على عكس التحالفات الأخرى، تتميز التحالفات الأميركية بأنها ببقائها قائمة على امتداد فترة طويلة، إذ تجمع بين أبرز أطرافها مصلحة مشتركة ودائمة في الحفاظ على عالم آمن من أجل الليبرالية. علاوة على ذلك، يتم إضفاء الطابع الرسمي على هذه التحالفات من خلال المعاهدات المكتوبة وإعلانات الالتزام العامة.
ما من مثيل لنظام التحالف الأميركي على مر التاريخ. بينما قادت أثينا القديمة رابطة ديليان، وأبحر المستشار الألماني أوتو فون بسمارك بمهارة في ديناميكيات التحالفات الأوروبية في القرن الـ19، وظهرت تحالفات عالمية انتصرت في الحربين العالميتين، بيد أنه لم تكن هناك أي تحالفات في وقت السلم تتسم بقدر كبير من الاتساع والثبات والفاعلية مثل تلك التي قادتها واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية. لقد نجح نظام التحالف الأميركي في تحقيق السلام في مناطق كانت في السابق ميادين قتل، وتمكن من تشكيل توازن قوى لصالح الديمقراطيات.
ومع ذلك، فإن وجود هذا النظام وإنجازاته قد يجعلان من الصعب على الأميركيين فهم التحدي الذي يواجهونه في الوقت الحاضر. عبر مساحة اليابسة الأوراسية الشاسعة، يقوم خصوم واشنطن بتشكيل التحالفات. أقامت الصين وروسيا شراكة استراتيجية “بلا حدود”. كما تعمل إيران وروسيا على تعزيز علاقاتهما العسكرية التي يعتبرها المسؤولون الأميركيون “تهديداً عميقاً” لـ”العالم بأسره”. فالصداقات بين الدول التي لا تلتزم المبادئ الليبرالية كالتي بين موسكو وبيونغ يانغ من جهة، وبين بكين وطهران من جهة ثانية، تتنامى وتنجح. قد يتساءل الأميركيون عما إذا كانت هذه العلاقات المتشابكة ستصل يوماً ما إلى مستوى تحالف رسمي لأعداء الولايات المتحدة لتصبح صورة طبق الأصل للمؤسسات التي تقودها واشنطن نفسها. مهما كانت الإجابة، قد يكون هذا السؤال مضللاً.
عندما يفكر الأميركيون في التحالفات، فإنهم عادة ما يفكرون بتحالفاتهم الخاصة، أي العلاقات الرسمية ذات الطابع المؤسساتي الرفيع بين الدول التي تربط بعضها مع بعض ضمانات أمنية ملزمة الإضافة إلى الصداقة والثقة الحقيقيتين. ولكن يمكن للتحالفات، أن تخدم أغراضاً عديدة وتتخذ أشكالاً شتى، كما يذكرنا التاريخ.
إن بعض التحالفات لا تعدو عن كونها مجرد اتفاقيات عدم اعتداء تسمح للأطراف المفترسة بالانقضاض على فرائسها بدلاً من أن تلتهم بعضها بعضاً. وثمة تحالفات هي عبارة عن شراكات عسكرية تكنولوجية تقوم من خلالها الدول ببناء وتقاسم القدرات التي تحتاج إليها لتغيير الوضع الراهن. حتى إن بعض التحالفات الأكثر تدميراً في التاريخ كانت عبارة عن اتفاقيات فضفاضة أو غير رسمية، وتفتقر إلى التنسيق الدقيق أو التخطيط التفصيلي بهدف مهاجمة النظام القائم من الجوانب كلها. ويمكن أن تكون التحالفات سرية أو علنية، رسمية أو غير رسمية. ومن الممكن تكريس التحالفات للحفاظ على السلام أو من أجل التحريض على العدوان. ببساطة، التحالف هو عبارة عن مجموعة من الدول التي تسعى إلى تحقيق أهداف مشتركة. والعلاقات التي ربما بدت أقل أهمية من التحالفات الأميركية الحالية، كانت قد تسببت في حدوث زلازل جيوسياسية في الماضي.
