كثيرٌ من الانتقادات وُجِّهت لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس بشأن ما قاله حول” أمن إسرائيل” في اجتماع خاص للمنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) في الرياض في 28 نيسان/أبريل 2024. يتركَّز هذا المقال على تقرير حقائق جوهرية تتعلق بصميم القضية الفلسطينية لم تتطرق إليها الانتقادات، تاركينَ تقييم طبيعة تلك الانتقادات وموضوعيتها.
ناهيكم عن الإجماع العام بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد اتسم بالضعف في تعامله مع الإسرائيليين – وهذا ناجم من ضعف الوضع الداخلي الفلسطيني بسبب الانقسام وضعف الوضع الأمني العربي عموماً -، غير أنَّ كلام عباس عن” ضمان أمن إسرائيل” لا يُمثِّل رأياً شخصيّاً له، بل هو رأي منظمة التحرير الفلسطينية التي تضم أغلب الفصائل الفلسطينية باستثناء حماس. موقف محمود عباس يُمثل، إلى حدٍ كبير، حركة حماس نفسها. سنرى ذلك بعد قليل.
كانت حماس قد أعلنت في أيار/مايو عام 2017 في” وثيقة مبادئ سياسية جديدة” عن موافقتها على” إقامة دولة فلسطينية واحدة، عاصمتها القدس، على حدود عام 1967 دون الاعتراف بإسرائيل”.
أمَّا منظمة التحرير الفلسطينية، بكافة فصائلها الكبيرة والصغيرة، فقد أعلنت في وقت مُبكِّر جداً عن موافقتها بإقامة” دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود الرابع من حزيران 1967”. يتضمن موقف منظمة التحرير أيضاً، بين أمور أخرى، الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والدولة الفلسطينية الوليدة، وضمان كل طرف احترام سيادة وأمن الطرف الآخر.
بمعنى آخر، هناك شُبه تطابق بين موقفيْ حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية بخلاف” الاعتراف بإسرائيل”. لكن السؤال: هل بمقدور حماس أن تضمن ديمومة الدولة المُستقلة دون ضمان اعتراف إسرائيل بهذه الدولة؟ مستحيل.
علاوة إلى ذلك، هناك تضاد يفلق الرأس. فإلى جانب وثيقة المبادئ السياسية الجديدة التي أعلنتها حماس قبل سبع سنوات والتي وصلت، من دون شكّ، إلى كافة دول العالم، تواصل حماس أو الفصائل التابعة لها حتى اليوم الإعلان بأن هدفها هو تحرير الأرض” من النهر إلى البحر”. أي مِن الموقِفَين هو الصحيح، وكيف يمكن التوفيق بينهما؟
إذن، جوهر كلام محمود عباس حول ضمان أمن إسرائيل، بأي طريقة كان قد نطقه، لا يُخالف مطلب الفلسطينيين بما فيها حماس، ولا مطالب الدول العربية -منذ قِمم السبعينات حتى اليوم-، التي تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود الرابع من حزيران 1967 مع الاعتراف المتبادل وضمان كل طرف احترام سيادة وأمن الطرف الآخر.
لكن بسبب عدم إجراء انتخابات تشريعية منذ فوز حماس في انتخابات 2006، وبسبب غياب استطلاعات الرأي العام وانعدام الحريات العامة…الخ، لا أحد يعرف على نحو دقيق ما هو رأي الفلسطينيين اليوم: المضيّ نحو مطالب إقامة الدولة المستقلة مع الاعتراف بإسرائيل وضمان أمنها، أو إقامة الدولة المستقلة دونَ الاعتراف بإسرائيل.
في 2021، ألغت السلطة الفلسطينية الانتخابات التشريعية قبل إجرائها بثلاثة أسابيع من موعدها، أو بعد أربعة أشهر فقط من الإعلان عنها رسمياً. كافة المؤشرات والدلائل قالت في حينه أن إدراك السلطة الفلسطينية وجود إمكانية كبيرة بفوز حماس في الانتخابات ثانيةً، هو الذي دفعها لإلغائها. لكن مخاوف السلطة هذه لا تكفي لتأكيد رفض الفلسطينيين مشروع إقامة الدولة المستقلة ولا يعني بالضرورة تأييدهم لحماس.
اليوم الأمور تغيَّرت جذرياً. في حربها على غزة، لم تمارس إسرائيل” الإبادة الجماعية للبشر Genocide” فحسب، بل مارست نوعاً جديداً من الإبادة لم تعرفه البشرية مِن قبل باسم” الإبادة الجماعية للسكن democide”، بمعنى تحويل كل مبنى صالح للسكن إلى ركام كي لا يجد الناس بعد ذلك مكاناً للسكن في أرضهم مما يدفعهم للهجرة.
لابد من التوضيح هنا، أن مُصطلح” الإبادة الجماعية للسكن democide” ليس من عندي، بل هو جديد بدأ استخدامه في الغرب حديثاً من قبل كتاب وسياسيين وصحفيين وغيرهم.
الآن، وبعد حرب الإبادة هذه التي أعادت غزة إلى العصر الحجري، ومع احتلال أربع عواصم عربية، ومع توسُّع القناعة الشاملة لكل عربي بخداع وأكاذيب ما يُسمى بـ” جبهة الممانعة” وعلى رأسها إيران بشأن فلسطين، ومع إفلاس كافة الدول العربية باستثناء دول الخليج، ومع استحالة توفير 20 مليار دولار لإعادة إعمار غزة التي تحتاج مدة تصل إلى عقدَين -حسب التقديرات الغربية في 30 كانون الثاني/يناير الماضي-، ماذا سيختار الفلسطينيون من طريق؟
هذا المقال قد لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع