي المتطلّبات المادية والأيديولوجية للإمبريالية الأميركية.
أفرزت نهاية الحرب الباردة توقعات غريبة فيما يتعلّق بسياسة الولايات المتّحدة تجاه إسرائيل: حيث ستصبح إسرائيل أقل أهمية بالنسبة للولايات المّتحدة. ولأن تحالف حرب الخليج قد استبعد إسرائيل (وشمل سوريا والمملكة العربية السعودية ومصر) ولأن بوش قد أخّر ضمان قرض بقيمة 10 مليارات دولار لإسرائيل إلى أن وافقت على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام الذي جاء في أعقاب حرب الخليج، فقد ساد الاعتقاد بتضاؤل دور إسرائيل في الإمبراطورية الأميركية. وزُعم أن أطروحة «الأصل الاستراتيجي» قد ولّت أيامها: حيث أصبحت الولايات المتحدة الآن حرّة تماماً في وضع استراتيجية للسياسة الخارجية أكثر توازناً وانسجاماً مع الإجماع الدولي على عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
غير أن الواقع كان مختلفاً تماماً: فحتى خلال أزمة حرب الخليج رفضت الولايات المتّحدة بقوّة الحجة التي طرحها صدّام حسين (المصلحة الذاتية): القول بأن العراق سيغادر الكويت، وإسرائيل ستغادر الأراضي المحتلة. لم تُطبق مثل هذه المعايير العالمية: فقد كان الكيل بمكيالين هو النمط السائد. وانتهى مؤتمر مدريد إلى طريق مسدودٍ تقريباً. لقد كان «السلام والعدالة» الذي أقرّه بوش بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. في الواقع شكلت التسعينيات الفترة الأخْصب في العلاقات بين الولايات المتّحدة وإسرائيل. حيث أصبح التحالف أقوى من أي وقت مضى، وراح يتكثّف ويتعمّق. والحقيقة أننا مدينون بهذا الحكم لواقعيةِ تشومسكي: فنهاية الحرب الباردة لن تجلب سوى تعديلات تكتيكية وليس تغييرات جوهرية في الاستراتيجية العالمية للولايات المتّحدة. وسوف تستمر معاداة القومية والعداء للراديكالية الاجتماعية في تحديد أجندتها، بالضبط كما توقع. وهذا ينطبق أيضاً على إسرائيل، كما يتبيّن بوضوح من تصريح الاستراتيجي العسكري الإسرائيلي شلومو غازيت:
«إن المهمة الرئيسة التي تضطلع بها إسرائيل لم تتغيّر على الإطلاق، وما زالت تشكّل أهمّية حاسمة. والواقع أن موقع إسرائيل في قلب الشرق الأوسط العربي المسلم يجعلها بمثابة الحارس المخلص للاستقرار في كل البلدان المحيطة بها. ويتمثّل [دورها] في حماية الأنظمة القائمة: منع أو الحدّ من عمليّات التطرّف والحيلولة دون توسّع التعصّب الديني الأصولي».
لذا، فإن النظام العالمي الجديد يشبه إلى حد كبير النظام العالمي القديم: الولايات المتحدة وإسرائيل يحاربَان أعداء مشتركين ويخدمَان مصالح النخبة المشتركة. ويكمن الفارق الوحيد في تحقيق شروط عمل أكثر مرونة. كان التفوق الأميركي العالمي هو النتيجة الرئيسة للحرب الباردة، وبعد حرب الخليج، أعيد تأكيد تفوّق إسرائيل العسكري الإقليمي مرة أخرى. وهناك اختلاف طفيف آخر ينطوي على أهمية هنا: وهو العدو الجديد. فإذا كانت القومية العربية قد مثّلتْ العدو في فترة الحرب الباردة، فإن الفصائل الرئيسة من الأصولية الإسلامية هي أعداء النظام العالمي الجديد، وهذا لا يعادل بأي حال من الأحوال المحتوى الاجتماعي لكل إيديولوجية. فبعد أن كانت ذات يوم حليفاً في الحرب الباردة ضد القومية، تحوّلت الأصولية الإسلامية إلى عدو. والأمثلة على ذلك عديدة. نكتفي بمثالين منها: المجاهدين في أفغانستان (طالبان وبن لادن والقاعدة) والأصوليين المتطرّفين في العالم العربي. في السياق الفلسطيني، تعد جماعة الإخوان المسلمين مثالاً على تحوّل الأصولية إلى عدو. حيث تحوّلت من كونها مدعومة إسرائيلياً ضدّ فتح القومية إلى الفاعل الرئيسي في الكفاح ضد الاستعمار وتقرير المصير الفلسطيني في الأراضي المحتلة. إن تكاليف هذا التحوّل تتحمّلها المجتمعات المحلية في الأساس: فمع حكم الأصوليين تحكم الأجندات الاجتماعية الرجعية، وينحسر مجال الحرية الفردية (الذي تقلّص بشدّة بفعل القومية العربية العلمانية).
