هجوم إسرائيل على إيران ليلة أمس، بما يشبه عملية مستقبلية محتملة في رفح، جاء على الطريق؛ لأنه خلافاً للاتفاق القديم على إدارة السياسة، الذي تحدد فيه الحكومة مصالحها والتهديدات التي تواجهها، ثم تضع سياستها التي تشتق منها استراتيجية عملها، ها هي إسرائيل تعرض نظرية جديدة منذ 7 أكتوبر، هي في مرحلة التجربة. فالنجاحات لم تسجل بعد، ولم يبق علينا إلا الانتظار.
إن احتلال قطاع غزة، “العملية البرية” الكبيرة التي نتج عنها 34 ألف قتيل فلسطيني، جاءت في فراغ سياسي واستراتيجي، بدون خطة لـ “اليوم التالي” وخطة خروج وبسلوك من اليد إلى الفم، حيث الأحداث اليومية تحل مكان المربع الفارغ الذي عنوانه “استراتيجية”، وتملي المضمون. وهكذا جاءت تصفية زاهدي، التي لم تستند إلى أي فهم ومعرفة رد إيران المتوقع، الذي أجبر إسرائيل على أن تعد وبسرعة رداً على رد – الذي هو غير مشمول في استراتيجية تأخذ في الحسبان التداعيات الدولية والإقليمية، وبالأساس التداعيات على أمن إسرائيل نفسها.
يبدو أنها أحداث غير مرتبطة معاً. فاغتيال زاهدي جزء من الحوار العنيف والتكتيكي الذي تجريه إسرائيل مع إيران، الذي يهدف إلى إحباط نقل السلاح من إيران إلى حزب الله عبر سوريا. واحتلال غزة هو رد مخيف على الهجوم المرعب الذي نفذته حماس عندما اقتحمت أراضي إسرائيل واختطفت مدنيين وقتلت حوالي 1200 من بينهم في اليوم الأول. قنوات المواجهة هذه جرت بشكل متواز بدون أي صلة بينها، إلى أن حدث الانفجار الكوني الذي أذابها في رزمة مواجهة واحدة، التي أوجدت إسرائيل بدون خطة عمل.
قد يدل على العلاقة الوثيقة بين هذه القنوات تقرير نشر أمس، والذي مصدره المصري أثبت نفسه بموثوقية كبيرة. حسب المصدر المصري، إسرائيل أبلغت القاهرة عن نية احتلالها لرفح، وحتى إنها بدأت في مهاجمة مناطق مفتوحة على طول محور فيلادلفيا، الذي توجد فيه حسب الشكوك، أنفاق تربط بين شبه جزيرة سيناء وغزة. هذا المصدر قال إن الخطة تستند إلى تقسيم رفح إلى “أربعة أقسام مرقمة، سيتم احتلالها قسماً تلو آخر”. وسيضطر سكان كل قسم عندما يأتي دورهم، إلى الهرب إلى منطقة خان يونس والمواصي. مصر من ناحيتها سلمت كما يبدو باحتلال رفح، وهي تسرّع الاستعداد لاستيعاب الذين سيتم إخلاؤهم من هناك من خلال وضع المزيد من مخيمات الخيام في خان يونس، إضافة إلى المخيمات التي أقيمت في السابق ويديرها الهلال الأحمر المصري، التي قد تستوعب حوالي 11 ألف لاجئ، وهذا عدد صغير نسبياً مقارنة مع عدد الذين يتوقع أن يهربوا.
المعلومة المهمة في التقرير هي القائلة إن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر لاحتلال رفح مقابل عملية إسرائيلية محدودة ضد إيران. وذلك حسب خطة يُتفق عليها بين واشنطن والقدس. وهكذا وجدت صيغة بديلة، وهي المساومة بين الانتقام من إيران واحتلال رفح، لا تستند إلى احتياجات استراتيجية حقيقية أو خطة مرتبة تتوقع إنهاء الحرب، بل من خلال الحاجة إلى احتواء وتحديد تداعيات عمليات غير مخطط لها.
السلطة تنتظر
الافتراض السائد هو أن احتلال المعقل الأخير لحماس سيكون بعد الأعياد. ولكن مصر لا تحتفل بعيد الفصح، ورمضان وعيد الفطر أصبحا في الخلف. وبدأت القاهرة في الاستعداد لاحتلال رفح. موقع “رأي اليوم” نشر في هذا الأسبوع بأن مصر نشرت قواتها على طول محور فيلادلفيا على الجانب المصري للحدود، وحددت منطقة “محايدة” يمكن للمهجرين من غزة الوصول إليها. وحسب هذا التقرير، سيتم إعداد هذه المنطقة، وستوضع فيها خدمات وعيادات ونقاط لتوزيع الغذاء.
مع ذلك، أكدت مصر أن “أي لاجئ لا يمكنه الدخول” إلى أراضيها إلا من خلال المنطقة المحايدة. في موازاة ذلك، أجرى رئيس المخابرات المصرية مؤخراً محادثات مع رئيس المخابرات الفلسطينية حول ترتيبات إدارة “المنطقة المحايدة” ومعبر رفح في الطرف الفلسطيني. حسب معرفتنا، السلطة الفلسطينية التي عبرت في السابق عن رغبتها في إدارة معبر رفح، وتنظيم الحياة المدنية (في البداية في كل ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، وبعد ذلك المجالات المدنية الأخرى)، هي أيضاً بدأت في تنفيذ نشاطات على الأرض.
