في 16أبريل 1993عُثر علي جثة الدكتور جمال حمدان والنصف الأسفل منها محروقاً، واعتقد الجميع أن د. حمدان مات متأثراً بالحروق، ولكن د. يوسف الجندي مفتش الصحة بالجيزة أثبت في تقريره أن الفقيد لم يمت مختنقاً بالغاز، كما أن الحروق ليست سبباً في وفاته، لأنها لم تصل لدرجة إحداث الوفاة.
واكتشف المقربون من د.حمدان اختفاء مسودات بعض الكتب التي كان بصدد الانتهاء من تأليفها، وعلي رأسها كتابه عن اليهودية والصهيونية، مع العلم أن النار التي اندلعت في الشقة لم تصل لكتب وأوراق د. حمدان، مما يعني اختفاء هذه المسودات بفعل فاعل وحتي هذه اللحظة لم يعلم أحد سبب الوفاة ولا اين اختفت مسودات الكتب التي كانت تتحدث عن اليهود…
لكن إحدي هذه المسودات وقعت في يد أخيه اللواء عبد العظيم حمدان والتي كانت نواة لكتاب فاضح عن حقيقة اليهود الموجودين الآن وأنهم ليسوا اليهود الذين تحدث عنهم القرآن.
والتي لم تُنشر حتي الآن. هذا ما أكده اللواء عبد العظيم حمدان من أن هذه المقالة المكونة من 12 ورقة المكتوبة بخط أخيه الراحل الدكتور جمال حمدان كُتبت في بداية الستينيات تقريبا فهي بدون تاريخ.
استهل الدكتور جمال حمدان مقالته بعنوان:
” من إسرائيل إلي فلسطين.. جوانب استراتيجية في معركة العودة.”
تحدث في بدايتها عن إسرائيل بشكل من التفصيل الأنثروبولوجي حيث يقول:
” إسرائيل لا جدال مسخ اصطناعي بحت، بدأ ابنًا غير شرعي لبريطانيا ، ونما لقيطًا لأمريكا ، ويشب الآن ربيبا لفرنسا “ونجد أن الدول الثلاث التي ذكرها جمال حمدان دول كبري كل منها دولة استعمارية. ويستمر في حديثه عن إسرائيل قائلا: ” إذا كان وجودها برمته خطيئة سياسية ، فإن كيانها هو خطأ جغرافي، وفضيحة اقتصادية ، ويكفي أن ننظر إلي نسيجها البشري المهلهل لنعرف مدي التناقضات الداخلية التي تمزقها، فلا نكاد نعرف في العالم أجمع دولة أكثر خلاسية وتخليطا من إسرائيل. ”
يشير جمال حمدان إلي اليهود الذين هاجروا إليها منذ مايو 1948 حتي يونيه 1961 وأن هؤلاء المهاجرين ينتمون وحدهم إلي 79 دولة من قارات وأطراف العالم…. فهي بوضوح ــ علي حد تعبيره ــ متحف جنسي ، وبرج بابل لغوي ، وبالوعة اجتماعية. إنها وان كانت دولة دينية عنصرية صرفة ، فليس كمثلها دولة أقليات في العالم.
ويستمر في حديثه عن إسرائيل حيث يقول:
” إن جسم إسرائيل أبعد ما يكون عن الانسجام أو التماسك داخليا ، وقابل للتصدع عند أي قلقلة.” وعندما تحدث عنها من الناحية الاقتصادية قال:
” ليست إسرائيل سخرية اقتصادية فحسب بل هي فضيحة اقتصادية كاملة ، فمعروف كيف إنها تستمد أغلب ميزانيتها ودخلها من الخارج ، ومعروف كيف هي لا تصدر إلا كسرا ضئيلاَ مما تستورد. حتي أصبح ميزان مدفوعاتها مثلاً فريدًا في الاختلال وحتي أصبحت علما علي دولة العجز. كذلك معروف أنها لا تكفي نفسها بنفسها في الغذاء أو حتي في الخامات والضروريات فهي في حكم المريض المزمن. الذي يعيش علي الحقن الصناعية التي تنذر بأن تنقطع عنه بالتدريج. ذلك إذًا، بناء ممزقا مليء بالثغرات يقدم علي أرض واهية قد امتلأ بالثقوب. وبعد كل هذا الكلام يتساءل حمدان هل معني هذا أن إسرائيل تحمل في كيانها جرثومة فنائها؟”.
