شهدنا في الأيام القليلة الماضية حركتين للقضاء الدولي، واحدة في فرنسا ضد النظام السوري المتورّط في قتل اثنين (أب وابنه) من حملة الجنسية الفرنسية في 2013، والثانية في لاهاي من محكمة الجنايات الدولية ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الحرب فيها وثلاثة قياديين من حركة حماس الفلسطينية.
بدأت في 21 أيار/ مايو الحالي، في باريس، محاكمة غيابية لثلاثة من أصحاب الرتب العسكرية العالية في نظام الأسد، ثلاثة من أساطين القمع والبطش في سورية، وهم علي مملوك، الرئيس السابق لمكتب الأمن الوطني (كان اسمُه الأمن القومي قبل أن يتقطرن حزب البعث السوري بقرار حل القيادة القومية نهائياً في 2016)، وجميل الحسن رئيس شعبة المخابرات الجوية سيئة الصيت، وعبد السلام محمود، رئيس سابق لفرع التحقيق في هذه الأخيرة.
قبل ذلك بيوم، كان المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، قد طلب إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتياهو، ووزير دفاعه، غالانت، بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلى جانب ثلاثة من قادة حركة حماس، إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف، بتهم قتل المدنيين والاغتصاب واحتجاز الرهائن.
في الحالتين، بلغت الجريمة مستويات رهيبة، قبل أن يتحرّك الجهاز القضائي الذي لا يتحرّك، بطبيعة الحال، قبل أن تكتمل الجريمة وتتجاوز “المسموح”. جرى ذلك من قبل، على سبيل المثال، في يوغسلافيا السابقة وفي راوندا وسيراليون، في كل هذه الحالات، كانت السياسات مصنعاً للقتل، فيما يأتي القضاء تالياً كي يقدم نوعاً من العزاء للبشرية، على شكل محاكمة وسجن مجرمين أُتيح لهم أن يفرغوا طاقتهم الجرمية وأن يخلفوا وراءهم كوارث ومآس على البشر والعمران.
في الحالة السورية، كل من تتم محاكمتهم ضبّاط أكملوا مهامهم وتحولوا إلى “سابقين”، كما هو ملاحظ من تعريفهم. وفي الحالة الإسرائيلية تطلب الأمر نكبةً كاملة لشعب فلسطين قبل أن تقترب يد القضاء الدولي من رئيس الوزراء الاسرائيلي الحصين الذي لا يزال، بعد كل شيء، يملك من الاستعداد الجرمي، ومن المساندة الأميركية، ما يجعله يتهم المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بمعاداة السامية، ويصف قراره بالصفاقة!
لا غرو في أن محاكمة المجرمين تريح النفس، وكأنها نوع من الانتقام أو الثأر، ولكنه، مع ذلك انتقامٌ هزيل، لأنه يضع في كفّة واحدة أفرادا قلائل مقابل شعوب وجماعات ومدن وبلدات. ولا غرو في أنه يمكن اعتبار قرار المدعي العام لحظة تاريخية، فهي المرّة الأولى التي يصدُر فيها مشروع قرار ضد قادة “منتخبين” يتم النظر إليهم أنهم من المعسكر الغربي، الأمر الذي جعل الإدارة الأميركية تستنفر ضد القرار وتهدّد بمعاقبة المحكمة ومدّعيها العام، سيراً على خطى إدارة ترامب السابقة التي فرضت عقوباتٍ على المحكمة الدولية، لأنها حاولت ملاحقة أفراد من الجيش والمخابرات الاميركية بتهم انتهاكات في أفغانستان، العقوبات التي جاءت إدارة بايدن لترفعها، وها هي اليوم تهدّد بفرضها ثانية، فيما لو أصدرت المحكمة مذكّرات توقيف بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، ذلك أن من شأن التساهل إزاء التجرّؤ على إسرائيل أن يجعل التجرّؤ على أميركا هو الخطوة التالية. “إذا فعلوا ذلك مع إسرائيل، فسيفعلونه معنا تالياً”، كما قال العضو الشهير في مجلس الشيوخ الأميركي، ليندسي غراهام.