قبل أسبوعين، نشرت وزارة الداخلية في غزة، التابعة لحماس، بأن المخابرات الفلسطينية أرسلت إلى غزة طاقماً لمرافقة قوافل المساعدات وفحص إمكانية إقامة قاعدة نشاطات للسلطة في مستشفى القدس في غزة. وحسب التقرير الذي نشرته قناة “الجزيرة”، فإن قوات حماس اعتقلت عشرة أشخاص من المخابرات الفلسطينية وحققت معهم حول خطة عملية السلطة، التي يتضح منها أن خطة ماجد فرج تتكون من ثلاث مراحل: في الأولى سيتولى رجال السلطة الفلسطينية توزيع المساعدات الإنسانية. وفي الثانية سيتم تجنيد العائلات الكبيرة والمعروفة، وفي المرحلة الثالثة سيتولى رجال السلطة الأمن الداخلي وأعمال الشرطة.
السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح نفت في الواقع هذا التقرير. حيث إنه يعني أن السلطة الفلسطينية لا تنتظر انتهاء الحرب أو العملية السياسية التي ستدفع قدماً بحل الدولتين كي تبدأ في العمل في قطاع غزة. هذه التحفظات كانت حتى الآن الشرط الأساسي لاستعداد السلطة لتولي المسؤولية عن إدارة القطاع. ولكن أمس، في مقابلة مع قناة “العربية” أوضح محمود العالول، نائب الرئيس محمود عباس في رئاسة حركة فتح، بأن هناك نقاشات بين السلطة وعدد من الدول العربية مثل مصر والسعودية والإمارات والأردن وقطر، من أجل تنسيق النشاطات التي تمنع تهجير سكان غزة إلى مصر.
لم يذكر العالول أي تفاصيل حول هذه النشاطات. ولكن يتبين من أقواله أن الأمر يتعلق بإعداد ظروف حياة معقولة في غزة لمنع حدوث هرب جماعي. “نحن شعب واحد، وعلينا ألا نترك سكان قطاع غزة في هذا الوضع. علينا استثمار كل الجهود لدعم وجود الناس (أي إبقاء الغزيين في القطاع)؛ ولأن معارضة الهجرة غير كافية، علينا منع وضع يعيش فيه السكان في ظروف أصعب من أن يحتملوها، وربما تدفعهم إلى الهجرة”، قال العالول.
هذه الأقوال، للوهلة الأولى، تؤكد أن السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح قررتا تليين المواقف في قضية تحمل المسؤولية في غزة وعدم الانتظار إلى حين انتهاء الحرب. فالتهديد باحتلال رفح يحتاج إلى عملية مستعجلة. تحدث العالول عن تنسيق مع دول عربية، لكن من غير الواضح في هذه الأثناء إذا كانت حكومة إسرائيل، لا سيما نتنياهو، مستعدة لتحطيم سور المعارضة المحصن ضد نقل السيطرة المدنية في القطاع إلى السلطة الفلسطينية. لم تسمع حتى الآن أي تصريحات واضحة حول هذا الأمر، حتى من الوزيرين غانتس وآيزنكوت، اللذين منذ كانون الأول أسمعا تصريحات متناقضة.
الهدف كسب الوقت
طريقة تحقيق الشرط الأساسي الثاني، الذي يطالب بعملية دولية للدفع قدماً بالحل السياسي الذي يستند إلى حل الدولتين، كان يمكن أن تمهد النقاشات أمس في مجلس الأمن، التي تهدف إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية وضمها للأمم المتحدة بشكل كامل وليس كدولة مراقبة مثلما هي الحال الآن. مشروع القرار الذي حصل على موافقة 12 عضواً من بين 15 في مجلس الأمن، صدته الولايات المتحدة من خلال الفيتو.
يبدو أن الرئيس الأمريكي، الذي بعث حياة جديدة في حل الدولتين ورفع مستوى التوقعات لمبادرة أمريكية تدفع قدما بهذه العملية، وضعه على النار الخلفية في هذه الأثناء. ومثلما أوضحت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة، لندا توماس غرينفيلد، هذا الأسبوع: “لا نعتقد أن اتخاذ قرار في مجلس الأمن سيوصلنا بالضرورة إلى مكان نستطيع فيه رؤية حل الدولتين يتحرك إلى الأمام”.
هناك قضية أخرى تتعلق بالتمويل المطلوب لتفعيل الأجهزة الفلسطينية. يمكن الافتراض أن الإمارات وربما السعودية، ستوافق على الإسهام في تمويل السلطة الفلسطينية، وحتى الآن لا يوجد تعهد خطي على ذلك. ولكن عندها يتوقع أن تطلب إسرائيل نقل هذه الأموال من خلالها وليس مباشرة إلى السلطة، وهذا شرط مشكوك أن توافق عليه دولة مانحة، عربية أم غربية. كان يجب أن تكون إجابات متفق عليها وعملياتية على هذه الأسئلة. وفي ظل غيابها وطبقاً للتجربة الاستراتيجية الجديدة، فالميدان هو ما سيملي الإجابات.
المصدر: هآرتس /القدس العربي