الحرية الرقمية، والعقل المحاصر

نبيل عبد الفتاح

أدت الثورة الرقمية إلى تشكيل العقل الرقمى، وذلك من خلال نظام اللغة الرقمية، وادواتها فى التعبير المختلفة بما فيها الذكاء الإصطناعى والتداخل بين اللغة العامية، والفصحى لدى الجموع الرقمية الغفيرة  وبين الإنجليزية –والفرنسية- وبين اللغة المحكية، وخاصة لدى الأجيال الشابة، وجيل Z، والفا، وتوظيفهم المواد التى تنتشر على المواقع الرقمية، وحساباتها، سواء المكتوبة، أو المصورة، أو الفيديوهاتية.. إلخ.

العقل الرقمى، ليس واحدًا، وإنما ينقسم إلى عقل الجموع الرقمية من العاديين –بين المتعلمين وإنصافهم آيا كانت درجاتهم التعليمية، وعقل الخاصة من “المثقفين”، أو من الحاصلين على الدرجات العلمية العليا، وخاصة الدكتوراه، والأكاديميين. وسنركز علي الحالة الأولي في هذا المقال .

أن نظرات تحليلية على حركة وإشتغالات العقل الرقمى تشير إلى بعض  السمات المأئزة بين عقل الجموع الرقمية الغفيرة، وبين عقل الخواص الرقميين، على الرغم من بعض الجوامع المشتركة بينهما، فى اللغة الومضة السريعة، والنظرات الومضات، والتعليقات السريعة الموجزة، والمكثفة –آيا كانت حواملها من الأفكار تافهة، أو بسيطة، أو بها بعض من الذكاء و العمق فى الملاحظة.. إلخ-، وفى ذات الوقت والسياقات، هناك تداخل وتفاعل بين العقل الرقمى، والعقل الفعلى الواقعى، وتأثير الرقمى فى الفعلى. ثمة ايضاً بعض من الانفصال بين العقل الفعلى، والعقل الرقمى، من حيث إدمان الفرد الرقمى على الحياة الرقمية، واستغراقه حواسيا، وفكريا فى تفاصيلها المتغيرة، فى أثناء العمل، وفى الطرق، والمقاهى، وأثناء قيادة السيارات – ممن يملكونها-، أو اثناء الانتقال من مكان لأخر فى السيارات العامة، والخاصة، وفى القطارات، وعربات المترو، وأثناء تناول الطعام فى المنازل، أو المطاعم، بل وأثناء الفرجة على التلفاز. لا شك أن العقل الرقمى للجموع الغفيرة، أدى إلى إعادة تشكيل بعض الحياة والعقلية الفعلية، وخاصة بين الأجيال الشابة وصغيرة السن، لاسيما جيل Z.

يميل عقل الجموع الرقمية الغفيرة إلى الاستهلاك الرقمى للمواد الترفيهية، وإلى المشاركة بالفيديوهات الطلقة الوجيزة، وتقديم مواد تمثيلية وترفيهية، هادفة إلى جذب التفصيلات –Like وغيرها-، وتشييرها ، بهدف الحصول على المال، سواء من خلال أعمال الطبخ وإعداد الطعام، أو إبراز بعض النسوة لمناطق الإثارة الحواسية أثناء إعدادهن للطعام، أو تنظيم وترتيب المنزل.. إلخ بالإضافة إلى بعض ممن يعرضن مفاتنهن، أو بعض الفيديوهات الحواسية على بعض المواقع الإباحية .. الخ!

يلجأ بعض الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات، والعازفين إلى إطلاق بعض الآراء المثيرة حول حياتهم الخاصة، أو أزواجهن، الحاليين، أو السابقين، او مشاكل الطلاق وغيرها بهدف تحقيق الإثارة والحضور على الواقع الرقمى، بهدف الشهرة، والذيوع والاستمرار، أو وضع صور لهن/ هم بها بعض من الإثارة، لكى يستمر الطلب عليهم/ هن فى الأعمال السينمائية أو التلفازية، أو الحفلات العامة، وذلك لمواجهة ظاهرة انطفاء الشهرة بسرعة فائقة،ومن ثم انخفاض الطلب عليهم/هن ، لسرعة استهلاك الجمهور لهن، وحلول ممثلات أصغر سنا وجمالاً بديلا عنهن بين سنة وشهور وأخرى، وتحولهن إلى التقاعد، وهن فى أعمار شابه.