وهذا أمر بالغ الأهمية لفهم الروابط بين خصوم الولايات المتحدة الحاليين. قد تكون هذه العلاقات غير مؤكدة ومتضاربة، وتفتقر إلى ضمانات دفاعية صريحة. ومع ذلك، فإنها تعزز القوة العسكرية للدول التي تسعى إلى إعادة رسم النظام القائم وتقليل العزلة الاستراتيجية التي قد تواجهها لولا ذلك. كما أن [العلاقات] تزيد من الضغوط التي يتعرض لها النظام الدولي من خلال مساعدة الأطراف الذين تربط بينهم على منافسة القوة الأميركية على عديد من الجبهات في وقت واحد. وإذا قام خصوم الولايات المتحدة بتوسيع آفاق تعاونهم في المستقبل، وذلك من طريق مشاركة مزيد من تكنولوجيا الدفاع المتقدمة مع بعضهم بعضاً أو التعاون على نطاق أوسع في أوقات الأزمات أو الصراعات، فقد يقود هذا إلى اختلال التوازن العالمي بطرق أكثر إثارة للقلق. وفي حين أن الولايات المتحدة قد لا تواجه أبداً عصبة واحدة متكاملة من الخصوم، إلا أن توسيع التعاون بين الدول غير الليبرالية والساعية إلى تغيير الوضع الراهن على غرار حلف شبيه بالـ(ناتو) من الممكن أن يشكل تحديات كبيرة لقوة عظمى منهكة.
تحالفات أميركا الاستثنائية
تتشكل التحالفات بحسب الظروف المحيطة بها، وقد ظهرت تحالفات الولايات المتحدة – وخصوصاً حلف شمال الأطلسي ونظراءه في منطقة المحيطين الهندي والهادئ – خلال فترة الحرب الباردة المبكرة. في ذلك الوقت، واجهت الولايات المتحدة التحدي المتمثل في احتواء الاتحاد السوفياتي وتخفيف التوترات التي أدت في السابق إلى صراعات مدمرة في العالم الغربي. ولقد عكست الخطوط العريضة للتحالفات الأميركية دائماً هذه الحقائق التأسيسية.
فمن جهة، كانت التحالفات الأميركية اتفاقيات دفاعية تهدف إلى منع العدوان، وليس إلى ارتكابه. في البداية، قامت واشنطن بتنظيم هذه التحالفات لمنع الدول الأعضاء من استخدامها كمنصات للتوسع الإقليمي. وعندما توسعت هذه التحالفات، كان ذلك بموافقة الأعضاء الجدد. تتميز التحالفات الأميركية أيضاً ببعدها النووي. ونظراً إلى ضرورة وجود قوة عظمى بعيدة لردع الجيش الأحمر الضخم، فقد كانت الاستراتيجية النووية تشكل أهمية مركزية في ديناميكيات التحالف منذ بدايته. ولأسباب ذات صلة، فإن تحالفات الولايات المتحدة غير متماثلة. لقد تحملت واشنطن منذ فترة طويلة حصة غير متكافئة من العبء العسكري، وخصوصاً فيما يتعلق بالمسائل النووية، وذلك من أجل منع السيناريوهات التي قد تؤدي فيها دول مثل ألمانيا أو اليابان، التي كانت معتدية ذات يوم، إلى إعادة بناء قدراتها العسكرية إلى الحد الذي قد يؤدي فيه ذلك إلى زعزعة استقرار المناطق المجاورة لها.
على رغم هذه النقطة، فإن التحالفات الأميركية تتمتع بطابع مؤسساتي عميق: فهي تتميز بالتعاون ذي المستوى اللافت، وبإمكانية التعاون المكثف وقابلية التشغيل البيني والذي طور عبر عقود من التدريب المشترك. إن التحالفات الأميركية ديمقراطية أيضاً. وقد بقيت هذه التحالفات قائمة على امتداد فترة طويلة، إذ تجمع بين أبرز أطرافها مصلحة مشتركة ودائمة في الحفاظ على عالم آمن من أجل الليبرالية. علاوة على ذلك، يتم إضفاء الطابع الرسمي على هذه التحالفات من خلال المعاهدات المكتوبة وإعلانات الالتزام العامة. وهذه الشفافية متأصلة في الأنظمة الديمقراطية، التي لا تستطيع الدخول بسهولة في اتفاقيات سرية. إضافة إلى ذلك، في قلب كل تحالف أميركي يكمن تعهد واشنطن بتقديم المساعدة لحلفائها في حالة وقوع هجوم.
لقد أدت هذه الميزات إلى تمتع تحالفات الولايات المتحدة بكثير من الجاذبية والفعالية والقدرة على إرساء الاستقرار. ويتجلى هذا في استتباب السلام في أوروبا وشرق آسيا منذ الحرب العالمية الثانية، كما أنه يفسر أيضاً لماذا تواجه واشنطن صعوبة أكبر في إبقاء الأعضاء المحتملين خارج هذه التحالفات بدلاً من جذبهم إليها، بيد أن التحالفات تؤثر أيضاً في وجهات نظر الأميركيين حيال التحالفات بطرق لا تساعد دائماً على فهم العالم الحديث. ففي نهاية المطاف، لا توجد قاعدة تنص على أن التحالفات يجب أن تبدو [باستمرار] كتلك التي تبرمها واشنطن، علماً أن بعض التحالفات الأكثر ضرراً في التاريخ لم تكن كذلك.
مواثيق المفترسين
هذه ليست المرة الأولى التي تتبنى فيها الدول الأكثر عدوانية في العالم اليوم قضية مشتركة. ففي أواسط القرن الـ20، شكلت مجموعة متنوعة من الدول ذات الأجندات الرجعية تحالفات خبيثة لدعم هجماتها المتكررة على النظام القائم.
وفي عام 1922، وقعت جمهورية فايمار الألمانية، التي كانت لا تزال تتمتع بالديمقراطية، مع الاتحاد السوفياتي، على اتفاقية رابالو، التي عززت التعاون بين الطرفين اللذين خرجا من الحرب العالمية الأولى خاسرين. وبين عامي 1936 و1940، وقعت إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية اتفاقيات بلغت ذروتها في الميثاق الثلاثي، وهو تحالف غير رسمي ملتزم بتأسيس “نظام عالمي جديد” شمولي. وخلال تلك الفترة، أبرمت برلين مع موسكو اتفاق مولوتوف – ريبنتروب، وهي معاهدة عدم الاعتداء شملت بروتوكولات في شأن التجارة وتقسيم أوروبا الشرقية. وبعد أن أفسحت حرب ساخنة في المجال للحرب الباردة، قام الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين والزعيم الصيني ماو تسي تونغ بتشكيل تحالف صيني – سوفياتي، مما أدى إلى مواءمة القوتين الشيوعيتين في معارضتهما للعالم الرأسمالي.
كانت هذه التحالفات التاريخية من بين أكثر الشراكات المختلة والمحكوم عليها بالفشل في التاريخ. وفي عديد من الحالات، كانت تلك [التفاهمات] عبارة عن هدنات موقتة بين خصمين يستميت كل منهما للقضاء على الآخر. لم يكن هناك بأي حال من الأحوال ما يشبه التعاون العميق والتعاطف الاستراتيجي اللذين يميزان التحالفات الأميركية اليوم. وهذا ليس مستغرباً، فالأنظمة الشريرة والطموحة مثل ألمانيا في عهد أدولف هتلر، والاتحاد السوفياتي في ظل ستالين، والصين خلال حكم ماو، لم يجمعها شيء أكثر من الرغبة في قلب العالم رأساً على عقب. ومع ذلك، فإن لهذا التاريخ قيمته لأنه يوضح كيف يمكن حتى لأقل الشراكات رسوخاً والمثقلة أكثر من غيرها بالتوتر، أن تمزق النظام القائم، وتولد ضغوطاً قوية لدعم المخططات العدوانية.
لم يكن اتفاق رابالو تحالفاً بكل معنى الكلمة، بل كان في الأساس بمثابة انفراج في أوروبا الشرقية، وهي المنطقة التي كان كل من ألمانيا والاتحاد السوفياتي يأملان بالتوسع فيها في نهاية المطاف. إلا أن الاتفاق والبروتوكولات السرية التي تضمنها أدت إلى تعزيز الابتكار العسكري التخريبي من جانب المنبوذين الدوليين، وخصوصاً ألمانيا. وفي مواقع تم إخفاؤها داخل الأراضي السوفياتية، بدأت ألمانيا في تطوير الدبابات والطائرات التي منعتها معاهدة فرساي من حيازتها، وأيضاً في بلورة المفاهيم التشغيلية التي ستستخدمها لاحقاً لتحقيق تأثير كبير. انهارت هذه الشراكة السرية عندما تولى هتلر السلطة، ولكن بعد أن وفرت له انطلاقة حيوية وفتاكة في إطار السباق الذي شهدته أوروبا لإعادة التسلح في ثلاثينيات القرن الـ20.
وقد ساعدت الاتفاقات الأخرى الساعية إلى تغيير الوضع القائم (التعديلية) على تقليل عواقب العدوان من خلال تخفيف العزلة التي كان من الممكن أن يواجهها المعتدون لولا ذلك. ومعاهدة مولوتوف – ريبنتروب، التي يشار إليها غالبا باسم “رابالو الجديد”، والتي وقعها هتلر وستالين عشية الحرب العالمية الثانية، استمرت أقل من عامين. ومع ذلك، خلال تلك الفترة القصيرة، قامت بحماية ألمانيا من تأثير الحصار البريطاني من خلال منحها إمكانية الوصول إلى الإمدادات الغذائية والمعادن وموارد الطاقة السوفياتية. إضافة إلى ذلك، فقد وفرت قناة يمكن لهتلر من خلالها الاستفادة من إمبراطورية اليابان المتوسعة في آسيا. سهل اتفاق مولوتوف – ريبنتروب توسع ألمانيا في جميع أنحاء أوروبا من خلال تحويل جزء كبير من أوراسيا بصورة فعالة إلى منطقة اقتصادية وراء الحدود بالنسبة إلى برلين.
لم يسهل ميثاق مولوتوف – ريبنتروب التوسع العدواني على جبهة واحدة فحسب، بل خفف أيضاً من التوترات على الجبهات الأخرى، وكان بمثابة معاهدة عدم اعتداء غذت على نحو متناقض العدوان الذي غير العالم. ومن خلال طمأنة هتلر إلى أنه قادر على مواصلة الصراع مع بولندا والديمقراطيات الغربية دون تدخل السوفيات، لعب الميثاق دوراً مهماً في إشعال شرارة الحرب العالمية الثانية في أوروبا. إضافة إلى ذلك، من خلال ضمان حرية ستالين في إعادة تشكيل محيطه دون تدخل برلين، شجع الاتفاق على الاستحواذ على الأراضي السوفياتية من فنلندا إلى بيسارابيا. لفترة حرجة مدتها عامين، خلق مولوتوف – ريبنتروب بيئة في أوروبا، حيث كانت القوى المفترسة دون عوائق من خلال تحريرها من خطر الصراع بين بعضها بعضاً.
كما عملت الاتفاقات “التعديلية” على تعزيز السلوك العدواني من خلال إيجاد سبل التضامن معاً في أوقات الأزمات. على سبيل المثال، كانت الشراكة بين ألمانيا النازية وإيطاليا متوترة في كثير من الأحيان. ولكن أثناء الأزمات المتعلقة بالنمسا وتشيكوسلوفاكيا في عام 1938، زادت ثقة هتلر لأن موسوليني، الذي كان في السابق ضد التوسع الألماني، أصبح يدعمه الآن. جعل هذا الدعم من الصعب على فرنسا والمملكة المتحدة اتخاذ إجراءات ضد عدوان هتلر. ويقدم التحالف الصيني – السوفياتي مثالاً آخر. فبعد التدخل الصيني في الحرب الكورية عام 1950، اضطرت الولايات المتحدة إلى كبح جماح تصرفاتها، مثل الامتناع عن مهاجمة أهداف في الصين، خوفاً من أن يؤدي القيام بذلك إلى صراع مع موسكو، التي كانت تدعم الصين.
وأخيراً، تمخضت التحالفات “التعديلية” عن تأثيرات مضاعفة من طريق توجيه ضربات للوضع الراهن على جبهات عدة في وقت واحد. في أعقاب المعاهدة الصينية السوفياتية، اتفق ستالين وماو على تقسيم الجهود الثورية: كثفت بكين جهودها من أجل الشيوعية في آسيا، في حين ركزت موسكو على أوروبا. هذا التقسيم للعمل أجبر واشنطن على الدخول في مناقشات صعبة حول تخصيص الموارد والأولويات. وحتى من دون التنسيق الرسمي، فإن التقدم الذي أحرزته إحدى القوى “التعديلية” خلق فرصاً للآخرين. على سبيل المثال، في أواخر الثلاثينيات، ترددت المملكة المتحدة في مواجهة ألمانيا بصورة حاسمة في أوروبا لأنها واجهت أيضاً تهديدات من إيطاليا في البحر الأبيض المتوسط واليابان في آسيا. لقد ساعدت تصرفات القوى الفاشية بعضها بعضاً عن غير قصد من خلال زعزعة استقرار نظام متوتر بالفعل بسبب عديد من التهديدات.
الاتفاقيات التعديلية الجديدة
إن دراسة الدمار الذي أحدثته التحالفات التعديلية السابقة يسلط الضوء على أهمية التحالفات الناشئة اليوم. وهذه التحالفات الحالية عديدة وتتعزز. ومن يذكر أن هناك شراكة متنامية بين الصين وروسيا، تجمع بين الدولتين الأكبر والأكثر طموحاً في أوراسيا. إضافة إلى ذلك، فإن علاقات روسيا الطويلة الأمد مع بيونغ يانغ وطهران تنطوي الآن على المساعدة والنفوذ المتبادلين. وتعمل الصين أيضاً على تعميق علاقاتها مع إيران، استكمالاً لتحالفها الطويل الأمد مع كوريا الشمالية. على مر السنين، تعاونت بيونغ يانغ وطهران في مساعٍ مختلفة، بما في ذلك تطوير الصواريخ والأنشطة التخريبية. وبدلاً من أن يكون تحالفاً تعديلياً فردياً، فهو عبارة عن شبكة معقدة من العلاقات بين القوى الاستبدادية ذات الهدف المشترك المتمثل في إعادة تشكيل مناطقها، بالتالي النظام العالمي.
وتستفيد هذه التحالفات من القرب الجغرافي. وخلافاً لما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما أعاقت المسافات الشاسعة والمحيطات المعادية التعاون بين ألمانيا واليابان، فإن روسيا والصين وكوريا الشمالية تشترك في حدود برية متجاورة. ويمكن لإيران أيضاً الوصول إلى روسيا عبر البحر الداخلي. وهذا القرب يسهل على القوى الرجعية في أوراسيا إقامة وتعزيز العلاقات. إضافة إلى ذلك، فإن الصراعات المستمرة، تدفع هذه الدول إلى التقارب معاً، تماماً كما دفعتهم الحرب في أوكرانيا إلى التقارب من خلال جعل روسيا أكثر اعتماداً على إخوانها المستبدين، وأشد استعداداً لعقد الصفقات معهم.
لهذه العلاقات حدودها. ولدى الصين وكوريا الشمالية وحدهما بين “التعديليين” الأوراسيين معاهدة دفاع رسمية. وعلى رغم أن التعاون العسكري آخذ في الارتفاع، فإن أياً من هذه الشراكات لا تقترب من مضاهاة حلف شمال الأطلسي من حيث قابلية التشغيل البيني أو التعاون المؤسسي. ويرجع جزء من السبب وراء ذلك إلى انتشار التوترات التاريخية وانعدام الثقة المتبادلة. على سبيل المثال، تؤكد الصين بصورة متقطعة على مطالباتها الإقليمية التي تعدها روسيا ملكاً لها. ومع ذلك، على رغم هذه التحديات، فإن التعاون بين القوى “التعديلية” يؤدي إلى بعض النتائج المألوفة.
لنأخذ على سبيل المثال الطريقة التي يحفز بها التعاون الصيني – الروسي الابتكار العسكري الذي يسبب الإخلال بالنظام. على رغم حظر الأسلحة الغربي المفروض على الصين منذ عام 1989، فإنها قامت بتحديث عسكري حطم أرقاماً قياسية، وقد استفادت في سياق تنفيذه من مشترياتها من الطائرات والصواريخ والدفاعات الجوية الروسية. واليوم، تسعى الصين وروسيا إلى القيام بمشاريع مشتركة لتطوير طائرات الهليكوبتر، والغواصات الهجومية التقليدية، والصواريخ، وأنظمة الإنذار المبكر بإطلاق الصواريخ. وينطوي تعاونهم على نحو متزايد على مشاريع إنتاج مشترك سرية ومبادرات لتقاسم التكنولوجيا، وهو ما يتجاوز مجرد نقل القدرات النهائية. إذا انخرطت الولايات المتحدة في صراع مع الصين في المستقبل، فإنها ستواجه خصماً عززت موسكو قدراته العسكرية بصورة كبيرة.
وفي غضون ذلك، تزدهر علاقات روسيا في مجال التكنولوجيا الدفاعية مع الأنظمة الاستبدادية الأخرى في أوراسيا. فقد زودت إيران، على سبيل المثال، روسيا صواريخ وطائرات مسيرة بغية استخدامها في أوكرانيا، بل وساعدتها في بناء منشآت قادرة على إنتاج هذه الطائرات من دون طيار على النطاق المطلوب للحرب الحديثة. وفي المقابل، تعهدت روسيا على ما يبدو تزويد إيران بأنظمة دفاع جوي متقدمة، وطائرات مقاتلة، وغيرها من القدرات التي يمكن أن تغير ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط المضطربة باستمرار. وعلى غرار الديناميكيات التي لوحظت خلال عصر رابالو، تساعد الدول التعديلية بعضها بعضاً بنشاط في بناء القدرات العسكرية اللازمة لتحدي النظام الدولي القائم.
ومرة أخرى، تعمل التحالفات التعديلية على خفض كلفة العدوان من خلال تخفيف العزلة الاستراتيجية التي قد يواجهها المعتدون لولا ذلك. وعلى رغم العقوبات الغربية والخسائر العسكرية الكبيرة، فقد واصلت روسيا صراعها في أوكرانيا بمساعدة طهران وبيونغ يانغ، اللتين قدمتا الطائرات المسيرة والقذائف والصواريخ. إضافة إلى ذلك، لعبت الصين دوراً حاسماً في الحفاظ على تماسك الاقتصاد الروسي من خلال استيعاب الصادرات الروسية وتزويد موسكو الرقائق الإلكترونية وغيرها من السلع الأساسية ذات الاستخدام المزدوج. وعلى غرار اعتماد هتلر ذات يوم على الموارد القادمة من أوراسيا للتحايل على الحصار البريطاني، يعتمد بوتين الآن على الصين للتخفيف من التداعيات الاقتصادية الناجمة عن المواجهة مع الغرب. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه مع قيام القوى التعديلية بتنمية شبكات مثل ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي يربط إيران وروسيا أو الكتلة التجارية والمالية الأوراسية التي تبنيها بكين لضمان بقاء تجارتها بعيدة من متناول واشنطن.
علاوة على ذلك، تزيد هذه التحالفات من احتمالات عدم الاستقرار العنيف في مناطق معينة من طريق الحد منها في مناطق أخرى. كانت الحدود بين الصين وروسيا في السابق واحدة من أكثر الحدود عسكرة في العالم. ومع ذلك، فقد أعفت اتفاقية عدم الاعتداء الضمنية اليوم بوتين من خطر الصراع مع الصين، مما سمح له بنشر جزء كبير من قواته العسكرية في أوكرانيا. وعلى نحو مماثل، أصبحت الصين قادرة على تبني موقف أكثر حزماً ضد المصالح الأميركية في المناطق البحرية في آسيا نظراً إلى ما تتمتع به من علاقات طيبة مع روسيا. وعلى عكس واشنطن، فإن بكين وموسكو لا تحتاجان بالضرورة إلى الانخراط في تعاون عسكري مباشر، على غرار الطريقة التي تتعاون بها واشنطن بصورة وثيقة مع حلفائها، لمواجهة النظام العالمي الليبرالي.
وفر هذه التحالفات أيضاً ميزة تخريبية أخرى من خلال تعزيز احتمالية التضامن بين المستبدين في أوقات الأزمات. فعلى مدى عقود من الزمن، أدى تحالف كوريا الشمالية مع الصين إلى منع واشنطن من الرد بصورة أكثر حزماً على استفزازات بيونغ يانغ. وفي الآونة الأخيرة، ربما يتأثر سلوك الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون العدواني على نحو متزايد بالتوقعات (سواء كان مبررة أو غير مبررة) بأن بوتين سيدعمه. وبالمثل، يمكن للشراكة العسكرية المتنامية بين طهران وموسكو أن تعطي إيران دعماً دبلوماسياً أقوى، وأسلحة أفضل، لكي تقاوم، في أي مواجهة مستقبلية حول البرنامج النووي الإيراني. إضافة إلى ذلك، تجري الصين وروسيا مناورات عسكرية مشتركة في المناطق التي يمكن أن تنشأ فيها صراعات، من بحر البلطيق إلى غرب المحيط الهادئ. قد تكون هذه الأنشطة بمثابة إشارة إلى أن إحدى القوى التعديلية لن تقف مكتوفة الأيدي، بينما تتعامل واشنطن مع قوة أخرى.
تستفيد القوى التعديلية من العلاقة التكافلية الضارة لأنها تقوض النظام الدولي من اتجاهات متعددة في وقت واحد. فروسيا منخرطة في عدوان على أوكرانيا وتشكل تهديداً لأوروبا الشرقية، في حين تنشر إيران ووكلاؤها اضطرابات عنيفة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ومن ناحية أخرى، تتزايد عدوانية الصين في منطقة المحيط الهادئ، في حين تعمل كوريا الشمالية على تطوير برامجها الصاروخية والنووية. ويعمل هذا السلوك الجماعي على تعزيز تصور واسع النطاق بأن النظام العالمي يتدهور. كما أنها تمثل تحديات كبيرة لواشنطن، كما يتضح من المناقشات الجارية داخل الولايات المتحدة في شأن الأولويات مثل أوكرانيا مقابل تايوان وإدارة الصراعات الحالية مقابل الاستعداد للصراعات المستقبلية المحتملة. على غرار الوضع خلال ثلاثينيات القرن الـ20، تدعم الأنظمة الاستبدادية في أوراسيا بعضها بعضاً من خلال إرهاق خصمها المشترك.
متاعب مقبلة
يصف المحللون الأميركيون أحياناً العلاقات بين خصوم الولايات المتحدة بأنها “تحالفات مصلحية”، وهذا يعني ضمناً أن الدبلوماسية الذكية يمكن أن تعجل بالطلاق [بين المتحالفين]. ومع ذلك، فإن مثل هذا الطلاق غير مرجح في المستقبل القريب. إن الأنظمة الاستبدادية في أوراسيا متحدة من خلال أسلوب الحكم غير الليبرالي فيها وعدائها المشترك لقوة الولايات المتحدة، بل إن التوترات الدولية المتزايدة تمنحها أسباباً أقوى لكي تدعم بعضها بعضاً. والواقع أن روسيا التي لا تزال معزولة عن الغرب لن يكون أمامها خيار سوى الدخول في شراكات مع الصين وإيران وكوريا الشمالية. قد تكون الولايات المتحدة قادرة، بصورة دورية، على إبطاء عملية [الدعم المتبادل] هذه، كما فعلت في الفترة 2022-2023 من خلال تهديد الصين بعقوبات قاسية إذا قدمت لروسيا مساعدة فتاكة في أوكرانيا، لكن ربما لا تستطيع أميركا عكس الاتجاه الأوسع من هذا التوجه. وحتى لو لم ترق علاقات التعديليين اليوم إلى مستوى تحالف أوراسي كامل، فلا يزال من الممكن أن تتطور بطرق تشكل تحديات كبيرة لقوة الولايات المتحدة.
