في مسيرة الثورة السورية يبدو يوم 17 آب 2023 يوماً فريداً من نوعه في تاريخ الجنوب السوري، فهو بداية انطلاق حراك السويداء الذي قارب على أشهره الثمانية، دون انقطاع أو توقف.
وبفضل حراك السويداء صار للثورة السورية أرضية حقيقية لبناء فعل مختلف وممارسة واقعية في فضاء سياسي حر ووطني ذي بعد تاريخي أصيل ثورياً وسياسياً وهو ما لم يتوافر إلا لفترات قليلة، قبل حراك السويداء، في بعض مناطق الثورة المحررة، نتيجة ولادة قوى أمر واقع منحرفة عن الثورة بمشاريع لا علاقة لها بمنطلقات ولا أهداف الثورة، وتناقض تطلعات الشعب السوري.
فالفضاء السياسي الحر الوطني الذي وفّره حراك السويداء بعد 17 آب 2023 يذكرنا بالبعد النقي السلمي الطبيعي للثورة السورية التي ظهرت به طوال الأشهر الستة الأولى منذ انطلاقتها في شهر آذار 2011 وها هو حراك السويداء يستعيد هذا الفضاء من لحظة انقطاع الحراك السلمي للثورة الأم نتيجة القمع الوحشي للنظام الذي منع استمراره واكتماله.
وإذا كان حراك السويداء هو استمرار للمسار الطبيعي وللفضاء النقي السلمي الذي انطلقت فيه الثورة السورية، الأم، فإن إعلان وثيقة المناطق الثلاث في 8 آذار المنصرم تعد لحظة تحول في حراك السويداء قد تثمر عملاً سياسياً على غاية من الأهمية، فهي الخطوة السياسية الثورية الأولى لهذا الحراك الواعد.
إعلان وثيقة المناطق الثلاث هو التمظهر السياسي العملي الأول لحراك السويداء وهو التدفق أو التمدد السياسي الأول إلى مناطق سوريا الثورة وعبر مناطق تغلي فيها الثورة تحت الرماد، أو تُمنع فيها جموع المقهورين الجياع من الانفجار بقوة الخوف من المصير المستقبلي فيما لو سقط النظام، والجملة الأخيرة فيما “لو سقط النظام” قد أصبحت تميمة وخرافة أدمنت على ترويجها في الساحل السوري مجموعات الحرب النفسية التابعة لأجهزة المخابرات الروسية والإيرانية والأسدية.
ومع ذلك فثمة من قرأ إعلان المناطق الثلاث التاريخي هذا وقرر الالتحاق به، أقصد بهم تجمع العمل الوطني في الساحل السوري، وهو التحاق على غاية من الأهمية، لما يشكله الساحل السوري، والمجموعات المعارضة للنظام، المنتمية إلى تلك الجهة والبيئة، من أهمية مفصلية في أي تغيير سياسي سواء أكان تغيراً شكلياً أم بنيوياً.
وعلى أي حال ومهما كانت قوتها، وبالأحرى ضعفها، فالإعلان عن تشكيل جماعة سياسية باسم الساحل السوري، تنضم إلى فعل سياسي ثوري نظيف، يمنح أملاً بإمكانية إنجاز سياسي صحيح ما، لأول مرة في مسيرة المعارضة السورية بعد عدة أعوام من الثورة السورية.
فبقدر ما تبدو عليه ثورة السويداء كلحظة تأسيسية جديدة في مسيرة نضال الشعب السوري، فإن الإعلان الثلاثي هو لحظة تأسيس أول للعمل السياسي الحقيقي الوطني، دون العصبوي، والوطني دون الإيديولوجي والحزبي الذي ظهر مع اجتماع أنطاليا 2011 وما تلاه.
أهم طروحات الوثيقة والتجمع
تقدمت وثيقة المناطق الثلاث بأفكار ومطالب اعتبرتها حقوقاً وطنية بعضها متداول في خطاب الثورة السورية الأم كحقوق الحرية والكرامة، وأضافت إليها الوثيقة حق الحياة والأمان، لكن أهم طروحات الوثيقة تجلت في فكرة “تأميم السياسة” أو تعميم السياسة أي جعلها مشاع لكل سوري راغب في العمل السياسي بدلاً عن بقائها حكراً على نظام عصابة، وهو واحد من أهم مفاصل بنودها.