يميل عقل الجموع الرقمية الغفيرة إلى الإثارة، وإلى الأكاذيب والأخبار المزيفة والمختلقة ،والانطباعات المرسلة، وعدم التحقق من دقة المعلومات، أو غيابها، وهيمنة المشاعر الصاخبة، وإحكام القيمة، والتحيزات الدينية والعقائدية والمذهبية، والنظرات المانوية للعالم –بين ثنائية الخير والشر، والصح والخطأ.. إلخ من منظورهم-، والخلط بين العام والخاص، والتداخل بينهما! يميل عقل العوام الرقميين إلى الشعبوية، وتمجيد الخرافات، والحكم والأمثولات الشعبية، والميتافزيقيات الموروثة والمنتشرة فى الأوساط الريفية وهوامش وقيعان المدن التي باتت مريفة … إلخ.

نحن إزاء عقل الجموع  الرقمية الغفيرة الأحادي، وسايرهم الأطباء فى الأعلان عن تخصصاتهم، وعناوينهم، وخطابهم السريع عن بعض الأمراض الشائعة وكيفية معالجتها لديهم وميل بعضهم للحديث المتداخل مع التدين الشعبي والأدوية الطبيعية والطعام ! ولجوء بعض الروائيين والشعراء والقصاصين والمسرحيين و” والنقاد ” للإعلان عن أعمالهم، أو قصائدهم سعيا وراء الترويج ! يؤدى العقل الرقمى، وعمليات تفكيره الومضاتى إلى إنشطار الإنسان بين الحياة الرقمية والفعلية، ورقمنة بعض الأخيرة. العقل الرقمى، وتفكيره الومضاتي ، يُعبر عن سطحية التفكير السريع، ويميل إلى بعض الأفكار الساذجة التي تظهر  من المنشورات، والتغريدات. من هنا تبدو الحرية الرقمية بمثابة حرية فى إظهار الدوافع “الغرائز” المضمرة–وفق المصطلح القديم- او الظاهرة نسبياً فى التعبير عن ذوات مأزومة ومقموعة فى الواقع الفعلى سياسيا، وأمنيا فى النظم الشمولية والتسلطية، وأيضا فى النظم الديمقراطية فى التعبير عن غضبها السياسى، من الحكومات، أو الإدارة المحلية، أو نظام العمل، أو التضخم، أو بعض من الشعبوية السياسية، أو كراهية الأجانب، أو الإسلاموفوبيا، أو العنصرية إزاء بعض الأقليات العرقية الأفريقية، وغيرها.

الحياة الرقمية هنا تتجسد من خلال مجال عام رقمى مفتوح فى النظم الديمقراطية التمثيلية. ثمة وهُم أن الحرية الرقمية للعقل الرقمى بلا حدود، إلا أن إمعان النظر يشير إلي أنَ الحياة الرقمية محاصرة فى نعومة، من خلال أنظمة الرقابة الرقمية على كافة المواقع من الشركات  الرقمية الكبرى التى تمتلك كافة الحسابات الرقمية، وتوظفها فى إعادة تشكيل الرغبات، وأنماط الاستهلاك، من خلال بيعها إلى الشركات الكبرى والعملاقة فى إعادة صياغة سياساتها الإنتاجية، أو الخدمية فى ضوء البيانات الضخمة –Big Data- التى يتم تحليلها، وتوظيف فى تغيير أنماط الإنتاج والخدمات، وتسليع وتشيوء السلوك الإنسانى.

ثمة أنظمة رقابات سياسية، وأمنية، واستخباراتية تراقب المواقع الإرهابية –القاعدة، وداعش، وغيرهما-، والمشاركين والناظرين إلى منشوراتهم فى هذه المواقع.