ومن الممكن أن يؤدي التعاون الوثيق بين روسيا والصين إلى تقدم عسكري كبير. وتشير التقارير إلى أنه سيتم دمج التكنولوجيا الروسية في الغواصة الهجومية من الجيل التالي للصين، وإن كان ذلك من خلال عملية “الابتكار التقليدي” بدلاً من النقل المباشر للتكنولوجيا. وإذا زودت روسيا في نهاية المطاف الصين، التي لا تزال غواصاتها صاخبة وضعيفة، تكنولوجيا تهدئة متقدمة، فقد يؤدي ذلك إلى تقويض المزايا الأميركية في مجال لا تزال واشنطن تحافظ فيه على تفوقها على بكين. وبالمثل، يشعر المسؤولون الكوريون الجنوبيون بالقلق من أن شحنات الأسلحة الكورية الشمالية إلى روسيا يمكن أن تؤدي إلى مساعدة روسية لبرامج كوريا الشمالية الفضائية والنووية والصاروخية، مما قد يؤدي إلى تسريع تطورها بما يتجاوز ما يتوقعه المحللون الأميركيون. على نطاق أوسع، مع تطور التعاون العسكري من مجرد مبيعات الأسلحة الجاهزة إلى الإنتاج المشترك أو نقل التكنولوجيا، يصبح من الصعب على نحو متزايد رصده ويزيد من احتمال حدوث قفزات غير متوقعة في القدرات التي تفاجئ المراقبين الخارجيين.
كذلك يمكن أن يخلق التعديليون في أوراسيا مزيداً من المآزق من خلال التعاون بصورة أوثق أيام الأزمات. فإذا ما نشرت روسيا، على سبيل المثال، قوات بحرية في بحر الصين الشرقي وسط توترات شديدة بين الولايات المتحدة والصين، أو إذا بعثت موسكو وبكين سفناً إلى الخليج العربي أثناء أزمة بين إيران والغرب، فقد يجعلان مسرح العمليات أكثر تعقيداً بالنسبة إلى القوات الأميركية. ومن شأن هذا أن يزيد من خطر نشوب قتال مع أحد الأطراف قد يؤدي إلى تصعيد غير مرغوب فيه مع الأطراف الأخرى. علاوة على ذلك، قد تقدم يمكن القوى التعديلية المساعدة المباشرة لبعضها بعضاً في حالة نشوب صراع مباشر.
وفي حالة نشوب صراع صراع أميركي – صيني، يمكن لروسيا أن تنخرط في عمليات إلكترونية تستهدف الخدمات اللوجيستية والبنية التحتية الأميركية، مما يعقد قدرة واشنطن على حشد القوة والتخطيط لزجها في الصراع. ويمكن لقوة تعديلية واحدة أن تسد فجوات خطرة في القدرات، سواء من خلال إمداد جهة صديقة بالذخائر أو بتوفير المكونات الحيوية التي لا تعد مساعدات “فتاكة”، كما فعلت الصين مع روسيا في أوكرانيا. وبدلاً من ذلك، يمكنها أن تتبنى مواقف تهديدية من خلال نشر قواتها في مواقع استراتيجية. على سبيل المثال، لن يكون على روسيا في حال وقوع معركة بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن تحرك قواتها بطريقة تهديدية نحو أوروبا الشرقية لجعل واشنطن تأخذ في الاعتبار احتمال نشوب صراعات على جبهتين.
وفي حين أنه من غير المرجح أن تكون الأنظمة الاستبدادية في أوراسيا حريصة على التضحية بنفسها من أجل بعضها بعضاً، فمن المرجح أن تدرك أن النصر الأميركي الحاسم على إحداها من شأنه أن يجعل القوى المتبقية أكثر عرضة للخطر. ولذلك، قد يسعون إلى تعزيز مواقفهم من خلال دعم بعضهم بعضاً بصورة غير مباشرة، طالما أنهم يستطيعون القيام بذلك دون الدخول بصورة مباشرة وعلني في الصراع.