الأمر الآخر في الوثيقة الذي له بالغ الأهمية هي دعوتها لبناء الثقة بين السوريين، بعدما تهتكت كل محددات هذه المسألة “الثقة”، بفعل الحرب، وقبل ذلك بفعل أدوات النظام، أقصد بها أجهزة الأمن وعملياتها النفسية واسعة النطاق التي دمرت ثقة السوريين فيما بينهم وجعلت الجميع يخاف من الجميع وصار السوري يخشى ويشك بجاره وزميله وقريبه. وعامل الثقة أمر ضروري توافره، تمهيداً للانتقال إلى مرحلة اللقاء والحوار بين السوريين والجماعات السياسية السورية.
أما ما جاء في إعلان تجمع العمل الوطني في الساحل فهو لا يقل أهمية، لا سيما في إشارته إلى أن “خيارات أبناء الساحل السوري، هي نفسها خيارات الاجتماع السياسي السوري المُشترك، وطموحات أبناء الساحل لا بد أن تلتقي مع طموحات السوريين ومن أهمها الحرية والكرامة وتحقيق الانتقال السياسي، ونبذ تطييف سوريا وتفتيتها بالشكل الممنهج الذي عمل عليه ” النظام” . فالتجمع يتبنى الهدفين الأساسيين من الثورة السورية ألا وهما الحرية والكرامة.
ويؤكد إعلان تجمع العمل الوطني في الساحل “على الوحدة الاجتماعية السورية التي حاول النظام الأسدي انتهاكها وتشقيقها وتذرير المجتمع، معتمداً على إلغاء الذاكرة السورية الوطنية وإحلال ذاكرة الدم والكراهية، ويتابع إعلان التجمع” فذاكرة أبناء الساحل الوطنية قوية، ومُشتركة مع السوريين والسوريات، منذ المؤتمر السوري العام في عام 1920 مروراً بالنضال ضد الاستعمار الفرنسي إلى اليوم، وهذه الذاكرة أقوى من التوريط المُمنهج الذي مارسه النظام على الساحل السوري، والذي تسبب بإغراق الوطن بالدم والكراهية والدمار. وإن أبناء الساحل كغيرهم من أبناء سوريا جميعهم، يطمحون إلى نيل الحرية والكرامة، ولديهم رغبة في الحياة والسلام والعدالة الانتقالية”.
ذكاء سياسي
وفي جعل الثامن من آذار والسابع من نيسان تاريخاً لإعلان وثيقة المناطق الثلاث وتاريخاً لانضمام الساحل إليها، ذكاء سياسي لا يخفى على من يقرأ بدقة، فالسابع من نيسان ذكرى تأسيس حزب البعث والثامن من آذار ذكرى انقلاب عسكر البعث الأول واستيلائهم على السلطة في سوريا، محاولة من مطلقي الوثيقة في السويداء وكذلك من مطلقي التجمع في الساحل، لتخليص هذين اليومين التاريخيين من احتكارهما الدلالي الذي يصب لصالح البعث والنظام، ومحاولة لاستعادة السياسة من أيدي العصابة التي منعتها واحتكرتها وجعلتها في خانة المحرمات على السوريين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
كان إعلان وثيقة المناطق الثلاث التمظهر السياسي العملي الأول لحراك السويداء والتدفق أو التمدد السياسي إلى بقية مناطق سوريا الثورة بمناطق تغلي فيها الثورة، إنضمام منطقة الساحل السوري لهذه الوثيقة وكذلك منطقة أدلب لتشمل تقريباً معظم الجغرافية السورية، ولكن هل يكفي إعلان مجموعة من الناشطين بتمثيلهم لمنطقة بالإنضمام ليشكلوا حامل لها؟ الأيام ستكشف ذلك؟.