يقول الدكتور جمال حمدان:”إن من حسن حظنا ــ يقصد العرب ــ في معركة المستقبل أن إسرائيل التي تتفاخر في قحة بغزوها للصحراء وتعميرها للنقب.. ليست في الحقيقة إلا قوقعة ضئيلة الحجم تتشرنق علي نفسها في تكاتف نسبي كبير. فأولاًً يترك العمران الصهيوني 60٪ من مساحة فلسطين المحتلة صحراء كاملة في النقب رغم وجود بعض المستعمرات علي أطرافه الشمالية ولكن هل بعد هذا ينتشر الدخلاء علي بقية الرقعة؟ لا شك أن شذوذ (دولة الشذوذ السياسي) يصل إلي قمته في نمط العمران ؛ فقد أتي السرطان الإسرائيلي هنا، سرطانا مدنيا تماما فكأنه طفيل من طفيلات المدن بلا جذور بيئية ، أتي الاستعمار الصهيوني لفلسطين ظاهرة مدنية بدرجة صارخة فليس يعرف العالم دولة قزمية يعيش 76٪ من سكانها في المدن إلا في إسرائيل فهي بهذا ثالثة دول العالم في نسبة حياة المدن بعد اسكتلندا ثم انجلترا وويلز”، ويؤكد الدكتور جمال حمدان عن أن تلك النسبة قد ارتفعت إلي 84٪ ومعني هذا ببساطة أن إسرائيل ليست في الحقيقة إلا مدينة شيطانية ضخمة تجمعت فيها حثالة مدن العالم ، وأن المدينة الإسرائيلية ليست إلا استقطابا لحارات اليهود في العالم. ابتداءً من (الملة) المغربية إلي (القاع) اليمني ومن حارة اليهود الألمانية إلي (الجيتو) الأوروبي.. وإسرائيل بهذا ليست في مجموعها إلا (دولة الجيتو).
ومع أن ما كتبه جمال حمدان قد نال بعد وفاته بعضًا من الاهتمام الذي يستحقه، إلا أن المهتمين بفكر جمال حمدان صبوا جهدهم علي شرح وتوضيح عبقريته الجغرافية، متجاهلين في ذلك ألمع ما في فكر حمدان، وهو قدرته علي التفكير الاستراتيجي حيث لم تكن الجغرافيا لديه إلا رؤية استراتيجية، ففي عقد الستينيات، وبينما كان الاتحاد السوفييتي في أوج مجده، والزحف الشيوعي الأحمر يثبت أقدامها شمالا وجنوبا، أدرك جمال حمدان ببصيرته الثاقبة أن تفكك الكتلة الشرقية واقع لا محالة، وكان ذلك في 1968م، فإذا الذي تنبأ به يتحقق بعد إحدي وعشرين سنة، وبالتحديد في عام 1989 حيث وقع الزلزال الذي هز أركان أوروبا الشرقية، وانتهي الأمر بانهيار أحجار الكتلة الشرقية، وتباعد دولها الأوروبية عن الاتحاد السوفييتي، ثم تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه عام 1991م.
كما كان جمال حمدان صاحب السبق في فضح أكذوبة ان اليهود الحاليين هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، وأثبت في كتابه “اليهود أنثروبولوجيًا” الصادر في عام 1967 بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلي فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلي إمبراطورية “الخزر التترية” التي قامت بين “بحر قزوين” و”البحر الأسود”، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي.. وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات “آرثر كويستلر” مؤلف كتاب “القبيلة الثالثة عشرة” الذي صدر عام 1976. ويعد جمال حمدان واحدا من ثلة محدودة للغاية من المثقفين المسلمين الذين نجحوا في حل المعادلة الصعبة المتمثلة في توظيف أبحاثهم ودراساتهم من اجل خدمة قضايا الأمة، حيث خاض من خلال رؤية استراتيجية واضحة المعالم معركة شرسة لتفنيد الأسس الواهية التي قام عليها المشروع الصهيوني في فلسطين.
كان جمال حمدان سباقا في هدم المقولات الإنثروبولوجية التي تعد أهم أسس المشروع الصهيوني، حيث أثبت ان إسرائيل – كدولة – ظاهرة استعمارية صرفة، قامت علي اغتصاب غزاة أجانب لأرض لا علاقة لهم بها دينياً أو تاريخياً أو جنسياً، مشيرا إلي ان هناك “يهوديين” في التاريخ، قدامي ومحدثين، ليس بينهما أي صلة أنثروبولوجية، ذلك أن يهود “فلسطين التوراة ” تعرضوا بعد الخروج لظاهرتين أساسيتين طوال 20 قرناً من الشتات في المهجر: خروج أعداد ضخمة منهم بالتحول إلي غير اليهودية، ودخول أفواج لا تقل ضخامةً في اليهودية من كل أجناس المهجر، واقترن هذا بتزاوج واختلاط دموي بعيد المدي، انتهي بالجسم الأساسي من اليهود المحدثين إلي أن يكونوا شيئاً مختلفاً كلية عن اليهود القدامي.
