“حان وقت إنهاء هذه الحرب”… أخيراً نطق جو بايدن بما يطالبه به العالم منذ شهور عديدة. بقي الآن أن يثبت القول بالفعل، فهو قوبل بالترحيب، إلا أنه ترحيب مشكّك وحذر، إذ سبق أن قال الكثير ثم تراجع أو استخدم “الفيتو”، وسبق أن انتقد حليفه الإسرائيلي بامتعاض شديد ثم ترك لمعاونيه مهمة تمييع مواقف بدت حازمة في حينها. هذه المرّة أخذ على عاتقه الإفصاح عن مضمون اتفاق اقترحته إسرائيل للتفاوض، وقدّمه مرفقاً بقراءته واستنتاجه أن الاقتراح يصلح كصيغة لوقف الحرب. غير أنه لم يقلْ إن حليفه متفق معه في ما ذهب إليه، فبينهما أهدافٌ مشتركة تحقق بعضٌ منها في الحرب وخلافاتٌ على ما بعد الحرب لم تُحَلّ، والأرجح أنها لن تُحَلّ إلا بسقوط واحد من الاثنين: بايدن أو بنيامين نتنياهو. الأول يريد الآن إنهاء الحرب علّ ذلك يساعده في إعادة انتخابه، والآخر يريد إطالة الحرب إلى ما بعد “فوز” دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية كي يبقى في حكم إسرائيل ويرضي حلفاءه المتطرّفين بفرض الاحتلال على قطاع غزّة.
على رغم كل المآخذ، يبدو أن الرئيس الأميركي حسم قرار انتفاء المصلحة في استمرار الحرب، فأخذ الاقتراح الإسرائيلي وتبنّاه ثم أخرجه كأنه “قرار” أميركي وليس مجرّد اقتراح، مخيّراً “حماس” بين قبوله بما يحمله من احتمال وقف نهائي لإطلاق النار أو رفضه ومواجهة الإجهاز على رفح. خاطب بايدن المجتمع الإسرائيلي بما يتوقعه من إفراج عن المحتجزين، وما يطمئنه إلى أن قدرات “حماس” تراجعت ولم يعد ممكناً أن تكرر هجوم 07/10 وهذا بضمانات من مصر وقطر. وخاطب الرأي العام الأميركي بما يتوقعه الناخبون الشباب من استجابة ولو متأخرة لمطالب وقف الحرب، وما يتمنّاه “اللوبي اليهودي” وسواه من أنصار الصهيونية من استعداد أميركي لتزويد إسرائيل بكل ما تحتاجه “للدفاع عن نفسها”. اعتبر بايدن أن “الصفقة” باتت على الطاولة وتحظى بموافقة واشنطن وإسرائيل، لكن المحللين الأميركيين الذين سجّلوا وجود درجة كبيرة من الجدّية في كلام الرئيس ظلت لديهم تساؤلات عن موقف نتنياهو، فالأخير اعتاد طرح صيغ لإشغال ماكينة التفاوض كسباً للوقت وليس لأنه يرغب فعلاً في إبرام اتفاق.
لم يخرج بايدن عن مصطلحات انحيازه الكامل إلى إسرائيل ونوازعها العدوانية، بل ظلّ في إطار الالتزامات التقليدية الثابتة بأمنها وتفوّقها. تحدّث بعاطفة عن الضحايا الإسرائيليين الذين قتلتهم “حماس” في هجوم “طوفان الأقصى” ولم يخصّ الضحايا الفلسطينيين إلا بإشارة عابرة، ممتنعاً عن القول إن الإسرائيليين قتلوهم ومتجاهلاً أنهم قُتلوا بأسلحة أميركية، فالـ46 ألف إنسان (مع المفقودين) قضوا بالصدفة لا عمداً. وحين تطرّق إلى المسألة الفلسطينية ظلّ في العموميات السطحية الفارغة بالنسبة إلى “حل الدولتين” وحتى في إشارته إلى “حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره”. كان في استطاعته أن يقدّم أي نوع من “الالتزامات” التي يمكن أن تميّز “إرثه” الدبلوماسي، لكنه فوّت فرصة الاعتراف بأن مآسي الحرب وفظاعاتها لا بدّ من أن تملي شيئاً من التغيير في السياسات، خصوصاً إذا تبيّن بوضوح، كما في غزّة، أن تلك السياسات أخفقت في صنع السلام ورمت بالمسألة الفلسطينية في متاهات الأطماع الإسرائيلية، فأدّت عملياً إلى تجدّد الحروب.