لا ينتهي الكلام هنا إلى مساواة الأنظمة السياسية في الغرب الديمقراطي مع بقية الأنظمة غير الديمقراطية أو شبه الديمقراطية في العالم. الأنظمة الديمقراطية الغربية، رغم ما تمكن الإشارة إليه من مآخذ صحيحة، سيما منها ما يخصّ السياسة الخارجية، هي الأقرب إلى احترام الإنسان بوصفه كذلك، وهي اليوم النافذة المتاحة في جدار عالم صلد لا يعطي قيمة للإنسان إلا بوصفه منتمياً إلى جماعة أو إلى قطيع، أي بوصفه إنساناً منقوص الذاتية. ولكن الكلام يريد الإشارة إلى أمرين في القضاء الدولي الراهن: الأول أن هذا القضاء في أحسن حالاته، لا يستطيع أكثر من أن يقايض كوارث واسعة لشعوب وجماعات بمحاكمة أفراد، هذا إذا تمكّن من محاكمتهم. والثاني، أن الأنظمة الديمقراطية الغربية التي جعلت من القضاء الدولي أمراً ممكناً، يمكن أن تفقد “ديمقراطيّتها” حين يتعارض صوت هذا القضاء مع سياساتها وانحيازاتها السياسية.
لا يستطيع العالم تجاوز الضرورة السياسية التي تفوّض مجموعة أفراد (حكومة) باتخاذ القرارات باسم شعوب، وتضع كل الطاقات التي يحوزُها البلد في خدمة هذه القرارات. غير أن هذه الضرورة تفتح الباب، ما لم يحتكم العالم إلى آليات تحكيم، أمام تسخير الإمكانات الكاملة للبلدان لارتكاب جرائم كبرى، أكان على شكل قمع داخلي، كما في الحالة السورية، أو على شكل حروبٍ كما في الحالة الروسية مع أوكرانيا أو الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ولم يستطع القضاء الدولي أن يغلق هذا الباب بعقوباتٍ تاليةٍ بحق أفراد، كما بيّنت التجارب الكثيرة. يمكن للقضاء الدولي أن يكون أكثر خدمة للبشرية إذا جرى تفعليه، ليس بوصفه وسيلة عقاب على الجريمة، بل بوصفه وسيلةً لتفادي الجريمة ومنع وقوعها، اعتماداً على قانون دولي، أي تفعيل التحكيم الدولي. صحيحٌ أن هذا يتطلب قدراً كافياً من العدالة في العالم بما يسمح للسياسة أن تكون وسيلة لإدارة شؤون الدول والشعوب، وليست وسيلة للسيطرة والاستتباع بما يقود إلى توليد موجات عداءٍ وحروبٍ لا نهاية لها، الأمر الذي يطبع تاريخ العالم برمته.
اليوم يبدو كما لو أن دور المؤسّسات القضائية الدولية في نظام التطاحن العالمي الذي يغذيه الظلم المتسلسل والنزوع الدائم إلى السيطرة، أن تخفّف شيئاً من عذاب ضمير البشرية على جرائم لا تفشل السياسات في تفاديها فقط، بل وتحرّض عليها وتدفع إلى ارتكابها. فالقضاء الدولي، الأقرب إلى تمثيل العدل والحق، يبقى بطبيعته صامتاً لا يتحرّك إلا بعد أن تتحوّل المدن إلى ركام، وتغصّ الأرض بالدماء والسماء بالأرواح. وحتى حين يتحرّك، فإن جل ما يستطيعه أن يحاكم فرداً أو أفراداً، بطريقةٍ يفترض بها أن توحي للعالم أنه تم إحقاق الحقّ، وأن توحي لضمير العالم بأن له أن يرتاح.
المصدر: العربي الجديد
أن محاكمة المجرمين تريح النفس، وكأنها نوع من الانتقام أو الثأر، ولكنه، مع ذلك انتقامٌ هزيل، لأنه يضع في كفّة واحدة أفرادا قلائل مقابل شعوب وجماعات ومدن وبلدات تأثرت بإجرامهم، محاكمة ثلاث ضباط لنظام دمشق بفرنسا ومحاكمة الكيان الصه.يوني بمحكمة العدل بلاهاي، يصدر الحكم بعد تنفيذ الجريمة وفشل السياسات في تفاديها أو وقفها.