وفي وقت كان الصهاينة يروجون لأنفسهم كأصحاب مشروع حضاري ديمقراطي وسط محيط عربي إسلامي متخلف، لم تخدع تلك القشرة الديمقراطية الصهيونية المضللة عقلية لامعة كجمال حمدان، كما أنه لم يستسلم للأصوات العربية الزاعقة التي لا تجيد سوي الصراخ والعويل، واستطاع من خلال أدواته البحثية المحكمة أن يفضح حقيقة إسرائيل، مؤكدا ” أن اليهودية ليست ولا يمكن أن تكون قومية بأي مفهوم سياسي سليم كما يعرف كل عالم سياسي، ورغم أن اليهود ليسوا عنصراً جنسياً في أي معني، بل “متحف ” حي لكل أخلاط الأجناس في العالم كما يدرك كل أنثروبولوجي، فإن فرضهم لأنفسهم كأمة مزعومة مدعية في دولة مصطنعة مقتطعة يجعل منهم ومن الصهيونية حركة عنصرية أساساً “.
………..
عبد الحميد حمدان شقيقة الاصغر والذي وضع كتاب عن الدكتور جمال حمدان تحت عنوان “جمال حمدان وملامح من عبقرية الزمان ”
ويقول: كتب شقيقه الدكتور عبد الحميد صالح حمدان كتابه (جمال حمدان وملامح من عبقرية الزمان) يحكي الجانب الآخر من حياة الراحل فيقول..
– ” كانت نكسة يونيه 1967م هي التي فجرت شرارة ملحمته الكبري (شخصية مصر) فقد صدمته الهزيمة وهزت كيانه، وكان قد تنبأ بوقوع هذه الجريمة في مقال له صدر بعنوان (هل تملك إسرائيل سلاحا ذريا؟) وذلك في سنة 1965م ولم يكن ممن يستسلمون للإحباط أو فقدان الثقة، بل عكف رغم جراحه علي إنجاز شخصية مصر، وحاول في هذا الكتاب الضخم أن يعرف المواطن العادي والمثقف بجوهر وطنه ويدله علي شخصيتها المصرية والعربية، ويحدد له معدنها القومي الأصيل ودورها الإنساني والحضاري”.
– ” كان أخي عدوا لدودا للصهيونية والاستعمار الأجنبي ــ أيا كان وجه هذا الاستعمار ــ وكان دائما يحذر من النفوذ الأجنبي أيا كان لونه ودينه، وكان يحذر من الصهيونية والتمزق العربي وضعف العالم الإسلامي وفقدان العدل الاجتماعي والطغيان السياسي، وكان يعتبر ذلك كله ألد أعداء مصر.
– وقد تناثرت أفكاره ووجهات نظره حول هذه الأمور في معظم كتاباته، وكانت قضية فلسطين هي قضيته الأولي وشغله الشاغل، وصرح بأن الكارثة التي تعرضت لها فلسطين علي يد الصهيونية هي سابقة ليست لها مثيل قط في تاريخ العالم الحديث ولا العالم الإسلامي ولا العالم الثالث.
– وكان يري أن الخطر الصهيوني لا يستهدف الأرض المقدسة في فلسطين فحسب وأن تهديدها لا يقتصر علي العالم العربي وحده، وإنما يمتد إلي العالم الإسلامي كله، وكان يندد بهذا وبما يُحاك لنا في الخفاء والعلن، ويقول: إن الصهيونيات اليوم هي أكبر خطر يواجه العالم العربي وأن تحرير فلسطين هو وحدة العالم الإسلامي السياسية وأن وحدة العالم الإسلامي إنما هي فلسطين”.
– واقتربت النهاية وحان الأجل فودع الدنيا ودفن يوم الأحد 17 أبريل سنة 1993م بمقبرة العائلة بالبساتين، وهي المقبرة التي بناها والدي بعد عودته من السعودية سنة1966م ودفن بها سنة 1982م ولحقت به أمنا بعد ستة شهور، ويرقد جمال الآن بجوار والديه وبجوار من توفاه الله من إخوتي.
المصدر: صفحة حمادة إمام