المؤكّد أن نتنياهو فوجئ بالطريقة التي اختارها الرئيس الأميركي للتصرف بـ”الصفقة” المقترحة. هذه المرّة الأولى التي يحشره فيها بايدن في الزاوية مع خيارات قليلة وضيقة للعرقلة والهروب إلى الأمام. لا يستطيع الرفض ولا يرغب في القبول، أي أنه وجد نفسه في موقف لا يختلف كثيراً عن موقف “حماس” التي صاغت رداً أولياً محنّكاً وهو “التعامل بإيجابية” مع الاقتراح الإسرائيلي كما قدّمته القراءة الأميركية، وخلافاً لحركة “الجهاد” التي أعلنت أنها “تنظر بريبة” إلى ما طرحه بايدن، أرادت “حماس” أن تسلط الضوء على أن الرئيس الأميركي تحدث عن “نهاية دائمة للأعمال القتالية” في المرحلة الثانية من الاتفاق، أي أن الحركة ستبدي استعداداً لقبول المقترح لكنها قبل ذلك ستطلب مزيداً من الإيضاحات لتفاصيل ونقاط كثيرة تتسم بالغموض، ويتعلّق أبرزها بالمرحلة الثانية التي لفت خبراء إلى أن النص المقترح لا يتضمّن ضوابط أو سقفاً زمنياً للتفاوض على دخولها حيّز التنفيذ. وقد تردّد في هذا السياق أن الجانب الإسرائيلي مهتمٌّ تحديداً بالمرحلة الأولى لتهدئة الرأي العام الداخلي باستعادة المجندات والمسنين من بين 33 رهينة يتوقّع إطلاقهم خلالها.
سيكون صعباً جداً على نتنياهو وحلفائه عرقلة الهدنة المرتقبة. لا يستطيع تكرار التنصّل من الاتفاق المقترح كما فعل قبل نحو شهر، لأن “مجلس الحرب” أقرّ النسخة المحدثة كما أفاد بيني غانتس. لكن رئيس الوزراء لا يريد لحكومته أن تسقط الآن تحت تهديدات إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ولن يأسف على انفراط “مجلس الحرب” الذي أقيم أصلاً بطلب أميركي، لذا فهو لن يعدم الطريقة التي تخوّله مجدداً تأجيل نهاية الحرب، خصوصاً أن أحد استطلاعات الرأي أظهر أن 85 من الإسرائيليين يؤيدون مواصلة الحرب.
لكن نتنياهو وحلفاءه مضطرون الآن للاختيار بين التعارض الكامل مع بايدن وإدارته والذهاب إلى مناورات معقّدة لقلب الطاولة، وقد بدأها نتنياهو بإعلانه أن شروط إسرائيل لإنهاء الحرب مدرجة في الاتفاق المقترح، وأنها “لم تتبدّل” (“القضاء على قدرات حماس العسكرية وعلى حكمها، تحرير كل الرهائن وضمان أن غزة لم تعد تشكّل تهديداً”)، ما يعني أن بايدن تجاهل هذه الشروط، وهذا وحده يكفي كي يصعّد الجمهوريون انتقاداتهم له بأنه “يخذل إسرائيل”، وقد يتيحون لنتنياهو فرصة مهاجمة بايدن داخل الكونغرس، كما سبق أن فعل ضد باراك أوباما في 2015 قبيل توقيع الاتفاق النووي مع إيران.
قبيل إلقاء بايدن خطابه التقى أحد معاونيه الصحافيين لشرح ما يفترض أن يلي وقف إطلاق النار وما يمكن أن يتيحه الاتفاق المزمع. ومن ذلك: اتفاق في شأن الجبهة الشمالية (مع لبنان) يمكّن المهجّرين من العودة إلى بيوتهم وأعمالهم… البدء “معاً” (المجتمع الدولي والشركاء العرب والفلسطينيون والإسرائيليون) بإعادة إعمار غزة على النحو الذي يمنع “حماس” من تشكيل أي تهديد جديد لإسرائيل… متابعة العمل على دمج إسرائيل في الإقليم “بما في ذلك إبرام اتفاق دفاعي مع السعودية”، واستناداً إلى تعاون دول المنطقة خلال التصدّي للهجوم الإيراني الجوي على إسرائيل… وأخيراً خلق الظروف المواتية لحصول الفلسطينيين على “الحرية وتقرير المصير”… وهكذا وُصف خطاب بايدن بأنه “شامل” لكن من دون أي كلمة عن دولة فلسطينية.
المصدر: النهار العربي
تضارب المصالح والأجندات بين رئيس حكومة التطرف الصهي.وني نتني.اهو والرئيس الأمريكي بايدن هل ستظهر للسطح بالصراع حول الإتفاق المقترح؟ أم هي لعبة الشد والرخي بينهما لإرضاخ المقاومة لشروط تحقق أجندتهما، وبعد المرحلة الثانية تُستكمل حرب الإبادة؟ إن المقاومة الوطنية الفلسطينية التي تقود حرب المقاومة تدرك ذلك.