شهد العام الجاري 2024 تغييرات عدة أحدثها النظام السوري في المستويات الأمنية والعسكرية والحزبية، في سياق مشهد سياسي متغير بسبب التحوّلات الداخلية في سورية، والتطورات على مستوى المنطقة والعالم.
يهدف تقدير الموقف هذا إلى تقييم هذه التغييرات، وفهم دوافعها وغاياتها وتأثيراتها في النظام السوري، وعلاقاتها بحلفائه والبلاد العربية التي عملت على تطبيع العلاقات معه. ويحاول الإجابة عن سؤال أساسي يتعلّق بدوافع النظام السوري لإحداث هذه التغييرات: هل كانت تلبية لحاجات داخلية للنظام بغية ضمان استمراره، وبقاء بشار الأسد في السلطة رغم استنفاده فترات الرئاسة التي يسمح بها الدستور الحالي؟ أم كانت بفعل عوامل وفاعلين خارجيين، أوجبت على النظام التحرّك لتلبية مطالبهم؟
أولًا: التغييرات على المستوى الأمني والعسكري
على الصعيد الأمني، أعلن النظام السوري في بداية العام الجاري “خريطة طريق أمنية” جديدة، تضمّنت إعادة هيكلة وتعيينات جديدة، حيث صدر قرار بتحويل مكتب الأمن الوطني، من جهاز تنسيقي تابع للقصر الجمهوري، إلى مؤسسة أمنية عليا تُشرف على الفروع والإدارات الأمنية الرئيسية، وشملت التعديلات تعيين اللواء كفاح الملحم رئيسًا لجهاز الأمن الوطني، خلفًا للواء علي مملوك الذي أصبح مستشارًا للشؤون الأمنية في الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، وتعيين اللواء كمال الحسن رئيسًا لشعبة الأمن العسكري، وتعيين اللواء ناصر العلي رئيسًا لشعبة الأمن السياسي، واللواء قحطان خليل رئيسًا لإدارة المخابرات الجوية، خلفًا للواء غسان جودت إسماعيل.
وعلى الصعيد العسكري، سرّع النظام جهود إعادة تنظيم وهيكلة القوات المسلحة في أواخر العام 2023، حيث أعلن مدير الإدارة العامة في وزارة الدفاع اللواء أحمد سليمان، لوسائل إعلام رسمية، خطة “تشكيل جيش احترافي”[1]، مهّد لها النظام بعددٍ من القوانين والقرارات والتدابير، تشمل منحًا وحوافز للراغبين في الالتحاق بالجيش بصفة متطوعين، ودمج عدد من الإدارات المتخصصة في الجيش[2].
وفي إطار التعيينات العسكرية الجديدة، تولّى اللواء سهيل الحسن (الملقّب بـالنمر) قيادة القوات الخاصة، خلفًا للعميد مضر محمد حيدر، وخلفه اللواء صالح عبد الله في قيادة (الفرقة 25) التي أسستها روسيا من مقاتلي ميليشيا “قوات النمر”، وتقدّم لها الدعم منذ عام 2019، وهو الذي كان قائد (الفرقة 30) في الحرس الجمهوري.
وتشير هذه الاستراتيجية الأمنية الجديدة والتعيينات، والتغييرات العسكرية، إلى توجّه النظام السوري نحو تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي يرجح أنها تتضمن ما يلي:
- تثبيت مركزية مكتب الأمن الوطني،بجعله المكلّف بتنفيذ استراتيجية السيطرة والرقابة والتنسيق بين أجهزة الأمن الأساسية، لضمان تحقيق أقصى فائدة من جهودها المشتركة، وإخضاعها لقيادة مركزية موحدة تتلقى توجيهاتها من رأس النظام.
- تقليص نفوذ حلفاء النظام وقدرتهم على التأثير في الأجهزة الأمنية، باختيار أكثر الشخصيات ولاء لرأس النظام وأكثرهم موثوقية وقدرة على ضبط عمل الأجهزة من خلال مكتب الأمن الوطني.
- إظهار قدرة النظام على الإمساك بمفاصل الدولة ومؤسساتها الأهم، ومدى سيطرته، وتمكّنه من ضمان استمراره، وتكييف نفسه مع المتغيرات العسكرية والأمنية في البلاد.
- إبداء مرونة، ولو شكلية، بمواجهة مطالبات الدول العربية التي تقود جهود إعادة تعويم النظام السوري، من خلال تغيير القيادات وإدخال تعديلات في الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية، التي يعوّل عليها لضبط الأوضاع الداخلية، ومتابعة التنسيق الأمني مع دول المنطقة، ولا سيما متطلبات مبادرة “خطوة مقابل خطوة” العربية.
