الحركة ليست بركة دائمًا

حازم نهار

حركة معاندة للواقع وقوانينه الكبرى:

كان لي في زمن مضى صديق مفعم بالحيوية، ناشط سياسي، يهرع من مكان إلى آخر، ومن محافظة إلى أخرى، يلتقي بالجميع، يتواصل مع الإعلام، يُرسل الرسائل إلى المئات عبر البريد الإلكتروني، يطبع المنشورات ويوزِّعها، يتصل تلفونيًا بالعشرات، يناقش كثيرين ممن يتواصل معهم ويحاورهم، ويقدِّم المشاريع ويصنع المبادرات السياسية، ويواظب على حضور الندوات العامة والخاصة، وهكذا. لكن صديقي هذا لم يكن يسمح لنفسه بلحظة تأمل يسأل فيها نفسه الأسئلة الجوهرية المشروعة، تلك الأسئلة التي تتعلق بمسارات الواقع واتجاهاته، ما يسمح له بتقويم نشاطه الكبير وجدواه في ضوء ذلك.

وكان صديقي هذا نفسه قد صرَّح بأنه “ضد العولمة” آنذاك، من دون أن يتساءل عن قيمة هذا الرأي علميًا أو واقعيته. لكن هذا التصريح يتوافق مع تفكيره وعمله اللذين يرتكزان أولًا وأخيرًا على إرادته العالية لا على قراءة عاقلة للواقع. هذا التصريح مماثل تمامًا لقولنا “أنا ضد الشمس”، مع أن الشمس جزء من الوجود الخارج على إرادة البشر. ولذلك فإن حرية المرء (والجماعة) وقدرته تتعينان عندما يحترم قوانين الطبيعة والواقع، لا بخروجه عليها وإنكارها وتحدّيها.

فلكي تكون حركة المرء (أو الجماعة) مجدية لا بدَّ لها من الاتساق مع المسار العام للواقع واحترام قوانينه الأساسية والإقرار بها. لقد حفل الواقع السوري، وما يزال، بكثيرين يشبهون صديقي، نياتهم مخلصة، ولديهم فيضٌ من الحماسة، لكن حركتهم لم تكن تصبُّ في طريق موازٍ لمسار الواقع أو متوافقٍ معه، ما جعلها حركة غير منتجة وبلا جدوى في المآل. لقد مرت لحظات، بعد الثورة السورية، كنا نرى كثيرًا من السوريين ينتقلون من مكان إلى آخر، ومن مؤتمر إلى غيره، يتحدثون مع القنوات الفضائية والسفراء وممثلي خارجيات الدول والأمم المتحدة (ديميستورا مثلًا التقى بآلاف السوريين الذين كانوا يتسابقون لرؤياه)، فانغرَّ كثيرون منهم بأنفسهم، واعتقدوا أنهم يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه.

هؤلاء الذين يتحركون كثيرًا من غير هدىً، أي من دون قراءة الواقع حقًا واستكشاف مساراته الأساسية، يصبحون أسرى حراكهم الداخلي المغلق على نفسه، فيرون الواقع من خلال حراكهم، بدلًا من أن ينظروا إلى حراكهم وفاعليته وجدواه في ضوء الواقع. هذه الحال تشبه حال الطبيب الذي يبقى ملازمًا عمله داخل المشفى مدة طويلة، فيعتقد أن العالم كله مريض، وأنه لا يوجد عالم من الأصحاء مختلف عن عالم المشفى.

هؤلاء المنهمكون في الحركة الداخلية معرّضون لازدياد مساحة الأوهام في رؤوسهم، وقد يصلون إلى لحظة يعتقدون فيها أن الواقع يتحرك بتحركهم، ويتغير بأفعالهم، في حين أن الواقع لا يكترث لهم ولا لحركتهم، ما يعني أنهم سيكونون في الحصيلة عاجزين عن رؤية الواقع الحقيقي بمعزل عن حركتهم الفائضة. قد يعتقد المرء المنهمك في كتابة لافتات التظاهرات مثلًا، من كثرة استغراقه في هذا الفعل النبيل والمهم، بأن مسار الواقع يتوقف على نشاطه أو أنه قريب من تحقيق الانتصار وتأسيس عهد جديد، فيما الواقع يتحرك بعيدًا من شعاراته.

من أسئلة الواقع السوري الجوهرية أو المفتاحية التي لم يتوقف عندها أولئك الذين كانوا يتحركون كثيرًا أو أجابوا عنها إجابات خاطئة: هل هزيمة “النظام السوري” عسكريًا ممكنة؟ هل ستتدخل أميركا عسكريًا لمصلحة الثورة؟ هل سيقبل السوريون ودول الجوار والدول الكبرى بمظاهر أو شعارات إسلامية؟ هل يمكن فعلًا بناء سورية بسهولة بعد رحيل نظامٍ مثل النظام السوري؟ الأنكى أن الجزء الأكبر من النخب السياسية والثقافية المعارضة قد أجاب عن هذه الأسئلة بصورة خاطئة، بحكم ضلاله أو سطحيته أو تحكم الرغبة في تحليلاته وقراءته للواقع، ما جعل المسار العام لحركة المعارضة والثورة متخمًا بالأوهام وغيرَ مجدٍ وبلا بركة، مع ما رافق ذلك من تضليل السوريين وارتفاع تكلفة تضحياتهم من دون أي ملامح أو مؤشرات للحصول على البركة المتوخاة.