لا شك أن هذه الأنظمة الرقمية الرقابية، تجعل العقل الرقمى للجموع الغفيرة مراقب، ومحاصر، فى نعومة، ومن ثم يؤدى ذلك إلى إشاعة بعضُ من رهابُ الخوف لدى بعض المستخدمين الرقميين، ومن ثم إلى عدم التعبير الحر عن الرآى، أو إلى حالة الصمت، أو الامتناع عن الوصول إلى هذه المواقع الإرهابية.

الحرية الرقمية، ليست تحت الرقابة الرقمية السياسية والأمنية، والأستخباراتية للدول فقط ، بل تحاصرها الرقابات المتبادلة والخشنة احياناً من بعضهم من بين مستخدمى الحياة الرقمية، سواء عرف العقل العام الرقمى للجموع الغفيرة، أو لم يعرف! الأخطر أن العقل الرقمى يحاصر بعضه بعضا من خلال اللغة الجارحة والغلظة والخشونة، واللغة الدينية، واستخدام الغالبية الرقمية فى العالم العربى، الحياة الرقمية كمجال عام للدعوة والإرشاد الدينى –العقائدى والطقوس والسرديات الوضعية الشعبية حول المقدس والسُنَوي الإسلامى، وفي التقاليد والطقوس والمرويات الشعبية والكهنوتية المسيحية لاسيما الأرثوذكسية- فى الترويج لهذه السرديات الدينية الشعبية بقطع النظر عن مدى صحتها، أو صوابها الدينى. الأخطر أن بعضهم يميل عقله الرقمى إلى الإيمان بالحقائق المطلقة، بينما هى نسبية تماما وبعضها لا توثيق أو سند تاريخي موثق حوله، ويعتقد بعضهم أنه ينطق بالحقيقة، والمقدس معاً !، ويدافع عنها بشراسة وإيمانية !، بينما لا تعدو أن تكون رأيا انطباعياً، مؤسس على بعض من أنماط التدين الشعبى الموروث، والوضعى حول الدين، والمرويات والقصص الشعبى حوله! لا شك أن ميل العقل الرقمي الدينى للجموع الرقمية الغفيرة، ينزغ نحو الشعبوية، ويؤدى إلى التعصب ويشجع عليه، وكراهية الأخر الدينى “للمواطن المختلف دينيا” داخل الدولة والمجتمع الذى ينتمى إليه العقل الدينى الرقمى المتطرف.

العقل الدينى الرقمى المتشدد والمتطرف، يمثل عقبه إزاء حرية التدين والاعتقاد الدستورية، وإزاء العقل الحر والحريات العامة والشخصية، لأنه عقل أحادى يمتلك حقائقه الوضعية المطلقة والمتخيلة، ويريد أن يفرضها على الآخرين، وحرياتهم فى التفكير والتعبير، وأيضا على حرياتهم العامة، والخاصة بدعوى أن ذلك يمثل خروجا على صحيح الدين من منظوراتهم الأحادية.

العقل الرقمى الأحادى للجموع الغفيرة، عقل ساكت ينطق باللغة الخشبية ، التي لاتبين ،عقل سجالى وإتهامى وليس عقلا جدليا، وحواريًا، ومن ثم يشكل بذاته، ولذاته قيدًا على حريته، وحريات الآخرين، على الرغم من الإدراك الشعبوى الشائع للجموع الرقمية الغفيرة إنها تمارس الحرية على الحياة الرقمية، بينما تحوطها سياجات أنظمة الرقابات الرقمية، وقيود عقلها الرقمى الجمعى على هذه الحرية.

المصدر: الأهرام

تعليق واحد

  1. الثورة الرقمية أدت لتشكيل العقل الرقمي، من خلال نظام اللغة الرقمية، وادواتها بالتعبير المختلفة بما فيها الذكاء الإصطناعى والتداخل بين اللغة العامية والفصحى، ليكون العقل الدينى الرقمي المتشدد والمتطرف، يمثل عقبه إزاء حرية التدين والاعتقاد الدستورية، لذلك لابد من تحرير العقل من إحادية الإتجاه، قراءة موضوعية.

زر الذهاب إلى الأعلى