تأمل المستقبل
قد لا تتوافق الروابط بين القوى التعديلية في أوراسيا مع الفهم التقليدي للتحالفات، والتي يراها الأميركيون عادة، لكنها تسفر عن تأثيرات عديدة شبيهة بالتحالفات. هذه الديناميكية ليست أمراً سيئاً تماماً بالنسبة إلى واشنطن: فكلما تقارب خصوم الولايات المتحدة أكثر، كلما شوه سلوك أحدهم السيئ [صورة حلفائه] الآخرين. على سبيل المثال، منذ عام 2022، تراجعت مكانة الصين في أوروبا بسبب توافقها الوثيق مع تصرفات بوتين في أوكرانيا. وتكمن الفرصة في الاستفادة من اصطفاف الخصوم لتسريع جهود واشنطن في بناء التحالفات، على غرار الطريقة التي استخدمت بها الولايات المتحدة تداعيات الغزو الروسي لتعزيز فهم أكثر واقعية للصين في أوروبا. يعد هذا النهج الاستراتيجي أمراً بالغ الأهمية لأن الشراكات التعديلية الحالية تعمل على تعزيز حرية العمل والقدرات التي يتمتع بها منافسو الولايات المتحدة. يجب على الولايات المتحدة أن تتكيف مع عالم يؤدي فيه الترابط بين خصومها إلى تضخيم التحديات التي يمثلونها فردياً وجماعياً.
وهذا لا يطرح تحديات عملية فحسب، بل يطرح أيضاً تحديات فكرية وتحليلية. على سبيل المثال، قد تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم تقديراتها فيما يتعلق بوقت يستغرقه خصومها لتحقيق إنجازات عسكرية مهمة، مع الأخذ في الاعتبار المساعدة التي يتلقونها – أو التي من المحتمل أن يتلقوها – من حلفائهم. يجب على واشنطن أيضاً أن تعيد النظر في الافتراضات المتعلقة بمواجهة الخصوم بصورة فردية أثناء الأزمة أو الصراع، وأن تأخذ في الاعتبار الدعم – سواء كان سرياً أو علنياً، حركياً أو غير حركي، حماسياً أو متردداً – الذي يمكن أن تقدمه القوى التعديلية الأخرى مع تصاعد التوترات. علاوة على ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتصدى لاحتمال أن تؤدي العلاقات مع الخصوم إلى تعزيز صورة معينة من صور عولمة الصراع، إذ يمكن أن ينتهي الأمر بالبلاد إلى خوض صراعات إقليمية متعددة ومتشابكة ضد الخصوم الذين يتعاونون بطرق مهمة، ودقيقة في بعض الأحيان.
وأخيراً، ينبغي على المسؤولين الأميركيين التفكير في الكيفية التي يمكن أن تخضع بها الشراكات بين هؤلاء المنافسين لتحولات غير متوقعة أو وفق مسارات غير مستقيمة. وتقدم الأحداث الأخيرة دروساً قيمة. على رغم أن العلاقات الاستراتيجية الصينية – الروسية نشأت على مدى عقود من الزمن، إلا أن هذه العلاقة، إلى جانب اتصالات موسكو مع بيونغ يانغ وطهران، تعمقت بصورة كبيرة خلال الصراع في أوكرانيا. كيف يمكن لأزمة مستقبلية تتعلق بتايوان، وتؤدي إلى فرض عقوبات أميركية صارمة على الصين، أن تؤثر في تقييم بكين لكلف وفوائد تشكيل تحالف أقوى مع روسيا؟ وبدلاً من ذلك، كيف يمكن أن يؤدي مزيد من انهيار النظام في إحدى المناطق إلى إغراء القوى التعديلية لتصعيد أنشطتها في مناطق أخرى؟
إن النظر في مثل هذه السيناريوهات ينطوي حتماً على تكهنات. ومع ذلك، فهو بمثابة إجراء احترازي استراتيجي ضد مستقبل تستمر فيه العلاقات – التي تجاوز كثير منها بالفعل التوقعات الأميركية – في التطور في اتجاهات مثيرة للقلق. وفي السنوات المقبلة، قد يصبح التصدي للتحدي الذي يفرضه تحالف الخصم أمراً لا مفر منه على نحو متزايد. ومع ذلك، فإن مدى مفاجأة الولايات المتحدة ليس محدداً مسبقاً.
هال براندز هو أستاذ كرسي هنري كيسنجر المتميز للشؤون العالمية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة وزميل أول في معهد المشاريع الأميركية، وهو مؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان “القرن الأوراسي: الحروب الساخنة، والحروب الباردة، وصناعة العالم الحديث”
مترجم عن “فورين أفيرز” 29 مارس 2024
المصدر: انديندنت عربية