وهذه ليست المشكلة الأساسية التي تثير قلق إسرائيل أو الولايات المتحدة، ما دام الأصوليون مقموعين أو مستبعدين من السلطة (الجزائر، ومصر، والأردن، والمملكة العربية السعودية، إلخ). وبالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل فإن مشكلة الديمقراطية في الشرق الأوسط اليوم تتلخّص في مشكلة الأصولية الإسلامية: فأغلب الانتخابات الحرّة من شأنها أن تسفر عن وصول الأصوليين إلى السلطة، كما تؤكّد الانتصارات الأخيرة التي حقّقتها حماس والتحالف العراقي الموحّد في العراق (والجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر قبل ذلك). ولا يزال إنكار السيادة الديمقراطية الحقيقية افتراضاً أساسياً لسياسة الولايات المتّحدة. لذا، بعد الانتخابات الأخيرة في فلسطين (وأمل الولايات المتّحدة في انتصار فتح)، تعمل الولايات المتّحدة الآن على تشويه صورة حماس المنتخبة بالغالبية ومقاطعتها، وتسعى إلى معاقبة الفلسطينيين و«تجويعهم» بسبب اختيارهم الديمقراطي (على حد تعبير العنوان الرئيسي الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً).
إن الحرب على الإرهاب هي نظام عالمي جديد مطلق العنان وغير مقيّد. وهي تعيد إحياء ديناميكية الحرب الباردة، وتهدف إلى إعادة إنتاج هيكلها القمعي، وتواصل خدمة المصالح الأميركية القديمة في الشرق الأوسط: السيطرة على النفط ومعاداة الراديكالية العربية، تلك الخدمات التي أدّت إلى دعم إسرائيل الاستعمارية. وعلى هذا النحو تسير الأمور.
إن ما يعلمنا إيّاه هذا التحليل الموجز لـ «الامبريالية/الاستعمار» واضح. كانت الولايات المتحدة حريصة على تحديد الأهداف الاقتصادية والسياسية الكبرى في الشرق الأوسط منذ العام 1967 على الأقل، مع استمرار إسرائيل في الاضطلاع بدورٍ حاسم في تحقيق هذه الأهداف. وفي إسرائيل وفلسطين، كان هذا يعني أن القوة الاستعمارية والسلام الاستعماري قد تناوبا بوصفهما أدواتٍ رئيسة للسياسة، مع بقاء الهدف الرئيسي ثابتاً: التفوّق اليهودي في فلسطين، وأكبر قدر ممكن من الأرض، وأقل عدد ممكن من الفلسطينيين. لقد استغلت الولايات المتحدة هذه الضرورة الصهيونية لتحقيق مصالحها الخاصة في المنطقة، وعملت على تعزيز إسرائيل العسكرية والأصولية في هذه سياق العملية. وفي وسعنا معاينة هذا الواقع في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في إسرائيل. لقد عبّر جدعون ليفي عن الأمر بشكل جيّد: «إن الغالبية المطلقة من أعضاء الكنيست في الكنيست السابع عشر ستتخذ موقفاً مبنياً على كذبة؛ وهي أنه ليس لإسرائيل شريكاً في السلام. إن الغالبية الساحقة من أعضاء الكنيست القادم لا يؤمنون بالسلام، بل ولا يرغبون فيه تماماً مثل ناخبيهم، والأسوأ من ذلك أنهم لا يعتبرون الفلسطينيين بشراً مثلهم. لم يكن للعنصرية قَطّ هذا العدد الكبير من المؤيدين. إنها الضربة الحقيقية لهذه الحملة الانتخابية».
كان تأثير الولايات المتّحدة وإسرائيل بالنسبة للفلسطينيين أسوأ بكثير: انهيار المشروع الوطني العلماني والوحدة الوطنية، واستمرار الاستحواذ على الأراضي والموارد، المصادرة، والتفتيت إلى «جيوب»، والشلل الجماعي، والموت والمعاناة التي لا تنتهي. إذا كان الإسرائيليون بالنسبة لليفي «أمة عنصرية واحدة»، فإن الفلسطينيين أصبحوا بالنسبة لأميرة هاس: «أمّة من المتسوّلين»: «لم تكن الكوارث الطبيعية هي التي حوّلت الفلسطينيين إلى أمة تعيش على المعونات من العالم، بل العملية الاستعمارية المتسارعة لإسرائيل هي التي حوّلت الفلسطينيين إلى أمّة تعيش على المعونات من العالم». وقد ترتّب ذلك على العلاقة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل، والعلاقة بين الإمبريالية والاستعمار. وبين الاستعمار، والمجاعة التي تلوح في الأفق، والصمود، يبدو الأمل في التغيير الحقيقي بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً. وربّما يشكّل هذا في حدود اللحظة الراهنة التأثير الأكثر كارثية للإمبريالية.
المصدر: الأرض. العمل. رأس المال/24 تشرين الأول 2023
نشِر هذا المقال في Monthly Review في العام 2007.