هذا يجعلنا نقول إن الحركة المعاندة للواقع، أو الحركة التي لا تقرّ بقوانينه الأساسية، ليست بركة. وإن قراءة الواقع واستكشاف اتجاهاته وموازينه والحدود التي يسمح بها شرطٌ رئيس لكل حركة تتوخى البركة.

حركة أفقية ناشطة وحركة عمودية بائسة:

هناك في الواقع السوري، بدءًا من عام 2011 وإلى اليوم، حركة أفقية ناشطة على الرغم من تفاوت وتيرتها بين لحظة وأخرى، فيما الحركة العمودية تكاد تكون معدومة أو محدودة. هناك نشاط واسع على مستوى البيانات والندوات واللقاءات والمؤتمرات والمشاريع المقترحة والمبادرات التجميعية، لكن النشاط ما يزال هزيلًا على مستوى الأعمال العمودية، أي الأعمال العميقة أو التأسيسية، تلك الأعمال التي تتصف بالرسوخ والاستمرارية وتعمل على تغيير العقول والرؤى والتصورات، بدليل أننا ما زلنا ننتج أشكال العمل ذاتها والأخطاء نفسها.

لا تزيد الحلول المقترحة في الساحة السورية، بأشكالها وتلويناتها كافة، على أن تكون محاولات تجميع و”لملمة” على أرض رملية هشة، إذ سرعان ما تُشكَّل التجمعات، وسرعان ما تتفكك وتتشظّى. تشبه ساحة المعارضات السورية رقعة الشطرنج التي تتحرك أحجارها بحركات مختلفة كل مرة فيما عددها ثابت وحدود حركتها ثابتة ومساحة رؤيتها ثابتة لا تتعدى ساحة رقعة الشطرنج، فما يتغير هو طريقة اصطفاف الأحجار في كل لعبة أو لحظة وحسب. ربما يكون تغيير الأشخاص والعقول معًا هو أحد عناصر التغيير المهمة.

المبادرات والحلول التأسيسية غائبة، وهذه لها أشخاصها وأدواتها وآلياتها المختلفة عمّا هو سائد. إنها غائبة، ولا يُفكَّر فيها أصلًا لأن الفاعلين مستعجلون ويريدون إنجازات سريعة أو لأن ضغط الواقع بما فيه من دم ومعاناة وتشرد واعتقال لا يسمح بالتفكير في حلول تأسيسية بعيدة المدى أو ينظر إليها بصورة استنكارية. الحلول السريعة أكثر رواجًا وطلبًا، وأكثر انتشارًا، وأصحابها كثيرون وينشطون كثيرًا، لكن الواقع يرفضها ويتحرك بعيدًا منها.

حركة اعتباطية:

كل حركة لا مركز لها هي حركة اعتباطية. في ظل غياب الدولة (أو القانون أو القضاء) تتحول حركة البشر إلى حركة فوضوية واعتباطية وتكرارية؛ تصطدم أي مبادرة في الوضع الفوضوي بإرادات متنوعة لإفشالها أو تصطدم بمبادرات أخرى تنافسها أو تعاندها لأسباب بريئة أو غير بريئة، وهذه الحال تكررت كثيرًا في الواقع السوري إلى درجة أصبحت فيها إعادة هيكلة التشكيلات السياسية على الأسس ذاتها فولكلورًا سوريًا.

تتجلى الحركة الاعتباطية في تكرار القيام بالعمل نفسه، ووفق الآليات ذاتها، مرات عديدة. لم يُنتبه مثلًا إلى أن سائر التشكيلات التي تُبنى على أساس تمثيلي ستتفكك بسرعة، لأنَّ التمثيل هو الابن الشرعي للانتخاب، وما دامت إمكانية تنظيم الانتخاب غير موجودة فإنه ببساطة لا إمكانية لبناء تمثيل حقيقي أو شرعي أو مقبول من الأغلبية. ما إن يُعلن عن تمثيلٍ من نوع ما حتى تبدأ الاعتراضات: من الذين جعلكم ممثلين للشعب السوري؟ نحن أولى بتمثيل المحافظة أو المدينة الفلانية منكم، لماذا أنتم وليس نحن؟ وهكذا. في بداية الثورة، في نيسان/ أبريل 2011، أُعلن عن تشكيل تنسيقية مدينة دوما، وكانت تتألف من 11 عضوًا، لكن بعد أشهر قليلة أصبح لدينا 11 تنسيقية في مدينة دوما وحدها، وكلٌّ منها تدعي تمثيل الحراك الشعبي في مدينة دوما!