ثانيًا: التغييرات على المستوى الحزبي
عقد حزب البعث العربي الاشتراكي مؤتمره الأخير في 2 أيار/ مايو 2024، حيث أعلن “انتخاب” بشار الأسد أمينًا عامًا للحزب، وانتخاب قيادة مركزية للحزب تضم 14 عضوًا جديدًا، غابت عنها جميع الشخصيات القديمة التي عرفتها قيادة حزب البعث السوري سابقًا.
وتحدث بشار الأسد، في خطاب له أمام اللجنة المركزية الموسعة، عن مرحلة جديدة من تاريخ حزب البعث، وصفها بأنها تمثل “إعادة تموضع”، وأشار في خطابه إلى إبعاد الحزب عن “إشكالات العمل الإجرائي اليومي الذي تقوم به الحكومة، وبالتالي تحميل الحزب مسؤوليات لا يحملها”[3]، وهو ما يعتبر إعلانًا بإبعاد حزب البعث عن مؤسسات الدولة، وتثور الشكوك هنا حول مدى جدية النظام في تنفيذ هذه الخطوة.
ويمكن أن تعكس التغييرات في قيادة حزب البعث وإعادة تموضعه تحوّلًا في رؤية النظام السوري لدور الحزب مستقبلًا، بما قد يشير إلى أهداف عدة يتوخى النظام تحقيقها، من أبرزها ما يلي:
- تحسين كفاءة التشكيلات الحزبية، فالحزب بدا عاجزًا خلال سنوات الصراع عن تقديم الدعم الأيديولوجي والتحشيد لصالح سياسات النظام بمواجهة الحراك الاحتجاجي الذي انخرطت فيه فئات كانت تشكّل قاعدة الحزب الشعبية على مدى عقود، ما يقتضي تغييرات قيادية لوجوه قديمة بأخرى أكثر ديناميكية وكفاءة قادرة على التكيّف مع التطورات الداخلية الناتجة عن الصراع، من خلال إشراك عناصر جديدة من فئات أثبتت ولاءها المطلق خلال سنوات الصراع.
- إعادة توجيه دور حزب البعث، ليكون جزءًا من استراتيجية أوسع ينفذها النظام لإحداث تغيير دستوري يمنح بشار الأسد فترات رئاسية جديدة.
- إظهار مرونة واستعداد للتغيير، في محاولة لتحسين صورته أمام المجتمع الدولي والدول العربية.
ثالثًا: التغييرات في إطار استراتيجية بقاء الأسد
على الرغم من أن جميع التغييرات التي أحدثها النظام السوري، في هياكله الأمنية والعسكرية والحزبية، تُعد تغييرات جزئية، وكثيرًا ما نفذ النظام خلال العقود الأخيرة مثيلات لها، من دون أن يظهر أي أثر ينال من سلطته وتسلّطه، فإنها تبقى ذات طابع شكلي، ومن غير المتصوّر أن تُحدث تغييرات جوهرية في النهج الأمني الذي لا يزال حجر الأساس في سياسات النظام السوري، خاصة أن هذا النهج أدى أدوارًا كبيرة في قمع الاحتجاجات والمعارضة، منذ بداية الثورة السورية حتى وقتنا الراهن، ما يرجّح وجود توجه للنظام نحو اعتماد استراتيجية شاملة لإدارة المرحلة القادمة، اعتمادًا على تكتيكات تخدمها هذه التغييرات.
ولا يمكن تصور أن تشكل مطالب الدول العربية التي تقود حملة تعويم النظام دافعًا حاسمًا لإحداث النظام تغييرات جدية وذات معنى، تؤدي إلى تحوّل حقيقي يفتح المجال للتغيير في سورية، في حين تظهر مؤشرات واضحة على وجود استراتيجية لمرحلة جديدة تركز على انتخابات العام 2028، حين تنتهي الولاية الرئاسية الأخيرة لبشار الأسد بموجب دستور 2012، ويضع النظام سلسة التغييرات السابقة في إطار تنفيذ هذه الاستراتيجية، وهو ما يشكل مدخلًا أكثر جدية لفهم ديناميكيات إدارة النظام السوري للمرحلة الحالية.
ومن المرجح أن نشهد تغييرات واسعة في تركيبة مجلس الشعب القادم وشخصياته ودوره، وكان بشار الأسد قد أصدر في 11 أيار/ مايو 2024 مرسومًا يقضي بتحديد تاريخ 15 من تموز/ يوليو 2024 موعدًا لانتخابات أعضائه للدور التشريعي الرابع[4]، وهو المؤسسة التي ستتولى تمرير التعديلات الدستورية المطلوبة لضمان مخرج “شرعي” يُبقي بشار الأسد في السلطة، بعد أن استنفد فترتي الرئاسة المسموح بهما بموجب الدستور الحالي.
النتائج:
تشير المتغيرات التي أحدثها النظام السوري أخيرًا إلى وجود سعي حثيث وتوجّه متعدد المستويات نحو ضمان استمرار بقاء النظام، وذلك من خلال التوجهات التالية:
- تعزيز سيطرة النظام ومركزية تحكّمه في الشؤون الأمنية، عبر تنظيم فعالية الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية الأساسية، بما يخدم أجندته في تحقيق الاستدامة في الضبط الأمني، والاعتماد على الدور الذي يلعبه ولاء القيادات الأمنية والعسكرية في استقرار النظام.
- تعزيز سيطرة بشار الأسد على هيكل حزب البعث، بضمان استمرارية ولائه، مع تجديد قيادته المركزية، بهدف تكييف الحزب مع دور مستقبلي يعيد إمكانية اعتماده كأداة رئيسية لحشد المجتمع والسيطرة عليه.
- تكشف طبيعة التغييرات الأخيرة أن الدوافع وراء التغييرات تتمثل بالأساس في هاجس الحفاظ على السلطة، وتهيئة الظروف المناسبة لتنفيذ استراتيجية تضمن وجود مخرج دستوري “شرعي”، يمكن بشار الأسد من فترات رئاسية جديدة مع حلول موعد انتخابات العام 2028.
- إن التحديات الداخلية التي يواجهها النظام السوري، الاقتصادية والاجتماعية، والأزمات المعيشية التي يعانيها المواطنون السوريون في مناطق سيطرته، والضغوط الدولية والعقوبات، ومطالب التغيير الخارجية، لا تشكل عاملًا ذا أثر في نهج وسياسات النظام لإدارة أزمته، مع أنه يحاول تسويق هذه التغييرات على أنها استجابة لمطالب دول التطبيع معه، ويسعى للحصول على مقابل يمكّنه من تجاوز الصعوبات المتنوعة التي يواجهها.
إن التطورات والتغييرات التي يُحدثها النظام السوري تستدعي من الباحثين مراقبة الأوضاع المتغيرة وتقييمها وتحليلها، ووضعها في سياق محاولات النظام تهيئة الظروف لتعديل دستوري يتيح لبشار الأسد فترات رئاسية جديدة.
[1] حوار خاص مع مدير الإدارة العامة في وزارة الدفاع اللواء أحمد سليمان، حول المرسوم التشريعي رقم/37/ لعام 2023، موقع قناة السورية على منصة يوتيوب، 02/12/2023، شوهد في 19 أيار/ مايو 2024، الرابط https://www.youtube.com/watch?v=MdlAdJQCBhA
[2] بحسب مصادر عسكرية، تم حلّ إدارة الكيمياء لتحل مكانها إدارة الوقاية الكيميائية، وجرى دمج مؤسسة الأشغال العسكرية مع مؤسسة الإسكان العسكري، ودمجت إدارة النقل مع إدارة المركبات، في حين جرى حل إدارة الحرب الإلكترونية ودمجت تخصصاتها بإدارة الإشارة، انظر: قوانين جديدة..”حوافز” و”خطة سرية” لـ”إعادة هيكلة” جيش النظام، موقع السورية نت، تاريخ النشر 6 كانون الأول/ ديسمبر 2023، شوهد في 19 أيار/ مايو 2024، الرابط https://2u.pw/J2WDKSO8
[3] كلمة بشار الأسد الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية، موقع وكالة سانا على منصة يوتيوب، تاريخ النشر 04/05/2024، شوهد في 19 أيار/ مايو 2024، الرابط https://www.youtube.com/watch?v=JA5rNc0et3E
[4] الرئيس الأسد يصدر مرسومًا بتحديد الـ 15 من تموز القادم موعدًا لانتخابات أعضاء مجلس الشعب، وكالة سانا، تاريخ النشر 11 أيار/ مايو 2024، شوهد في 20 أيار/ مايو 2024، الرابط https://sana.sy/?p=2084322
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
قراءة موضوعية عن التغيرات الأخيرة في بنية النظام السوري (الدوافع والغايات) موثقة أكاديمياً ، أولًا: التغييرات على المستوى الأمني والعسكري، ثانيًا: التغييرات على المستوى الحزبي، ثالثًا: التغييرات في إطار استراتيجية بقاء الأسد، متغيرات يمكن إعتبارها بروباغندا ينفذها نظام طاغية لإظهار تغيير سلوكه لضمان إستمراره على كرسي سلطته .