فكرة تمثيل الشعوب والبشر من أكثر المقولات والآليات السياسية حماقة في ظل وضع لا تُتاح فيه إمكانية إجراء انتخابات. لقد فرح أعضاء “المجلس الوطني السوري” بلافتة “المجلس الوطني يمثلني”، ومثلهم أعضاء “الائتلاف الوطني”، ومثلهم أيضًا ما تُسمى “المجالس المحلية”، وغيرها، بحكم أوهامهم في قراءة الواقع من جهة، ونتيجة تزاحمهم الساذج على الصفّ الأول من جهة ثانية.

حركة أحادية:

في الواقع السوري، هناك نمط من الحركة استند إلى برنامج الهدف الواحد أو النقطة الواحدة. مثلًا لم يكن أمام “المجلس الوطني السوري” سوى نقطة واحدة هي “إسقاط النظام السوري” عبر التدخل الخارجي، فيما كانت أمام “الائتلاف الوطني السوري” مهمة وحيدة هي “إسقاط النظام السوري بالسلاح”، ومن ثم عدَّلت الدول الفاعلة مهمته إلى “مهمة التفاوض مع النظام السوري”، ودُفع للمشاركة في “الهيئة العليا للمفاوضات”. لم تكن هناك أي مهمات أخرى أمام “المجلس الوطني” أو “الائتلاف الوطني”، ولذلك عندما ظهر أن الهدف الوحيد المعلن عنه بعيد المنال، ارتطم رأس “المجلس الوطني” بالحائط، وتحول “الائتلاف الوطني” إلى أجير في خدمة السياسة التركية لا أكثر.

لا يطال هذا القصور المجلس والائتلاف وهيئة المفاوضات وحسب بل معظم التشكيلات التحالفية التي بُنيت على أساس المهمة الواحدة، والتحالفات الأخرى التي وضعت مهمات متعددة لها لكنها لم تفعل شيئًا سوى انتظار إنجاز مهمة إسقاط النظام!

من جانب آخر، لا يكفي الاتفاق على هدف واحد لنستطيع العمل معًا، ولنتمكَّن من بناء تحالف سياسي حقيقي وديمقراطي. لا يفيد سورية أو السوريين التحالف بين مجموعة قوى لإسقاط “النظام السوري” من دون الاتفاق أيضًا على الأساسيات؛ كيف وبأي وسيلة؟ ومتى؟ وما التكلفة المحتملة المقبولة؟ وما سمات النظام الجديد المأمول؟ بالتأكيد لا ينفع سوريا والسوريين رحيل نظام استبدادي والإتيان بنظام استبدادي آخر لكن من طبيعة أخرى.

خطوة إلى الوراء من أجل خطوات نحو الأمام:

هل يصبُّ الكلام السابق في خانة الانهزامية والاستسلام كما قد يرى بعضنا؟ أعتقد أنه يهدف إلى العكس تمامًا، فمن خلال إعادة النظر الواعية في مجمل حركتنا، قد تُتاح لنا فرصة إعادة بنائها على أسس عقلانية مغايرة.

يهدف الكلام السابق إلى الحدِّ من هدر الوقت والطاقات في أعمال لا جدوى منها. فمسارات السياسة العقلانية تتمثَّل إما بالبحث عن حلول مؤقتة، لكن مفتوحة وغير نهائية، تتوافق مع موازين القوى ومسار الواقع وإمكاناته أو بالبحث عن حلول تأسيسية بعيدة المدى تأخذ في حسبانها تحويل الأهداف الكبرى المشروعة إلى برنامج عمل سياسي يؤمن بالحلول المتدرجة، وبمراكمة المكاسب والإنجازات التفصيلية والصغيرة، أو بالسير في الطريقين كليهما معًا.

نحن في حاجة إلى أعمال سياسية تأسيسية قادرة على البقاء والاستمرار، تساهم تدريجًا في بناء واقع آخر عبر تشكيلها لميزان قوى حقيقي يطال السياسة والثقافة والإعلام والعمل المدني، بدلًا من الفقاعات والأعمال المرتجلة والسريعة والواهمة. نحن في حاجة إلى قراءة استراتيجية عميقة لمسارات الواقع وإمكاناته من أجل استكشاف المساحات التي يمكن التحرك فيها فعلًا، ولتكون حركتنا متسقة مع مسار الواقع وقوانينه المتحكمة فيه، وفي حاجة أيضًا إلى إيلاء اهتمام كبير بالحركة العمودية إلى جانب الحركة الأفقية، والابتعاد كثيرًا من الاعتباطية والأحادية، ربما وقتها تحظى حركتنا بشيء من البركة.

المصدر: موقع +963

 

قد لا يعبر هذا المقال بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى